بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    شمس الدين كباشي يصل الفاو    لجنة تسييرية وكارثة جداوية؟!!    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    المريخ يتدرب بالصالة    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    بعد أزمة كلوب.. صلاح يصدم الأندية السعودية    الإمارات وأوكرانيا تنجزان مفاوضات اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة    ياسر عبدالرحمن العطا: يجب مواجهة طموحات دول الشر والمرتزقة العرب في الشتات – شاهد الفيديو    وزارة الخارجية القطرية: نعرب عن قلقنا البالغ من زيادة التصعيد في محيط مدينة الفاشر    المؤسس.. وقرار اكتشاف واستخراج الثروة المعدنية    البيان الختامي لملتقى البركل لتحالف حماية دارفور    الداخلية السودانية: سيذهب فريق مكون من المرور للنيجر لاستعادة هذه المسروقات    مدير شرطة ولاية النيل الأبيض يتفقد شرطة محلية كوستي والقسم الأوسط    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    تدرب على فترتين..المريخ يرفع من نسق تحضيراته بمعسكر الإسماعيلية    الزمالك يسحق دريمز في عقر داره ويصعد لنهائي الكونفيدرالية    سان جرمان بطلا للدوري الفرنسي.. وعينه على الثلاثية    إيران تحظر بث مسلسل "الحشاشين" المصري    شاهد بالفيديو.. سائق "حافلة" مواصلات سوداني في مصر يطرب مواطنيه الركاب بأحد شوارع القاهرة على أنغام أغنيات (الزنق والهجيج) السودانية ومتابعون: (كدة أوفر شديد والله)    السودان..توجيه للبرهان بشأن دول الجوار    شاهد بالصورة والفيديو.. طلاب كلية الطب بجامعة مأمون حميدة في تنزانيا يتخرجون على أنغام الإنشاد الترند (براؤون يا رسول الله)    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    شاهد بالصور.. بالفستان الأحمر.. الحسناء السودانية تسابيح دياب تخطف الأضواء على مواقع التواصل بإطلالة مثيرة ومتابعون: (هندية في شكل سودانية وصبجة السرور)    جبريل إبراهيم يقود وفد السودان إلى السعودية    تجارة المعاداة للسامية    يس علي يس يكتب: روابط الهلال.. بيضو وإنتو ساكتين..!!    رئيس حزب الأمة السوداني يعلق على خطوة موسى هلال    سرقة أمتعة عضو في «الكونجرس»    بايدن منتقداً ترامب في خطاب عشاء مراسلي البيت الأبيض: «غير ناضج»    تدمير دبابة "ميركافا" الإسرائيلية بتدريب لجيش مصر.. رسالة أم تهديد؟    حسين خوجلي يكتب: البرهان والعودة إلى الخرطوم    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    قوة المرور السريع بقطاع دورديب بالتعاون مع أهالي المنطقة ترقع الحفرة بالطريق الرئيسي والتي تعتبر مهدداً للسلامة المرورية    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    سوق العبيد الرقمية!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الوقوف عند أعتاب الذهول مع أمير تاج السر
(العطر الفرنسي) رواية التجول في مرايا الأحلام: (2)
نشر في الصحافة يوم 24 - 07 - 2012

ان ملامح رجل السلطة الموصوف فى الرواية حسب المشاهد السابقة هى انه:
1/نزواته الشخصية تحكم حتى مكتبه وخزانة اسراره فهو لا يتورع عن جعل اجنبية سكرتيرة له لمواصفات لا علاقة لها بالمؤهلات العملية والاخلاقية.
2/يعمل على بث الاشاعات الكاذبة وسط السكان الفقراء لالهائهم بها عن السلطة ويدفع رشوة مقابل ذلك ولا يتورع عن التصريح بتلك الاسرار العليا للدولة ببجاحة وتساهل لا يليقان برجل دولة.
3/يلجأ للرشوة لتحقيق اهدافه ، ويتصرف فى المال العام بلا حسيب او رقيب ، كأنه ظل الله فى الارض وتنمحى الحدود بين ماله الخاص والمال العام.
4/يخصص غرفة فى مبنى حكومى يسميها المخزن لنزواته الخاصة وغزواته فى عالم الحريم بشكل فاجر ومستفز الى حد جعل (على جرجار)يكفر بالوطن ، هنا نكتشف ان ما دفع على جرجار الى حافة الجنون ليس مرضا عضويا او نفسيا بل مثل هذه الصدمات المتتالية وبؤوس الواقع الذى يعيش فيه وعجزه فى ظل هذا كله عن عيش حياة طبيعية ، ان القوى العقلية والنفسية لعلى جرجار ذهبت ثمنا لمجون هولاء كما ذهبت صحته الجسدية واحلامه بالزواج والاستقرار والمياه العذبة فى بلاد نهر النيل ، ان صورة الرئيس فى غرفة الحكومى وهو يفتتح محطة تحلية المياه التى لم تنجح فى تحلية نقطة ماء هى وثيقة ادانة لنظام اجتماعى واقتصادى وسياسى قائم على اكذوبة ووهم يتم تغذيته بالاشاعات المنشورة بمقابل يدفع لناشريها ، ان كل ما تسوقه الحكومات من دعايات وامال كذوبة هو فى حقيقته اوهام واشاعات ضارة تقود الشعب الى حافة الجنون وهاوية الفقر كما قادت (على جرجار) ضمير الشعب الحى الى الجنون ان (على جرجار) الشاهد الصامت الذى يجول فى الامكنة ودواخل الشخوص ومواقع الاحداث ككاميرا متنقلة تنقل كل ما تراه ، لكنها تتوجع معه وتهتز وتخور قواها ، كأنى به حنظلة (ناجى العلى) بيديه المعقودتين خلف ظهره والأسلاك الشائكة المحيطة به وحجمه الضئيل يمارس محاكمته الموجعة لعصره وزبانيته ويعتصر من روحه المتصدعة احلاما بطعم النبيذ وحلاوة الشهد ، لا يكاد يتذوقها فى احلامه حنى تنبح الكلاب فى الاحلام وتطاردها بقسوة وتمزق ملابسه وأحشائه بحثا عن كل قطرة عسل رطبت شفاهه المتشققة ، ان (على جرجار) النازف حتى الموت دما ومشاعرا هو صورة مصغرة لأمة تتوجع وتداس بالأحذية الغليظة وتقهر ويعاد إحراقها كل صباح لكنها تنبت من جديد وهى تقاوم التصحر والموت مثل اشجار السيال والصبار فى صحارى السودان الموحشة ، أمة قد تدفع الى حافة الجنون لكنها لا تموت ولا تخون ولا تستسلم وتظل تقاوم وتحلم بالافضل ، لهذا كانت نهاية (على جرجار) هى التجول فى مدن الذهول والاستعاضة عن المدن الموبؤة بالمدن المشتهاة وعن الواقع بالأحلام . تطابق فعل على جرجار مع دعوته الاولى التى اطلقها مناديا بالسباحة فى الخيال لمواجهة الواقع الصلب والقاسى حيث أدرك ان تغييره ربما يكون افقا بعيدا لا تكفى سنوات عمره المتبقية لإدراكه ومشاهدته واقعا ملموسا ، ان (امير تاج السر) افلح فى تصوير العلاقة ما بين صعود نجم مبروك الحكومى وأفول وذبول العقل عند (على جرجار) الممثل الرسمى للمسحوقين ولعل تلك المفارقة الدرامية هى اجمل مافى الرواية من ابداع تصويرى مبتكر فى زاوية تناوله وطريقة قوله ، كلما إزدادت قبضة السلطة وجنون رموزها واستبدادهم ازدادت الرعية المغلوبة على امرها بؤوسا وشقاء وأنهارت قواها وزاد توقها الى التحرر وازداد صراعها بين ما هو كائن وما هو مشتهى حدة على نحو ما حدث لعلى جرجار الذى دفعه ذلك الصراع الى اعتلب الجنون ، فعلى جرجار أجتاحه اولا شعور حاد بالذنب تجاه من انعش امالهم من اهل حى غائب بناء على المعلومة الكاذبة التى سربها اليه مبروك الحكومى عمدا حول قدوم نجمة فرنسية للإقامة بذلك الحى فطفق اهل الحى بما فيهم هو ينسجون احلاما وردية للخلاص من حياتهم البائسة عبر بوابة العطر الفرنسى القادم من بعيد ليفتح امامهم ابواب امل جديد يبين فى الاخر انه سراب كاذب وانه مجرد خيوط عنكبوت وزعتها السلطة عمدا على الاهالى لتلهيهم بها وتعطل فعلهم الجرىء ان اوصدت كل الابواب فى وجوههم ، انه فن تعطيل الثورات وكبح جماح الشعوب الذى يجيده الحكام وادواتهم امثال (مبروك) الذى يحمل اسمه مفارقة مقصودة فهو فى الحقيقة (ملعون) وليس فيه ذرة من الخير ، والتلاعب بالاسماء ودلالاتها هو اسلوب جميل يلجأ اليه امير تاج السر فى العناوين واسماء الشخوص والامكنة فهى دوما توظف لخدمة النص ولا تحشر قسرا ولا ترد كيفما اتفق وتلك احد وجوه عبقرية امير الروائية
.صلاح الدين سر الختم علي
مروي
26/27/28/29
يونيو 2012
**أمير تاج السر روائي سوداني معاصر يعتبر أهم صوت روائي في المشهد الثقافي السوداني ، هو طبيب مقيم بالدوحة، وصدرت له مجموعة من الروايات المتميزة هي :نار الزغاريد/ كرمكول/ مرايا ساحلية/ زحف النمل/ توترات القبطي/ تعاطف/ العطر الفرنسي/ صائد اليرقات/مهر الصياح/ أرض السودان الحلو والمر. تتميز اعماله بثراء المواضيع وتنوعها وتنوع اساليب الكتابة ومدارسها بين عمل والآخر وداخل العمل الواحد. ترجمت بعض اعماله الي الفرنسية والانجليزية وهو كاتب غزير الانتاج.العطر الفرنسي صدرت في العام 2011 وتلتها روايته الأخيرة أرض .السودان الحلو والمر هذا العام
)2012)
الجزء الثاني
رواية (العطر الفرنسى) لامير تاج السر
رواية التجول في مرايا الأحلام والوقوف عند أعتاب الذهول
3/2/صلاح الدين سر الختم علي
الجزء الثانى
من الدراسة
المحور الثاني
دلالات الاسماء فى الرواية
من المفاتيح المهمة لقراءة الرواية التوقف عند دلالات الاسماء في الرواية وتوظيف الكاتب لها ، ابتداء من دلالة العنوان نفسه مرورا بالعناوين الجانبية وأسماء الامكنة والأشخاص ، عالم امير تاج السر الروائى يتميز بالغنى بالشخوص والأمكنة وكونها تلعب دورا وظيفيا مهما فى بنية النص والسرد
(العطر الفرنسى) هذا العنوان فيه إحالة ودلالات عديدة ، فالعطر هو أثر قصير العمر ، طارئ ، مؤقت لا يدوم طويلا مهما كان جذابا وجميلا ، وهو عنصر خارجى ليس من اصل الشيء بل هو مقحم عليه إقحاما لتغيير حقيقته تغييرا مؤقتا وليس دائم ليخدم استراتيجية او هدفا قصير المدى . العطر هنا و (المخدر) و (الافيون) سيان إذا ، جميعهم يلتقون فى كونهم يخلقوا شعورا لذيذا جميلا مؤقتا وزائفا تعقبه آلام لا حدود لها وأضرارا فادحة بالجسد ، فالعطور مركبات كيميائية ضارة بالبشرة فى الغالب الأعم وكذلك المخدرات بأنواعها حتى التى تستخدم استخداما حميدا هى ضارة بشكل ما . اما كون العطر فرنسيا فهذا تأكيد على المعنى الأول (كون العطر عنصرا خارجيا ليس من أصل الشيء) فضلا عن شهرة العطور الفرنسية بالجودة وقوة الأثر اللحظى لها وكونها ترتبط باللذة الحسية والجنسية وهى فى الآخر مرادف للتخدير والتأقيت العنوان إذا يهيئ الاذهان لموضوع الرواية وقضيتها المركزية التى كشفها مبروك الحكومى حين باح لعلى جرجار بأن الحكومة تدفع مالا لنشر الإشاعات وتوظف أشخاصا لتلك المهمة المقدسة مهمة (تغبيش الوعى الجمعى) و (إلهاء الشعوب) بقضايا إنصرافية مثل قضية قدوم نجمة فرنسية للإقامة فى حى فقير مغيب عن الحياة ، العنوان إذا إحالة الي قضية الرواية المركزية.وترد دلالة اخرى مهمة هى دلالة أسم البطل (على جرجار) جرجار فى العامية السودانية لها عدة معان:
1/فى لغة كرة القدم يقصد بها الشخص الموهوب موهبة عالية وصاحب القدرة على إختراق دفاعات الخصوم والجرجرة تعنى المحاورة وإلاختراق مهما كان الدفاع قويا. .
2/جرجرة الكلام تعنى ان الشخص صاحب قدرة عالية على إدارة الحوار الى جهات ومناطق لم تخطر ببال من بادره بالكلام ، وان الشخص الجرجار لديه القدرة على إنتزاع ما يريده من الاخرين من اعترافات عن طريق جرجرتهم الى المناطق التى يريدها ، وهناك معنى اخر هو ان الشخص كثير الكلام (ثرثارا) بالفصحى. .
3/المعنى الثالث قريب الى المعنيين السالفين ، وهو ان الشخص يجر الكلام جرا ، اى ان له قدرة على إستنطاق الكلام للوصول الى معانى جديدة. .
القاسم المشترك بين المعانى الثلاثة هو كون الشخص الموصوف بأنه (جرجار) هو شخص متوقد الذهن حاد الذكاء ، له قدرات عقلية عالية وله خيال فسيح ، وغالبا ما يكون الاشخاص أصحاب تلك المواهب مرهفى الشعور وإحساسهم بالأشياء وقدرتهم على الاستبصار أعلى من الآخرين وهذه الصفات مجتمعة هى صفات (على جرجار) فى الرواية ، فكأن الكاتب أراد القول انه أسم على مسمى . دلالة الاسم هنا تخدم النص وتشرحه وتفسره وتفسر المصير الفاجع الذى انتهى اليه صاحب الذهن المتوقد العبد الفقير (على جرجار) وهو ذات المصير الذى أنتهى اليه ثلاثة من اعظم مفكرى ومبدعى السودان (التجانى يوسف بشير ? ادريس جماع ? معاوية محمد نور) فعقولهم الوقادة قادتهم الى الذهول والمعاناة النفسية والعقلية ، اما رابعهم (على عبد اللطيف) قائد ثورة 1924 فقد انتهى به عقله الوقاد حبيسا بمصحة الامراض العقلية بالعباسية بجمهورية مصر العربية حتى وفاته بأمر المستعمر الذى زعم زورا انه قد جن لمجرد انه قاد ثورة للتحرر فى بلاده.
واتوقف هنا عند دلالة اسم (على) وتطابق اسم (على جرجار) مع اسم (على عبد اللطيف) فهل هى صدفة ان يتطابق الاسم ؟؟ أم ان ذلك هو توظيف للسيرة التاريخية للبطل (على عبد اللطيف) فى خدمة النص الادبى هنا ؟ هل هى ظلال التاريخ التى إعتاد (أمير تاج السر) على الكتابة تحت وهجها ام هى صدفة محضة ؟ مجرد تساؤل للتذوق وليس للاجابة والمقارنة وليس لليقين. .
هناك اسماء عديدة لشخصيات عديدة بلغت اكثر من الخمسين شخصية فى الرواية تميزت الاسماء بدلالاتها الموحية فهناك ملكة السكرتيرة الحبشية لمبروك الحكومى وهى ليست ملكة بل خادمة تعيسة تم إسترقاقها بواسطة الحكومى الذى القى بها فى خاتمة المطاف كالعظمة فى الشارع بعد ان قضى وطره منها. .
وهنالك (زهورات أرتو) الحبشية الاخرى التى هاجرت من بلادها حالمة بالثراء ، فتحولت هى الاخرى الى خادمة لحليمة الدجالة قارئة الكف . فهى إن كانت زهرة يوما ما فقد باتت زهرة ذابلة داستها الاقدام بقسوة . ويبدو (أميرتاج السر) فى هذه الرواية مفتونا بتتبع مصائر المهاجرات التعيسات المستجيرات من الرمضاء بالناروهو هنا يلامس أزمة الإنسان الأفريقي المطارد بالتمييز والاضطهاد أينما حل. .
وهناك (حكيم النبوى) او (حكيم المايكرفون) استاذ التاريخ الثرثار الذى لا يحمل من اسمه شيئا فلا هو حكيم ولا هو نبى ، بل تبدو صفة المايكرفون التى الحقها الاهالى باسمه متناسبة مع وظيفته السرية التى كشف عنها مبروك الحكومى لعلى جرجار فوظيفة استاذ التاريخ السابق السرية هى كونه بوقا مأجورا للدعاية الحكومية الموجهة.
هنالك اسماء اخرى كثيرة فى الرواية لها دلالات خاصة مثل (ركشة) بائع الثلج (تنقو) بائع الايس كريم و(موسى خاطر) رجل الامن الذى لا يحمل من اسمه هو الاخر شيئا ، وهنالك (ايمن الحضارى) فتى الكمبيوتر فى حى غائب ، وهنالك (شاكر تعيس) و (منعم شمعة) تاجر الشنطة و (فرفور) المغنى و (كبرى) لاعب الكرة و (عبد الله جنى) السياسى المعارض و (حواء سخطة) المغنية. .
فكل اسم من هذه الاسماء الواردة فى الرواية له دلالاته وتوظيفه فى النص.
وتضيف الاسماء بما تحمله من ايحاءات زخما وحيوية للرواية وتجعلها مهرجانا شعبيا كامل الدسم ومتنوعا تنوعا فريدا مطابقا لواقع المجتمع السودانى وحى غائب الفقير القابع على هامش المدينة والحياة . ويستخدم الكاتب التكنيك نفسه فيما يتعلق بأسماء الامكنة فى الرواية ، فحى غائب يحمل اسما له دلالة واضحة على كونه يمثل فئات المهمشين والمسحوقين اللذين سقطوا من ذاكرة الحكام والأنظمة ولكنهم يرفضون ذلك الاسقاط والتغييب فنلمس حضورهم الطاغى فى الرواية المطابق لحضورهم فى الحياة ، انهم يصنعون مهرجانا فريدا للحياة عند اعتاب الموت ، فايمن الحضارى مثلا هو ابن شهيد من شهداء حرب الجنوب نشأ يتيما فى كنف اهل حى غائب الذين تعهدوه بالرعاية والتعليم حتى بات ملما بعلوم الكمبيوتر ويكسب عيشه عن طريق تلك المعرفة واصبح يمثل طاقة معرفة وصلة بالعالم الخارجى لاهل حى غائب ، ان ايمن الحضارى نبتة نمت فى الصخر وزهرة تفتحت فى الوحل معطية املا جديدا لأهل حى غائب الذين يمثلون الامة كلها فى إمكان بزوغ فجر جديد ، إذا قارنا ايمن الحضارى بالفرنسية نجد انه امل حقيقى وموجود فى المكان بينما الفرنسية عبارة عن وهم كاذب ولا وجود له فى المكان.
هناك اسم برج (التوبة) الذى تم إطلاقه على ارض كانت كنيسة هو تجسيد آخر لدلالة الاسم ، تجسيد يعتمد المفارقة للبوح بمغزاه ، فالتوبة لا تحتاج الى التعدى على عقائد الاخرين ولا التطاول فى البنيان بل تأتى عبر الالتزام بجوهر الدين والاعمال الصالحة، اسم برج (التوبة) فى الحقيقة هو كاريكاتير ساخر يسخر من خلاله المؤلف من التعصب والجهل .
المحور الثالث
محورقضية الإستعلاء والتعصب الديني والثقافي في الرواية
تتميز الإعمال الأدبية العظيمة فوق كونها تأتى بالجديد من حيث القالب الفنى وطرائق السرد والبناء ، بأنها تخاطب القضايا المركزية فى عصرها ومجتمعها ويوجد دوما بداخلها صدى ورصد لتلك التحولات الكبيرة التى تجرى أمام الأعين دون ان يلحظها الناس أو معظمهم على الأقل ، رواية (العطر الفرنسى) قارب فيها المؤلف قضية التعصب الدينى ومظاهر الاستعلاء الدينى والعرقى والثقافى فى بلد متعدد الأديان والثقافات والأعراق كالسودان ، قاربت الرواية تلك القضية المحورية مقاربة ذكية واحتوت الرواية على مظاهر ومشاهد مختارة ومكتوبة بعناية وحرفية عالية ومنتزعة بدقة من قلب المجتمع السودانى المعاصر فى ربع القرن الأخير سعيا لطرح الموضوع على بساط البحث من زاوية مختلفة من زاوية الرؤية المستهلكة سياسيا وإعلاميا والتى تختزل الموضوع فى شعارات جوفاء لا تسمن ولا تغنى ولا تعالج المشكلة بقدر ما تصب الزيت على النار وتزيد الاستقطاب الجارى حدة وضراوة ، حيث تتناول الرواية الموضوع بصورة شفافة من جانبه الانسانى واليومى المباشر فى تجلياته الموجعة وتأثيراته على الذوات الانسانية والأمكنة التى تكف داخل النص عن أن تكون مجرد أمكنة بل تمسى ذواتا لها قيم ثقافية وروحية عظيمة ، ولا تعود تلك الأمكنة مجرد حجارة صماء ومبان تحمل أسماء ووظائف محددة مثل (الكنيسة) (المقهى) (القبور) بل تمسى شخوصا من شخوص الرواية تمشى وتتنفس وتتألم ، بذلك الفعل الجرىء تخاطب الرواية ابتداء من سطورها الأولى حتى نهايتها (المسكوت عنه) و(المغطغط) بالعامية السودانية وترفع عنه الستر والحجب وتسمى الأشياء بأسمائها لتضع القارئ المتلقي أينما كان أمام حقيقة ما جرى ويجرى فى السودان من صراع ومن طمس متعمد او غير متعمد لبعض الهويات الثقافية والدينية والعرقية ، انه ملف حساس والطريق اليه مفروش بسوء الظن وسؤ الفهم والألغام والحساسيات والأفكار المسبقة والحروب التى وضعت أوزارها وما زال حريقها مستمرا والحروب التى لا تزال مستعرة ، لكنه ملف رئيس لابد للرواية من ملامسته ومخاطبته وتشريحه تشريحا قاسيا وموجعا كما فعل (أمير تاج السر) فى رائعته (العطر الفرنسى) ليس بغرض الوقوف مع هذا الجانب ضد ذلك الجانب بقدر ما ان الغرض هو التأثير على الوعى الجمعى للمتصارعين إيجابا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.