اعتاد مواطنو العاصمة على رؤية بعض المتسولين واصحاب العاهات الجسدية وهم ينتشرون في الأسواق يستجدون عطف الناس وكرمهم، وكانت المساجد والاسواق ابرز المناطق المفضلة لدى هذه الشريحة، وأبرز المواقيت المحببة لديهم عقب صلاة الجمعة. وشهدت السنوات الاخيرة ازدياداً في أعداد المتسولين، كما تعددت أساليبهم لتشمل الروشتات ووصفات دواء، اذ يشير البعض الى وجود مريض في أمس الحاجة لثمن الدواء. وظاهرة التسول تحولت إلى مهنة بحد ذاتها ولم تعد نتيجة لحاجة مادية، إذ تتميز بإغرائها بواسطة الكسب السهل. وعلى الرغم من أن هذا الأمر ليس جديداً، إلاّ أن هناك من يحترف مهنة التسول، ونجد البعض يستقطب ذوي العاهات ويوفر لهم السكن والتنقل، الأمر الذي يبرهن على أنها مهنة منظمة، تدعمها عصابات تستغل المخالفين لنظام الإقامة والعمل. وعصابات التسول استثمرت إشارات المرور التي باتت في حالة احتلال من قبل المتسولين، اذ من السهل اصطياد المال من خلال معانقة زجاج السيارات.. «الصحافة» رصدت العديد من الحالات التف فيها المتسولون حول السيارات يتسابقون فيما بينهم لالتقاط أفضل أنواع السيارات المتوقفة على تلك الإشارة، آملين أن يكون أصحابها من الأغنياء حسب تفكير هؤلاء المتسولين، وبذلك يمكنهم الحصول على مبلغ أكبر.. وقد أصبح بعض المتسولين يتفننون في أساليب التسول. احد المتسولين يبلغ من العمر تقريبا «16» سنة، خرجنا به من محيط تشديد الرقابة عليهم ومنعهم من التحدث الى اي شخص كان، وكانت الساعة تتجه نحو الرابعة عصراً.. المكان احدى الكافتريات.. دخل «س» متسول وهو يتلفت يمنة ويسرى كأنه في فيلم أجنبي، وبدأ حديثه مشيراً الى ان المشرفين على تشغيل المتسولين يُعدون اختبارات قدرات خاصة للعاملين، وبموجب هذه القدرات يتم تحديد موقع كل متسول ومتسولة في كل مدينة وفي كل مكان عام، فمجموعة من المتسولين للأسواق، وآخرون عند أماكن التنزه، ومجموعات ممن توحي هيئتهم بالمرض يوضعون عند أبواب المستشفيات والمجمعات الطبية، وأخرى من النساء والأطفال مختصون بالتسول في الشوارع وعند إشارات المرور في الميادين العامة، ذاكراً أن المتسولين الموهوبين في التمثيل وسرعة البكاء وتغيير نبرات الصوت أثناء كلامهم يتم نشرهم في المساجد والجوامع، للتأثير على المصلين واستدرار عطفهم.. وصمت برهة من الزمن ليتلفت حوله ويتراجع خطوتين ليطلب مني «المحررة» الذهاب الى كاشير الكفتريا، أي كأننا زبائن، فقمت بتنفيذ ذلك ليلحق بي ويقول: جميع المتسولين يخضعون لرقابة خوفاً من التحدث مع احد ولمراقبة سير العمل، ليقاطع حديثنا مسؤول الكاشير منبهاً لنا لأخذ طلبنا، وواصل «س» حديثه قائلاً: «أنا انشققت من مجموعة للمتسولين فلم اتحمل سيطرة رئيس المجموعة على الأفراد وأخذه نسبة كبيرة مما يحصلون عليه دون تعب، لآخذ في اليوم الواحد 300 جنيه»، مضيفاً أن العمل استعداداً لرمضان يبدأ من شهر رجب وشعبان، من خلال الانتشار في الأماكن العامة والمساجد بشكل يختلف كثيراً عن بقية الشهور الأخرى، مشيراً إلى أنه تاب عن ممارسة التسول بعد أن سمع أحد أئمة المساجد يحذِّر منه، وينهى عنه ليعمل مع مقاول في موقع البناء . وقال الاستاذ الجامعي محمود أحمد حميدة: إن الأطفال الذين يدخلون عالم التسول منذ نعومة أظفارهم أكثر إلحاحاً من كبار السن، فأحدهم يقف بجوار سيارتك عند الإشارة وهو يحمل مناديل او علب لبان طارقا على زجاج نافذة السيارة بإلحاح ليحصل منك على المال، وعلى الرغم من أنك تحاول إقناعه بعدم إعطائه شيئاً، إلاّ أنه لا يغادر، بل ويواصل الإلحاح. واشار ياسر محجوب «طالب» الى انتشار طريقة تسول جديدة، فتجد أحدهم في هيئة لا تدل على أنه متسول، ويطلب منك التوقف للتحدث معه، وتعتقد أنه سيسألك عن مكان أو شارع فتقف معه، وتتفاجأ به يحكي لك حكاية عن حاجته لمبلغ بسيط يمكنه من متابعة مشواره، ولا يكاد يمضي يومان أو ثلاثة، حتى تصادف نفس الشخص في مكان آخر يحكي لك نفس الحكاية. وقد أخبرنا عدد من العاملين في المحلات التجارية في بعض الأسواق، بأن المتسول إذا امتلأت جيوبه بالنقود يظهر فجأة شخص من أبناء جنس المتسول، ويأخذ ما معه من نقود ويتركه في موقعه ليواصل عمله دون توقف. «التسول ظاهرة مشينة بحقنا بوصفنا مجتمع سودانياً له أخلاقه وعاداته وتقاليده وحكومة عليها مسؤولية حماية الطفل ورعايته» هكذا ابتدرت اسماء فتح الرحمن باحثة اجتماعية حديثها، مضيفة أن الجهات المسؤولة عن مكافحة التسول متعددة، فهي تضم إضافة لوزارة الشؤون الاجتماعية والعمل كلاً من وزارة الداخلية ووزارة السياحة ووزارة التربية.. فلماذا لا يقوم كل ذي دور بدوره في مكافحة هذه الظاهرة، والعمل على إيجاد حلول تكفل الحفاظ على الطفولة من التشوه النفسي الذي قد يصيب الأطفال من خلال تربية الشارع بقيمه الفاسدة وثقافته المادية والبعيدة عن كل ما هو جيد وأخلاقي، وبدراسة الظاهرة وازدياد أعداد المتسولين نشعر كأن الجهات المعنية قد أعمت العيون وصمَّت الآذان عن هذه الظاهرة الخطيرة.