شهد الأسبوع الفائت افتتاح مصنع سكر النيل الأبيض.. وهو المشروع الذي ثار حوله لغط كبير بعد أن تأجّل افتتاحه لأكثر من مرة بسبب عدم اكتمال كل التجهيزات التقنية.. وقد ضرب فيه وزير الصناعة عبد الوهاب عثمان مثالاً جيداً وغير مسبوق لتحمل المسؤولية، فتقدّم باستقالته من منصبه إلى رئيس الجمهورية معتبراً أنّه مسؤول بصورة مباشرة عما حدث من تقصير أحرج الدولة كلها.. رغم أنّه لم يتولّ الوزارة إلا قبل بضعة أشهر فقط من تاريخ الافتتاح المُعلن مسبقاً.. فتأجل الافتتاح لعدم وجود «نظام التشغيل» المطلوب الذي لم تستطع الشركة المقاولة شراءه باعتبار أنّه منتج أمريكي، والمعلوم أنّ واشنطن تفرض حظراً اقتصادياً على السودان منذ عام 1992م، علماً بأن ما حدث جاء متزامناً مع احتلال هجليج من قبل قوات الحركة الشعبية.. التى كلف إجلاؤها في ملحمة عسكرية ثمناً باهظاً من المال والرجال. لكنّ افتتاح مصنع النيل الأبيض كان ضوءاً ساطعاً وسط الظلام الاقتصادي المخيف الذي يرخي سدوله على السودان هذه الأيام.. بعد توقف البترول وعجز الموازنة والتضخم الكبير والمتزايد ورفع الدعم عن المحروقات.. الذي أدّى بدوره الى أزمة معيشية طاحنة.. تطحن المواطنين طحناً.. حيث ارتفعت أسعار السلع الاستهلاكية في شهر واحدٍ فقط «هو شهر يونيو» إلى 30%.. وارتفع سعر سلعة السكر بنسبة 37% بقرار حكومي.. رغم أنّ الرئيس البشير تعهد في البرلمان وأمام النواب بعدم زيادة أسعار السكر.. غير أن وزارة المالية أصدرت من جانبها قراراً برفع سعر كيلو السكر من 3.5 جنيه الى 4.8 جنيه.. ولهذا استبشر بعض المواطنين خيراً بافتتاح مصنع سكر النيل الأبيض قبل رمضان بأيام.. حيث يعتبر السكر السلعة الأهم في هذا الشهر الكريم.. ولا يكاد يستغني عنها بيت من البيوت السودانية.. وموسم رمضان يعقبه عيد الفطر المبارك الذي تزدادُ فيه نسبة استهلاك السكر بدرجة عالية في صناعة المخبوزات والعجائن التي يتميز بها المجتمع السوداني. ونحن حينما نكتب عن افتتاح هذا المصنع نستشعر القلق الذي يسود المدن والأرياف بسبب الزيادة الكبيرة في أسعار السكر في هذا الموسم الذي هو أكثر المواسم استهلاكاً لهذه السلعة المهمة.. وهي سلعة سياسية في المقام الأول قبل أن تكون سلعة اقتصادية أو استهلاكية.. فالسكر كان ومازال هو السلعة التي تدك عرش الحكومات وتهدد بقاءها في السلطة.. ففي عهد الرئيس الراحل جعفر نميري كانت زيادة سلعة السكر هي «كلمة السر» التي كانت تنتظرها الجماهير التي أعلنت نهاية عهده الذي استمر لستة عشر عاماً.. وعندما أعلن السيد الصادق المهدي رئيس وزراء الديمقراطية الثالثة عن زيادة سعر رطل السكر من خمسة قروش الى ثمانية قروش خرجت الجماهير في مواكب هادرة، وتضامنت الجمعية التأسيسية «البرلمان» مع المواطنين، مما جعل رئيس الوزراء يتراجع في خلال يومين فقط عن قرار الزيادة.. وفي عهد الإنقاذ هذا كانت الحكومة تقوم بتوزيع السكر على المواطنين عبر بطاقات تموينية تشرف عليها اللجان الشعبية في الأحياء حينما كانت سلعة السكر نادرة في الاسواق.. وبعد أن تمكنت الإنقاذ من الحكم عبر سياسة التمكين.. قامت بتطبيق سياسة «تحرير الاقتصاد».. وقامت بتحرير معظم السلع والخدمات.. لكنها كانت ومازالت تحكم قبضتها على سلعة السكر «فمازال السكر واحدة من أربع سلع حكومية تتحكم فيها الدولة ولم تتركها لسياسة التحرير ولا للتجار وهي السكر والمحروقات والكهرباء والماء».. ولم تحررها ضمن السلع الاخرى.. لأنّها تعلم تمام العلم أنّها سلعة سياسية.. قد تخسف بعرشها إذا تركتها للتجار.. ولكنَّ الحكومة في ذات الوقت لم تستطع أن تمنع نفسها من فرض الضرائب الباهظة مما جعل سعر جوال السكر يتضاعف ثلاث مرات من سعره عند الإنتاج.. بل ويقول بعض المراقبين الاقتصاديين إنّ سعر جوال السكر السوداني بعد تصديره إلى الخارج واستيراده مرة أخرى يكون أرخص من شرائه من الأسواق السودانية.. وهذا ينبئ عن معادلة اقتصادية معتلة.. إذ لا يعقل أن نكون الدولة الإفريقية والعربية الاكثر إنتاجاً للسكر.. وتكون سلعة السكر هي الأغلى سعراً عندنا من بين كل الدول الإفريقية والعربية!! لهذا يجب على الحكومة أن ترفع يدها المثقلة بالضرائب والجمارك والأتاوات عن سلعة السكر وعن السلع الاستهلاكية التي تدخل في أتون الحياة اليومية للمواطنين.. فبقاء الحكومات والأنظمة يتوقف على رضاء شعوبها عنها.. بل وأنّ تقدّم الدول يعتمد بصورة أساسية على التعاون بين الحكومات والشعوب.. ومن الطبيعي أنّ الشعوب لن تتعاون مع الحكومات التي لا تهتم بالمتطلبات الأساسية للحياة والتي لا غنى عنها لأيّ إنسان ليبقى على قيد الحياة .. ولا شكّ أنّ الأنظمة السياسية المستقرة لا تستقر بالخطب ولا بالصياح.. ولا يدوم حكمها بالوعود السراب أو التهديد والوعيد بالويل والثبور وعظائم الأمور.. فالعنتريات لا تقدم ولا تؤخر.. هذا إن لم تزد الأوضاع سوءاً.. بل وليس من الحكمة إظهار العضلات للجائع.. فهو يريد لقمة وليس لكمة.. بل وأثبتت دروس التاريخ المتتالية أنّ الناس لا يخافون إذا جاعوا.. لأنه لا يوجد لديهم ما يخشونه.. وقد بطلت فاعلية المثل الشهير «جوِّع كلبك يتبعك» بعد أن ثارت شعوب روما على القيصر.. وحينما رأى أحد وزراء القيصر الشعب وهو يقتحم القصر ويقتل أسرة قيصر الروم قال «ربما لم يجد الكلب ما يأكله.. فانقلب يأكل صاحبه».. فصارت مثلاً هي أيضاً.. لهذا لم تصنع العنتريات استقراراً في أيِّ بلدٍ من البلدان، فالاستقرار السياسي هو معادلة معقدة تدخل فيها عوامل اقتصادية ومجتمعية وسياسية وخدمية.. وتكون معادلة الاستقرار أكثر تعقيداً خاصة في دولة مثل السودان تتعدد فيه الأعراق والأديان وتتنوع فيه القبائل واللهجات والثقافات.. وتكثر فيه الأحزاب والتنظيمات السياسية.. فهو بهذا التعقيد يحتاج إلى معادلة استقرار خاصة تجمع بين كل تلك المكونات وتنسجها فيما بينها نسيجاً يجمع ولا يفرق.. يعطي ولا يمنع. إنّنا نعتقد أنّ سكر النيل الأبيض عمل جيد يمكن أن يسهم في استقرار الوطن.. ويكفي حاجته من هذه السلعة الحساسة.. لا سيما أنّ سعته الإنتاجية تصل الى «450» ألف طن من السكر في العام.. ولدى إدارة المصنع رغبة عارمة في إنتاج وتصدير الإيثانول بواقع «60» مليون متر مكعب سنوياً، وهو ما سيفتح باباً جديداً لضخ العملة الأجنبية مما سيسهم في تخفيض أسعار الدولار.. وبهذا فهو يفتحُ باباً جديداً من ابواب الأمل.. فتوقف النفط لا يعني نهاية الدنيا.. ولكن وبمزيد من التدبير يمكن أن نستعيض عن النفط بكثير من الموارد التي تزخر بها البلاد من أراضٍ شاسعة وخصبة ومياه وفيرة.. وحاجة البلاد للغذاء أكثر من حاجتها للبترول.. فهو سلعة يمكن الاستغناء عنها.. وبدونها عاش آباؤنا من قبلها وسيعيش أحفادنا من بعدها.. وليس مثل الغذاء الذي يحتاج له كل الناس في كل الأوقات.. وفي هذا المقام أذكر قصة ذات مغزى تستوجب على القائمين على الأمر التوقف عندها كثيراً.. حيثُ يشارك أحد رجال الأعمال الهولنديين أحد رجال الأعمال السودانيين في مزرعة لإنتاج البقوليات شمال الخرطوم، وعندما رأى الموسم مبشراً قال «إذا أتيت ببرميل بترول وبرميل فاصوليا خضراء وبسلة وعرضته في السوق لوجدت أن سعر برميل الفاصوليا والبسلة أعلى سعراً وأكثر طلباً، لأن حاجة الإنسان للغذاء تفوق حاجته لغيره».. وهي قصة تشير الى ما كتبناه ورددناه هنا مراراً وتكراراً من أن الإنتاج الزراعي هو المخرج الحقيقي لبلادنا من أزمتها هذه وكل أزماتها.. بجانب الترتيبات الإدارية الأخرى التي تتضمن محاربة الفساد.. وقد تحدثنا في هذا الأمر في مقالاتٍ سابقة وقتلناهُ كتابةً وتحليلاً.. وما نود أن نشير إليه هو أنّ محاربة الفساد هو الركن الثاني بعد مضاعفة الإنتاج.. لأن البنيان لن يبلغ تمامه إذا كان هنالك من يبني وينتج وهنالك من يهدم ويفسد.. ولكن ما نؤكده هنا هو أنّ الفساد ليس وقفاً ولا حكراً على الحكومة فقط، ففي القطاع الخاص يوجد فساد لا يمكن لديوان مراجع واحد ولا شركة مراجعة واحدة حصره.. وخير مثال لذلك ما اُصطلح على تسميتهم «الجوكية» في القطاع المصرفي الذين هددوا بعض البنوك بالانهيار.. بعد أن أخذوا أموال المودعين بصور ملتوية وضاربوا بها.. وخسروا المضاربات فلم يعيدوا الأرباح ولا أصول الأموال نفسها. وما نثيره هنا كانت قد أثارته الحكومة من قبلنا في كثير من المرات من أنها ستحارب الفساد وتجتزه من جذوره، ولكنها لم تفعل ذلك بالصورة المطلوبة، وتركت الحبل على الغارب، واستفحلت الأمور على ما هي عليه الآن .. ولهذا فإن الحكومة الآن تبدو أكثر جدية من ذي قبل، وأعلنت على لسان وزير العدل والمسؤول عن تطبيق القوانين أنها لن تدخر جهداً في محاربة الفساد والمفسدين بالحسم المطلوب.. ونحن من جانبنا نتساءل عن كل ما أعلنتموه والتزمتم به أمام المواطنين.. متى سيكون ذلك إن كنتم صادقين .. لأن كل ما أُعلن من قبل كان أحاديث عاصفة سرعان ما تبددت في الهواء وذرتها الرياح. وإننا نود أن نقول إن الحكومة إذا ما سارت على ذات النهج في التنمية والتوسع في الزراعة والصناعات الغذائية، فإنها ستنجو من الأزمة الحالية، وستحافظ على الأراضي الزراعية الخصبة بألا تبتلعها كثبان الرمال.. ولعلنا هنا يجب أن نشير إلى التقرير الذي أوضح أن ولاية نهر النيل قد بلغت نسبة التصحر فيها 69%، وهى تعتبر من الولايات التى تنتج الكثير من المحاصيل. وأخيراً فإننا نناشد الرئيس البشير مرة اخرى تحقيق الاصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي المطلوب، لأنه إذا صلح حال الحكم صلح حال الناس والوطن كله، وتلك هي مسؤوليته أمام الله والشعب والوطن.. ونذكر هنا مرة أخرى أن لحس السكر أفضل كثيراً من لحس الكوع، لأن ما ينفع الناس يمكث في الأرض وأما الزبد فيذهب جفاءً.