٭ قد يكون ذلك اللقاء التلفزيوني الذي اجرته قناة «الشروق» عبر مذيعها مأمون عثمان وبثته كل الفضائيات السودانية والاذاعة السودانية مع النائب الاول لرئيس الجمهورية الاستاذ علي عثمان محمد طه يوم الاثنين الماضي، قد يكون هذا اللقاء التلفزيوني بمثابة عبور تنفيذ السياسات والحزم الاقتصادية التي أقرتها الحكومة الى «بر الامان». وبدا الاستاذ علي عثمان محمد طه منشرحاً وهو يجيب على اسئلة المذيع مأمون عثمان، ويبدو أن هذا «الرضاء» الذي بدا واضحاً على وجه النائب الاول يدل على أن جهده الذي بذله داخل البرلمان بعد خطاب رئيس الجمهورية المتعلق بتلك السياسات الاقتصادية وحضوره شبه الدائم للجلسات التي ناقشت هذا الامر ومخاطبته اكثر من مرة للنواب، قد أتى أُكله، وان هذه السياسات وجدت تجاوباً اولاً من «نواب الشعب». ولكن يبرز السؤال: هل ستجد تلك السياسات عند تنفيذها التجاوب من «الشعب»؟ وكانت هذه المخاوف تنتاب قيادات المؤتمر الوطني قبل أن يذهب السيد الرئيس الى قبة البرلمان، وكان طبيعياً أن تجد هذه السياسات التجاوب من نواب الشعب باعتبار أن قبة البرلمان تضم في معظمها نواباً للمؤتمر الوطني ان كانوا من دوائر جغرافية او قوائم حزبية، بالاضافة الى عدد من النواب من القوى السياسية الاخرى المشاركة في الحكومة التي اتاح لها المؤتمر الوطني بعض الدوائر لتتنافس فيها لوحدها مثل بعض دوائر ام درمان التي تركها المؤتمر الوطني لتلك القوى مثل الدائرة التي فاز بها الدكتور الحبر يوسف نور الدائم من جماعة الإخوان المسلمين والدائرة التي فاز فيها د. الصادق الهادي من حزب الأمة القيادة الجماعية، والدائرة التي فاز بها عبد الله مسار من حزب الأمة الوطني، وبالتالي لم يكن هناك خوف من ان نواب الشعب سيجيزون هذه القرارات الاقتصادية، حتى ان النائب الاول اشار الى ذلك في حديثه للبرلمان عقب خطاب رئيس الجمهورية، حيث هتف «النواب» على غير العادة تكبيراً بإجازة هذه الحزمة من القرارات الاقتصادية، ولكن كان الخوف من «ردة» فعل الشارع السوداني على تلك «الحزمة» من القرارات، ومدى وقوة «رد الفعل» المتوقع. ورغم أن النظرية تقول «لكل فعل رد فعل مساوٍ له في القوة ومضاد له في الاتجاه» ورغم أن الحكومة تعلم أن هذا «الفعل» قوي ويؤثر على جميع شرائح الشعب، إلا انها «أغمضت عينها» وتوكلت على الله وأعلنت تلك الاجراءات وتحسبت «لرد الفعل»، خاصة أن مؤشرات وحسابات «المعارضة» أن هذه الحزم والقرارات الاقتصادية تمثل بداية «الربيع العربي» في السودان، وان الحكومة ستذهب الى «حتفها» بظلفها اذا اقدمت على زيادة المحروقات ونفذت تلك السياسات، خاصة ان المعارضة لديها احزاب متمرسة في العمل السياسي مثل الامة والشيوعي والشعبي، وان هذه القوى لو حركت كوادرها فقط في العاصمة القومية يمكن ان يتحول المناخ في الخرطوم من «خريف» الى «ربيع»، ولكن الشعب السوداني الذي كان يتابع هذا الأمر من خلال افعال «الحكومة» وأقوال «المعارضة» وما ينظر اليه من دول الربيع العربي، حسم هذا اللقاء القوي بين الحكومة والمعارضة، لصالح «الحكومة». ويبدو ان الشعب السوداني فضل حالة الغلاء وارتفاع الاسعار على ضياع الأمن والاستقرار، واعطى الحكومة فرصة «ثانية» وربما تكون «أخيرة» لاصلاح وضعها وترتيب اولوياتها، حتى لا تدخل في «زنقة» جديدة بسبب تلك العوامل السياسية ذات التأثير المباشر على الحالة الاقتصادية، وهذا هو الدرس المستفاد من واقع تجربة انفصال جنوب السودان الذي تم وفق تطبيق اتفاقية السلام التي وقعت في كينيا عام 5002م. ورغم علم الحكومة بأن نسبة الانفصال هى المتوقعة أكثر من الوحدة، وان الوضع سيكون مختلفاً جداً بعد تنفيذ الانفصال إلا أن الحكومة وعبر مؤسساتها لم تضع تقديراً صحيحاً لهذا الأمر، وإلا كانت المعالجة ستكون «أخف» من هذه وأقل ضرراً على المواطن من تلك الحالة التي يعيشها اليوم، ولكن الشعب السوداني ضغط على نفسه وقبل راضياً أن تمر تلك المعالجات الاقتصادية، لأن الغلاء وارتفاع الأسعار بحساباته افضل من ضياع الأمن وضياع الاستقرار، وبالتالي فإن الشعب السوداني يقدم درساً جديداً للحكومة في ترتيب الأولويات وتقديم «الاهم» على المهم، ومؤكد أن الاجراءات التي تمت في تقليل الانفاق وضبط الموارد و«تخسيس» جسم الحكومة المترهل بالاضافة الى رفع الدعم عن المحروقات، كان يمكن ان تتم في وقت مناسب جداً، وعلى الاقل قبل سنتين من الموعد المحدد للاستفتاء، وكان يمكن أن تكون الآثار الجانبية لهذه القرارات «خفيفة» على المواطن، ولكن الحكومة جاءت بحكومة القاعدة العريضة بعد أن ذهبت حكومة الوحدة الوطنية بانفصال الجنوب، وكأن الحكومة تريد ان تقول اذا ذهبت الحركة الشعبية فإن حزب الاتحادي الاصل وحزب الامة الاصل قد شاركا في الحكومة بفلذات اكبادهم «عبد الرحمن الصادق المهدي وجعفر الصادق الميرغني»، ولكن هذا لم يغير في الوضع السياسي شيئاً ولم يغير في الوضع الاقتصادي شيئاً، فلم تكسب الحكومة شعبية جديدة، ولم تفلح علاقات حزب الأمة مع ليبيا وايران مثلاً، وعلاقات الاتحادي بمصر والسعودية كما قيل إنها ستجلب المزيد من الموارد والاستثمارات، ولكن الظاهر من مشاركة «نجل» السيدين هما تدريبيهما واعدادهما ليكونا رجال دولة في المستقبل، وذلك ما لم يتغير الواقع الطائفي في السودان. إن ارتياح النائب الأول لرئيس الجمهورية في ذلك اللقاء وعلامات الرضاء من أن القرارات الاقتصادية «مرت» دون خسائر وتقبلها الشعب السوداني، تدل على أنه بمثل ما كان النائب الأول حريصاً وحضوراً ومتحدثاً من داخل البرلمان حتى يحث ويشعر «نواب الشعب» بأهمية هذه القرارات، فإنه يجب أن يكون مثل ذلك وأكثر مع «الشعب» الذي أعطاه ضوءاً أخضر في زمن تتكدس وتتزاحم فيه المشكلات الاقتصادية عليه، وإن كان النائب الأول قد قال ان تلك السياسات بدأت تؤتي أُكلها وان انفراجاً نسبياً قد حدث، فإن حالة الارتياح التي بدت على النائب الاول لرئيس الجمهورية الاستاذ علي عثمان محمد طه لا بد أن تعكس وتعمَّم على جميع الشعب السوداني. وواضح من هذه التطورات «إن الشعب قد انستر الدور والباقي على الحكومة».