الشعبان في كل من شمال السودان وجنوب السودان هما في الأصل شعب واحد فرقت بينهما التوجهات السياسية والجهوية. فتاريخ السودان الموحد يبدأ بمملكة كوش (70-300) سنة قبل الميلاد وبعانخي وترهاقا قبل دخول العرب إلى السودان ثم التركية السابقة والمهدية والتركي الانجليزي المصري مروراً بالحكومات الوطنية حتى انفصال جنوب السودان في 9 يوليو عام 2011م. هذا التاريخ المشترك الطويل وحد الشعبين رغم اختلاف الجذور العرقية واللون والدين. هذا النضال المشترك أثر في وجدان ومزاج الشعبين حتى في طريقة التعامل والتفكير في شتى مناحي الحياة. فالعقلية والمزاج الذي يدير به المؤتمر الوطني شمال السودان لا يختلف عن العقلية والمزاج الذي تدير به الحركة الشعبية لتحرير السودان جنوب السودان. الشعبان تربطهما وشائج قوية ومتينة لا تستطيع الأنظمة الحاكمة فك عقدها بسهولة وبسرعة. وهي وشائج تفرض نفسها رغم مزاج هذه الأنظمة في البلدين ورغم تباعد الشعبين عرقياً ولونياً وديناً، فهما كالجسم الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له بقية الجسم بالحمى والسهر. فالأجواء والأزمات الاقتصادية والسياسية والأمنية التي تعيشها كل دولة تتأثر بها الدولة الأخرى. وفي ذلك يقول المحلل السياسي الدكتور أحمد الحاج «إن الناظر لتقارب الدولتين يجده في النتائج الكارثية في اقتصاد الدولتين الذي يمضي بشكل غير عادي إلى الخلف». فاقتصاد شمال السودان وصل الحد الذي أعلن فيه رئيس الجمهورية حزمة من اجراءات التقشف، كما تواجه جنوب السودان انهياراً اقتصادياً وإن لم يصل حد التقشف إلا أنه ماض إلى أسوأ حسب تقرير منظمة اكسفوم العاملة في جنوب السودان التي ذكرت أن جنوب السودان يواجه أسوأ أزمة انسانية بسبب الصراعات المستمرة حيث ارتفع معدل التضخم من 21.3% في فبراير عام 2012م إلى 80% في مايو من نفس العام. وما يجعلني أصدق هذا التقرير أن هذه المنظمة ظلت تعمل في جنوب السودان قبل عام 1983م وحتى الآن. فهي ملمة بكل صغيرة وكبيرة في جنوب السودان وتساهم في معالجة بعض هذه الأزمات. ان الدولتين تواجهان وضعاً اقتصادياً متردياً وان كنت لا أرى ما يراه الدكتور أحمد الحاج، فجنوب السودان لم يكن لديه اقتصاد أصلاً ولا توجد به وزارة تعنى بشؤون الاقتصاد، ولا استراتيجية اقتصادية محددة منذ الفترة الانتقالية وحتى العام الأول من الاستقلال. أما ميزانية دولة الجنوب فهي عبارة عن رقمين فقط هما 98% من عائدات البترول و2% من مساعدات الدول المانحة وهذه المساعدات لا تصل خزينة دولة الجنوب إذ يتم نهبها من قبل القيادات السياسية والعسكرية الحاكمة في الجنوب. أما عائدات الجمارك والضرائب بمختلف أنواعها فلا تدخل في ميزانية الدولة ولا يعرف أين تذهب هذه المبالغ. أما وزارة المالية والاقتصاد الوطني التي أوكل لها أمر الاقتصاد فهي منشغلة بأمر توزيع الكوتات وعقودات الأراضي لشركات وهمية وصفقات خاسرة وفاسدة مع مستثمرين أجانب والقيادات الحاكمة. دولة جنوب السودان كانت نائمة على عسل عائدات البترول ولم تضع بديلاً احتياطياً في حالة نضوب التبرول. إن الأزمة الاقتصادية الطاحنة في جنوب السودان الآن نتيجة اعتماد الدولة على مصدر واحد للايرادات فقد تناست الأراضي الشاسعة والمناخات المشجعة للزراعة، كانت الزراعة أن تكون مصدر ايرادات بديلة. على صعيد آخر لم تقم دولة الجنوب بحماية البترول والمحافظة على استمراريتها في تغذية الخزينة العامة وقد طبزت الدولة عينها بيدها بشن حرب على دولة الشمال وقفلت آبار البترول بأمرها. والمرء يتساءل لماذا دخلت دولة الجنوب في الحرب مع دولة الشمال وهي في بداية عامها الأول من الاستقلال؟!. إنه التسرع وعدم التعقل والجهل بنتائج الحرب. فالحرب تستنزف موارد الدول الغنية ناهيك عن موارد دولة استقلت حديثاً وتعتمد على مصدر دخل واحد. لقد ضلل رئيس دولة الجنوب بواسطة طبالين وأقنعوه بقفل آبار البترول وشن حرب على دولة الشمال. وقد أدرك رئيس دولة الجنوب خطأه بعد أن وقع الفأس على الرأس واعترف بأن مشروعات التنمية توقفت بسبب الخلافات مع شمال السودان. كان عليه أن يكون شجاعاً ويذكر السبب الثاني لتوقف مشروعات التنمية وهو سوء الادارة والفساد المستشري في دولته. فالأربعة مليار دولار المنهوبة بواسطة القيادات في دولته كانت كفيلة بتسيير بعض هذه المشاريع المتوقفة. كان الجيش الشعبي قبل اتفاقية نيفاشا يخوض حرب العصابات مع الجيش السوداني وهي حرب خاطفة لا تعتمد على أسلحة ثقيلة وتجهيزات لوجستية لأن العصابات هي التي تختار مكان وزمان الهجوم بأسلحة خفيفة ثم تنسحب بأسرع ما يمكن لمعرفتها بالأرض. هذا الوضع يختلف مع الحرب الشاملة التي تحتاج إلى تجهيزات لوجستية كاملة من معدات وعتاد واقتصاد قوي ومتنوع، فشمال السودان الذي اقتصاده أفضل من اقتصاد جنوب السودان تأثر بنتائج الحرب مع جنوب السودان وواجه عجزاً في ميزانيته. دولة جنوب السودان ما كان عليها أن تدخل الحرب مع شمال السودان في أول سنة من استقلالها لو كان هناك مستشارون عسكريون واقتصاديون ذوو خبرة ومعرفة في مسائل الحرب والاقتصاد. كان على دولة الجنوب أن تتواضع حتى تكسب ود الدول الجارة والصديقة وتقنع دول العالم أجمع بأنها دولة تحترم المواثيق والسلم العالمي. لقد ظهر عدم الاحترام في احتفالات العيد الأول للاستقلال التي لم يحضرها سوى رئيس دولة واحدة من دول العالم هو رئيس دولة يوغندا. لقد خسرت الدولتان اقتصادهما بسبب الحرب والنزاعات بينهما وليس أمامهما سوى التعاون لمواجهة الأزمات سوياً. وقد سمعنا كلاماً طيباً في مفاوضات المرحلة الثالثة بأديس أبابا بين وفدي التفاوض بين الدولتين وهو عدم الرجوع للقوة لتسوية الخلافات ومعالجة كافة القضايا بما يعيد الثقة والاحترام المتبادل. نعلم أن هناك تنظيمات وأقلام تعمل على افشال تقارب الدولتين وصرف النظر عن الوحدة الجاذبة إلا أنه في رأينا المتواضع لا بديل للشعبين سوى بناء علاقات حسن الجوار واجراء حوار موضوعي مرن لاعادة الثقة المفقودة.