إن مشكلة الحكم في السودان كبيرة ومعقدة وتتداخل فيها عوامل كثيرة ولها ابعاد تاريخية تلقي بظلال وألوان متعددة وانطباعات تحتاج منا للوقوف، وفي تأمل دقيق، لنقول ما هذا الذي يجري في السودان وهو لا يشبهنا؟ انها صورة قاتمة للبلاد وهي تتصدر قائمة الدول الافريقية من حيث ابتدارها للاستقلال من المستعمرين. لقد كنا نأمل في انطلاقة سباقة بين الامم لنقود حياة يُحتزى بها ونكون مثالا للآخرين.. ولكن الملاحظ اننا تقهقرنا الى الوراء كثيرا واصبحت الدول التي استقلت من بعدنا تحقق طموحات وتطلعات شعوبها بصورة افضل منا بكثير... ولقد خسئت قياداتنا منذ الاستقلال وانكمشت على نفسها في ضيق افق وانانية مفرطة وهي تدور حول كراسي الحكم لتحقيق اطماعها الذاتية سواء كانت هذه القيادات مدنية او عسكرية او خليطاً بينهما كما هو حال الانقاذ اليوم..! ولنخض في اعماق المشكل السوداني في الحكم فان السؤال الذي يطرح نفسه هو: ما هي مشكلة الحكم في السودان؟!!!! ولماذا اصبح السودان اشبه ببركان سياسي وهو يغلي من جميع اركانه؟!! فأين خميرة العكننة التي اججت الفتنة فيه وهزت جميع اركانه؟! اين موضع الخلل؟!! اذا نظرنا الى دارفور نجدها قد تمزقت واحتقنت بالاحقاد والمرارات التي يصعب على الزمان غسلها.. ونسأل الله ان يقيل عثرتها بادارتها الجديدة.. وجنوب كردفان التي اصبحت مأساة بلا خجل وهي ترزح تحت اليتم السياسي والامني.. وغرب كردفان التي مزقتها فوضى عدم الانضباط القبلي والتفلت الامني البائن وغياب هيبة الحكم والاعتداء على حقوق الآخرين باسلوب سافر تقشعر منه القلوب.. وهناك ابيي التي سامها خسف السياسة وافلاس حسن النوايا في البروتوكول العجيب ناهيك عن النيل الازرق وما فيها من تندرات (النجمة او الهجمة) وعقار وما ادراك ما عقار... ومن فوق ذلك شرق السودان المنسي من المركز لفترات طويلة وهو يعاني غيبوبة سياسية ولا ننسى كجبار والمناصير حل الله عقدتهم واخيرا حتى (بروتس) الجزيرة والتي بدأت تتململ وتمتعض لما اصابها في خاصرتها وهو مشروعها الذي ليس هو قوامها وحدها وانما للسودان كافة. لقد قصدت من هذا العرض العام لابين لكم ان السودان يكاد كله يكفهر ويقشعر جسده من سوء الحكم وضعف تدبير شؤون البلاد. فالخلل واضح ولا يضاء له مصباح.. ولكن لماذا لا تراجع الامور ويتم التصالح؟ ولماذا هذا الاستئثار القابض بدلا من الايثار؟ ولماذا هذه الكنكشة والتعتيم بدلا من السماحة والاعتراف بحق الغير؟ ولماذا نسيّر الدولة بلا كوابح ولا توجد لها مراجعات؟ الحكومة مسئولة لمن؟ للواحد القهار.. ان اسلوب الحكم الذي يسير على نمط لا اريكم الا ما ارى لا يقودنا في النهاية الا للربيع العربي وهذا ما اخشاه على بلادي لما فيها من إثنيات مختلفة قد تغير مجرى التظالم الى طابع عرقي في حالة الانفلات الامني المبني على تراكمات المظالم وانعاكاسات المعاملات الجائرة بسبب احتكار السلطة والمنافع لجهات محددة اذ بدأت تلوكها وتجترها العامة بأن كفة الميزان ترجح عن بينة لجهات بعينها وكأن الاطراف الاخرى لا قيمة لها.. انها محنة الحكم وضيق الافق والانكفاء على المصالح الذاتية الضيقة وغياب الحكم الراشد... وهذه الصورة تكشف عن ارهاصات لما هو آت وانني لأخشى منها ان يحدث ما هو غير منظور والميتة لا تسمع الصائح ولات حين مندم...! من الناحية التاريخية كان المستعمر الابيض يحكم افريقيا بحكم تقدمه العلمي والتقني وعدته وعتاده العسكري والفكري وتسخيره (لمكانيس) الافارقة لخدمة اغراضه.. وحينما انجلى الاستعمار توارثته الطبقة المتعلمة من اهل البلاد الذين تربوا تحت كنفه واستأثروا بكل شيء لهم ولأهلهم حتى اصبحوا استعمارا آخر في شكل وطني.. والآن جاء دور الشعوب لتقود حركة الحياة ومن غير وصاية من (خواجة او متخوجن) او ادعاء او ريادة او سبق في الفكر آيديولوجيا كان او جهويا.. ان فترة الوصاية قد انتهت سواء من الخواجة او الصفوة.. ان التطور الطبيعي للحياة البشرية وارتفاع نسبة الوعي العام لدى عامة الناس والنهضة التعليمية وانفجار المعلومة بسبب وسائل الاتصال المتطورة والمنتشرة، كل ذلك كفيل باعادة النظر في اسلوب الحكم.. ولم يعد هناك شخص او جهة يمكنها ان تفرض الوصاية على الآخرين وان تكون هي الملهمة او المعلمة وقد تلاحقت الكتوف حتى زادت عن حجم المدعين. ومن هذا المنطلق يستوجب الامر اعادة النظر في ا سلوب ادارة البلاد من حيث الاجهزة التشريفية و التنفيذية والقضائية ولا بد ان تكون هناك محاسبة فاعلة «Effective accountability» لتصحيح الاعوجاج البائن والخلل الذي ألم بالبلاد الى الاضطرابات الامنية التي ترتقي لمستوى الصوملة.. ولا يتم ذلك الا بالديمقراطية الحقة والتي لابد ان يسبقها مؤتمر جامع او اتفاق ما مع الاحزاب يشخص امراض البلاد في الحكم ويضع الدواء الشافي لعلة البلاد.. ان الاستخفاف بمكانة الآخرين والتقليل من شأنهم وقلة اهميتهم لهو امر غير مقبول وبلا شك سيفضي في النهاية لما هو مؤسف وغير مرغوب فيه. ان السودان قد عُرف من قبل ببلد التسامح في كل المجالات وبلد الشهامة والرجولة والانفتاح على الغير ولا نريد له ان ينقلب على عقبيه ليكون بلد الاحقاد والانتقامات. ان صورة الحكم القمئية القائمة اليوم انها تقوم باعداد مسرح جديد يخشاه العاقل ويتحسب له ذوو الحجا ويعملون له من التحوطات ما يدرؤون به عاقبة الامور. لقد طفح الفساد وقد نقلته لنا الصحف بما يزكم الانوف وقد اعترف به رئيس الدولة ما دعاه لتشكيل مفوضية لمكافحة افاعيل الفساد..!! فالذين يقومون بهذا الفساد هم بني الجبهة الاسلامية الذين لا يرقبون في الشعب السوداني الا ولا ذمة وهم شعب الله المختار ولهم ان يفعلوا في الشعب السوداني ما طاب لهم ما داموا هم في كراسي الحكم.. ان وجود حكومة بدون وجود جهاز او هيئة مقابلة لها يهدد وجودها في السلطة ويمكن ان يعمل على اسقاطها متى ما تبين خللها الواضح كما هو في الديمقراطيات عند حكومة الظل فان الامور سوف لا تستقيم ابدا وليس هناك اي فرصة لبيان الاعوجاج ولو حتى تم بيانه فليس هناك وسيلة تصحيح فاعلة لأن الفساد يصدر من كبار اجهزة الدولة الذين هم يتحكمون في ادارة الحكم. لقد قال الرئيس في احدى مقابلاته بقناة النيل الازرق عن الخدمة المدنية (بأنه لا محسوبية ولا وساطة ولا تدخلات سياسية وحزبية في الخدمة المدنية (بعد اليوم) وسترفع لجنة الاختيار للخدمة العامة الى مفوضية يكون المدخل للخدمة او كل وظائفها على كل مستويات ومجالات العمل مفتوحة للجميع بالتنافس الحر، حيث لا توجد اي اعتبارات اخرى تسهم في تلوين الخدمة العامة وتشل قدرتها.. هذا كلام جميل واعتراف).. بأن الخدمة المدنية بسبب التمكين اصابتها كل الامراض المطلوب تصحيحها في خطاب الرئيس هذا ولكن من الذي يقوم بهذا التصحيح والمؤتمر الوطني يهيمن على كل مفاصل الدولة.. اما (الخبوب) الذي تم تعيينه من قبل لم يذكر الرئيس شيئا عن كيفية التخلص منه.. الا يدري السيد الرئيس بأن هناك ما يعرف في الموازنة بما يسمى الميزانية على القاعدة الصفرية (Zero-base budget) والتي يتنافس فيها الموظفون على مقاعدهم التي يشغلونها الآن مع غيرهم لأنهم وصلوا إليها من قبل في غفلة من الزمان وعلى تغطية من الجهاز الحاكم؟ نشكر للرئيس انتقاده (للسياسات الخاطئة )التي انتهجتها الانقاذ وعملت على انفاذها دون اعتبار لنتائجها التي اضرت كثيرا بالمصلحة العامة للبلاد وشكلت ضربة مباشرة للوحدة الوطنية في صميمها، وخلقت نوعا من التفرقة بين المواطنين دون اي اعتبار ليس للاعراف وحدها ولكن في كثير من الاحايين للقوانين ذاتها ان لم نقل الاخلاق، انه اعتراف بالخطأ وهذا في حد ذاته جميل والرجوع الى الحق فضيلة.. اننا نتفق معك يا سيدي الرئيس اذا امتدت يد البطش الانقاذي الى الخدمة المدنية التي نعتز بكيانها السابق وادخلت ذوي الولاء وابعدت ذوي الخبرات والكفاءات.. وبذلك نكون قد افتقدنا تواصل الاجيال ونقل الخبرات حتى اصبحت الخدمة المدنية سوقا للمصالح واداء الخدمات ومكانا مفتوحا للتفاوض لاجراء عملية التسهيلات لمن اراد انجاز مهمة في دواوين الدولة، وحينما يتم الاعلان عن الوظائف يكون المعنيون قد تم اختيارهم مسبقا.. وهناك الاعلان عن العطاءات صوريا ويكون المعني وهو صاحب النعمة قد استلم العمل وباشر مهامه..!! ومن سخريات القدر انه لابد من تسجيل اسم القبيلة في ارنيك طلب الوظيفة حتى حسب الصينيين ان كلمة (شايقي) هي مؤهل علمي اضافي في السودان ومن لا يحمله هو دون الآخرين في التأهيل للعمل في البترول..!!! ألهذا جاءت الانقاذ لتحدث مسخا مشوها في حقوق العباد وصورة البلاد التي كنا نباهي بها الآخرين ويعتز بنا الاجانب اينما حللنا عندهم..؟!! انها محنة الحكم والاستئثار بالسلطة في السودان حتى ارتسمت الصورة القميئة لأسلوب ادارة البلاد...! بل يشكل ذلك اسوة سيئة للحاكم واستفزازا وتقززا للمحكومين (Mal-administration).. هذا الخلل حدث في الخدمة المدنية والعسكرية معا اما الذين يشغلون المناصب الدستورية فأمرهم ادهى وأمر لأن الخدمة المدنية ما كانت لتكون ما هي عليه اليوم ان لم يكن رب البيت للدف ضاربا..! واذا رجعنا للتنمية بالمقارنة بالمال المتوفر فإننا نسمع بها ولا نراها الا قليلا في الخرطوم ومروي لأن اكثر ممن 70% من الدخل القومي والقروض والمساعدات الخارجية يذهب لحفظ الامن وحفظ كراسي الحكم.! ولو تغيرت السياسات لما احتجنا للصرف على الامن بهذا الحجم ولتدفقت الاموال الى مجالات التنمية المختلفة ولظهر خيرها رفاهية على العباد.. فالتنمية هي عبارة عن عملية اقتصادية وثقافية واجتماعية وسياسية واخلاقية شاملة تستهدف ربط المواطن بأجهزة الحكم لما لهم من مصالح مشتركة تجعل من هذا المواطن ترسا في عجلة الحياة (Cog in a wheel) يتحمل نجاحات واخفاقات الحياة العامة ما دام هو جزء منها ومشارك فيها.. فالتنمية تسعى لتحسين اسلوب الحياة وترقيتها باستمرار تحقيقا لرفاهية السكان ورفع مستوى الحياة (Enhancement of the quality of life) للافراد والجماعات على اساس مشاركتهم النشطة والحرة والهادفة في الانتاج وفي التوزيع العادل للفوائد الناجمة عنها.. اما الآن فهناك اعداد غفيرة تقف على الرصيف اما محايدة او معادية فهلا استقطبناهم وادخلناهم في دائرة الانتاج والمشاركة في المسؤولية الجماعية وفعّلنا فيهم قدراتهم المعطلة او المستخدمة سالبا.. ان بلادنا ما زالت بخير وبالرغم من اننا نشكو من قلة الموارد وضعف الايرادات الا ان حقيقة الخلل ليس في حجم الايرادات وانما يكمن الامر في سوء استخدام الموارد (Mismanagement) .. واذا ما صحح هذا النظام امره فستكتشفون ان الموارد كانت مهولة الا ان التبديد الذي اصابها كان قاسيا عليها.. وحينما تنكشف هذه الغمة سيتضح لكم عجب الدغمسة في المال العام والاستهتار في استخدام الموارد الذي لا يعرف تحديدا للاولويات ولا كفاءة الاستخدام نفسه (Effectiveness & efficiency) ان الامر كله مرهون بغياب الجهاز المقابل للحكومة ليقول لها (إتلهي) وكفاية وساخات. فالذي طفح واصبح مرئيا في الصحف ليس هو اكثر من ظهور اذني الجمل وهو بارك ويا ما ظهرت فضائح يشيب لها الولدان خاصة مما كنا نحسبهم من اولياء الله الصالحين. ان الامر يتطلب مراجعة شاملة ومحاسبة قاسية لمدعي الطهر والعفاف في الوقت الذي هم يشكلون فيه بؤرة الفساد والافساد.. فالحكم ليس بلعب عيال والاماراة خزي وندامة يوم القيامة الا من اتى بحقها والعاقل من اتعظ بغيره فحاسبوا انفسكم قبل ان تحاسبوا وبما تدينوا تدانوا (Tit for fat).. ان هذا الشعب السوداني العظيم ارفع من ان يهان ولا يستحق الهوان والمرمطة التي يرزح فيها وباسم الدين (كمان) فهو اعفّ ممن ان يزل. انه يغمرنا الفرح والرجاء والبشرى بأن السودان سيتوجه نحو القبلة الصحيحة بإذن الله، حسبما جاء في لقائكم سيدي الرئيس بفضائية النيل الازرق.. ونعلم ان مهمتكم سيدي الرئيس ستكون اصعب لأنك الآن تسير عكس تيار الفساد والمفسدين وهي مهمة صعبة ويتعذر معها مقاتلتك لوحدك ونسأل الله ان يسخر معك من هو حادب على مصلحة هذه البلاد وهو في مركز السلطة علما بأن تيار الفساد فظيع وقوي وغير مأمون المواجهة وهذا حال الفطامة فأعمل والله نسأله ان يسدد خطاك ويوفقك لتصحيح إعوجاج البلاد وان كانت المهمة عسيرة فأنت لها.. فان اعناقنا تشرئب لنرى اصلاحاتكم المرتقبة ويحدونا الامل الكبير في ان تكفف عن مآقينا الدمع السخين الذي ذرفناه حسرة على ما آلت اليه هذه البلاد .. فهلا فعلت. * محافظ سابق