هنالك في دوحة العرب في دولة قطر..يتقطر إبداع سوداني خالص من خيالات الأديب السوداني الدكتور/ أمير تاج السر.. الذي لم تشغله ممارسة مهنة الطب والتخصص في الباطنية ونيل زمالة هذا التخصص من كبري الجامعات البريطانية في أن يقدّم سنوياً إنتاجاً روائياً يبرز في كل مرة فيه وجه جديد يشكل مدرسة(أمير) الروائية التي تعتمد على عكس الواقع في صور ملونة بخيال خصب يغوص بالقارئ إلى مكامن الهدف الروائي بطريقة ذكية تتجسد فيها كل مراحل السيناريو الروائي من اقتباس( اللهجة الدارجية) إلى حوار قصير ورشيق وصولاً إلى معالجة تجعل القارئ يتجول مع شخوص الرواية في الأمكنة ويعيش الزمان، فهو يتقمص وجدانياً الموقف ويحوله بطريقته الخاصة إلى مادة روائية دسمة. .... الآن يقدم( أمير) أكثر من عشرة روايات لعالم الرواية العربية أولها ( كرمكول) في بداية ثمانيات القرن الماضي وآخرها العطر الفرنسي قبل شهور من الآن وقبل الخوض في الكتابة عن رواية العطر الفرنسي لابّد من بيان العوامل المشكلة لمدرسة (أمير) الروائية التي يمكن إجمالها في عناصر متعددة أولها شاعرية هذا الروائي، فقد بدأ شاعراً وكان شعره يأخذ شكل الرواية وكتب الشعر الغنائي وأدي قصائده فناني الشرق حيدر بورتسودان وعادل مسلم حيث التقي بهما في مدينة بورتسودان بحكم نشأة (أمير) في هذه المدينة التي كتب عنها رواية ( مرايا ساحلية) وهي ليست سيرة ذاتية بقدر ماهي وصف لهذه المدينة وشخصياتها النمطية وسوقها في ثمانينات القرن الماضي، نعود ونؤكد أن بروز الدكتور أمير تاج السر كشاعر ساهم في رشاقة عباراته وتناغمها والتعبير عن معنى كبير بجملة قصيرة، أما العامل الثاني فيتمثل في تخصص (أمير) في مهنة الطب التي قادته إلى أماكن نائية في السودان وجعلته في احتكاك دائم مع أنماط متعددة من البشر فاختلط بهم وعبّر عنهم في كثير من كتاباته وتجده كثير المعرفة بثقافات القبائل السودانية وعاداتها ولاتحس وهو يحدثك عن تفاصيل دقيقة عن هذه العادات أنه في اغتراب عن السودان لأكثر من خمسة عشر عاماً، إنَ مايختزنه (أمير) عن فترة عمله طبيباً في مستشفيات السودان أكثر بكثير مما ظهر في رواياته، أما العامل الثالث فهو مرتبط بشخصية كاتبنا حيث يرتبط بذاكرة حادة تجعله يختزن المواقف لمدة طويلة فهو يمكن أن يصف لك مثلاً رحلة له بالقطار من بورتسودان إلى الخرطوم وهوفى سن الدراسة بتفاصيل دقيقة ويحفظ أسماء شخصيات التقاها في القطار مصادفة منذ ثلاثين عاماً وهذه خصائص مكنته من إنتاج غزير للرواية على خلفية هذا المخزن الكبير من الأحداث التي يمكن أن يضعها في قوالب من خيالاته الخصبة فيكون المنتوج رواية جديدة في مكتبته المتميزة، أما العامل الرابع الذي شكل مدرسة (أمير) تاج السر الروائية من وجهة نظري فهو اطلاعه المستمر على الإنتاج الروائي العالمي، فالقارئ لمقالاته الراتبة في جريدة الصباح التونسية يلحظ مدى احتكاكه بالأدب الانجليزي وأدباء أفريقيا وأمريكا الجنوبية هذا الأمر جعله يقف عن أسلوب الخطة الكتابية للرواية العالمية والقضايا التي يطرحها الأدب العالمي ومما يقود للعامل الخامس المشكل لهذه المدرسة الروائية وهو القبول الكبير الذي وجدته ترجمات روايات (أمير) للناطقين بالانجليزية والفرنسية والدعوات التي تصل إلى هذا الروائي من أوربا وأفريقيا تؤكد أنه وصل بالأدب السوداني إلى العالمية امتداداً للأدباء السودانيين الذين وصلوا هذه المرحلة. إنّ مدرسة (أمير تاج السر) الروائية ماكان لها أن تكتمل بهذه الصورة الجميلة لولا السمات الشخصية لهذا الكاتب وهنا أتذكر مقالاً نعى فيه الدكتور حسن أبشر الطيب صديقه الروائي الطيب صالح عندما كتب أن الأستاذ الطيب صالح مثقف بأعظم مايحمل هذا المصطلح من معان ولعل ( السير دوجلاس نيوبولد) صاحب المحاضرة الشهيرة ( الوجه الإنساني للثقافة) التي قدمها في حفل افتتاح دار الثقافة بالخرطوم في مايو 1994م لو عاش لوجد ذلك النموذج الرفيع الذي تحدث عنه في الطيب صالح، يقول( نيوبولد) إنّ أهمّ المكونات الضرورية لشخصية الإنسان المثقف هي صفة( الإنسانية) إذ لا أستطيع أن أصف إنسانا بأنه مثقف لو لم تكن لديه هذه الصفة، والإنسانية تتمثل في أربع صفات ، رحابة الخيال، التسامح، البساطة ، وروح الدعابة، فالخيال هو الصفة التي يضيفها الإنسان الذكي إلى مايقرأ أو مايكتب لكي يزداد فهماً له، ولكي يجعله أقرب إلى الحياة والواقع، أما التسامح فإنّ المثقف يري أن الحقيقة أمر نسبي وأن الجمال يشبه قوس قزح في تعداد ألوانه ، انتهي حديث (نيوبولد) ومضي الطيب صالح وفي دواخله هذه المعاني ولكنه تركها قيما عند سلوك ابن شقيقته الروائي أمير تاج السر الذي تشعر عندما تتحدث إليه أنه( متواضع) أكثر مما ينبغي ، وكما عاش خاله بلا مزاعم كما ذكر الدكتور/ عبد الله علي إبراهيم فإنّ (أمير تاج السر) يعيش الآن بلا مزاعم في الدوحة إنّ رواية العطر الفرنسي تحكي قصة فتاة فرنسية اسمها( كاتيا كادويلى) ستأتي إلى حي سماه الروائي حي(غائب) وستقيم من أجل إعداد دراسة عالمية، وصول إرهاصات حضور الفرنسية واستعداد أهل الحي شكلّت أحداث الرواية فيمضي ( على جرجار) أحد أبطال الرواية مشيداً بحضورها في حي( غائب) الذي قال عنه( أمير) وهو يصف بيت جرجار ( كان بيته في وسط الحي تقريباً. بيتاً كسائر البيوت ، نصفه من طين ونصفه من خشب مشقق، الذين أنشأوا الحي فيما مضي، أنشأوه هكذا.. كانوا راعين سطوة الفقر علي حياتهم ومهوسين بغرسه في النطف حتي لايموت أبداً ، حتى اسم غائب الذي يعني عدم الوجود أو الانمحاء ، لم يأت من فراغ أو سذاجة ، إنه الاسم الذي اتفق عليه الجميع ، وهم يضعون اللبنات الأولي في بناء الحي ، وحين جاءت أجيال بعد ذلك ، طرقت التعليم، أو عرفت سكة السفر إلى بلاد الخليج العربي وأوربا ،، وعادت ، لم تحاول أن ترمم حائطاً مشقوقاً، أو تدفن حفرة يمكن أن تبتلع أحداً أو حتي تمد يد المساعدة بطريق معوج ليستقيم) ويغوض (أمير تاج السر) من خلال النص في تفاصيل الحياة السودانية ففي كل مدينة سودانية تجد منطقة متاخمة يمثلها حي (غائب) حيث تسكن أعراق متعددة في انسجام وتعايش وبساطة رغم انعدام الخدمات ولكن رغم ذلك تظهر علامات (العولمة) فايمن الحضاري ابن حي غائب مشغول دوماً في البحث في الانترنت وجاءت عن طريقه معلومات غزيرة عن( كاتيا) المتوقع حضورها إلى الحي وهنالك ( معنصم شمعة) تاجر الشنطة المسافر دائماً أو العائد من سفره والذي يجلب لحي غائب ماهو منعدم في متاجر المدينة، ويعمقّ أمير قيم أهل السودان عندما يعبر عن ارتباط أبناء الأحياء الراقية بهذا الحي فيكتب عن عيادة اللورد سيف التي ظلت مظلمة لعامين كاملين اثر وفاة مؤسسها الدكتور/ سيف خليفة بمرض مفاجئي فقد كانت العيادة الوحيدة في حي لايغرى طبيباً بافتتاح عيادته فيها ، وحين جاء سيف منذ عشر سنوات اثر عودته من اغتراب طويل في بلاد اليمن ، طاف بالحي بعربته ( اللادا) وقرأ بعينية وخبرته ، لم يفزع أو يفر استأجر بيتاً في وسطه وصمم عيادة غريبة لم تقل لفقير اذهب، ولارفضت مداواة مغص كلوي، أو استفراغ أمعاء لأن صاحبه بلا مال.. كان سيف في الواقع طبيباً فريداً ، أخاله لم يكسب قرشاً واحداً من حي غائب ، لكنه كسب مودة من الجميع ، سموه اللورد سيف انتهكوا حتي قيلولته وموائد غدائه وعشائه في حي البساتين في قلب المدينة حيث يقيم وبكوه بمرارة حين مات بمرضه المفاجئ . إنّ التركيبة السكانية لحي غائب تمثل ظاهرة اجتماعية وثقافية يتسم بها السودان دون غيره من الأقطار وتقدم هذا البلد في صورتها الحقيقية التي تجسّد التعايش بين معتنقي الديانات المتعددة، وبذلك تسلك الرواية بعداً سياسياً في تفسير الأحداث وتخاطب الرأي العام العالمي عن طريق هذه الصورة الرائعة من التسامح الديني في السودان. إنّ رواية( العطر الفرنسي) في مجملها تصور احتفاء الإنسان السوداني بالضيف وتعبّر عن كم من التقدير للإنسان الأوربي ومن جهة ثانية تبرز الرواية قيم تقبل الآخرين في الثقافة السودانية حتي ولو أختلف الدين واللون واللغة..فما الذي يجعل (عركى ) صاحب الدكانة في حي غائب يكتب لوحة انيقة عنواناً لمتجره مكتوب عيها (كاتيا) باللغة العربية والانجليزية.. إنّ عركي يمثل المجتمع السوداني الذي يحمل ذات شعوره لايعرف التطرف.. ولا التعصب الديني ورغم ذلك نقول لكل قاعدة شواذ ولم يقف الأمر عند هذا الحد وباذياد وتيرة استعداد.... حي غائب لحضور(كاتيا) صنع علي جرجار دمية تشبه الفرنسية القادمة واختل عقله لدرجة أنه صدّق أن هذه الدمية هي(كاتيا) حتي قال فى أحد نصوص الرواية كنا نقترب من شهر العسل ، حين اتفقنا أنا وكاتيا في صوت واحد، أن نعلن زواجنا رسميا ، نوثقه بكل المواثيق ، ونظهر في الحي والمدينة كلها، جنباً إلى جنب كما يظهر الاذواج لقد انتشرت صور (كاتيا) في الحي وتزوجها علي جرجار قبل أن تحضر وينتظرها ميخا ميخائيل وانتقي لها (منعم شمعة) عطراً خاصاً..حدث كل ذلك قبل أن تحضر إلى الحي.. فائّ احتفاء هذا!!! الذي يحدث في حي(غائب) عن ترجمة العطر الفرنسي للغة الفرنسية يحكي تاج السر أنه صادف وجود البروفسير البلجيكي ( لوفان إكزافيه) الذى يهتم بالأدب العربى بالتحديد وسعي للبحث عن الكتّاب السودانيين وراسلهم طالباً ترجمة أعمالهم ، وراسلني بالفعل وترجم ثلاثة فصول من( مهر الصياح) وثلاث فصول أيضاً من (زحف النمل) وقدّم المشروعين ، وكنت في تلك اللحظة انتهيت من ( العطر الفرنسي) فأخبرته عنها فطلب إرسالها ، وابلغني أن القصة والعنوان تنطبق عليها شروط المسارعة بنشرها حيث قامت دار( لامارتان) بنشرها وخلال الفترة من فبراير وحتي يونيو 2010م تمّ توزيع أكثر من (15) ألف نسخة في اوربا. إنّ المترجم البلجيكي زار السودان خصيصاً ليعيش أجواء الرواية ونلاحظ أن غلاف الطبعة الفرنسية عبارة عن صور العربية فقد قام بإنتاج الغلاف التشكيلي السوداني فيصل تاج السر الشقيق الأصغر لصاحب العطر الفرنسي وقد عبّر عن حي (غائب) في عمله الفني باستخدام ألوان بسيطة.. لكنها منسجمة ومتعددة تعدد الأعراق فى حى (غائب) إنّ ( العطر الفرنسي) تمثل نقطة تحول في مسيرة أمير تاج السر الروائية فبعد نجاح الترجمة الفرنسية تجري الآن الترجمة الانجليزية ويسمو اسم تاج السر في سماء أوربا.. وينشغل القراء بهذه الأعمال..أما (أمير) فانه يضع( سماعته الطبية) بعد نهار عمل شاق ويجلس في بهو فندق( رمادة) بالدوحة مساء حيث يستمتع أن يكون أمام جهاز الحاسوب المحمول فهو لايحب الكتابة بالقلم.. ونحن في انتظار أن يقدم لنا حاسوبه روايته الجديدة التي يستعد هذه الأيام لنشرها( صائد اليرقات) التي تتحدث عن رجل أمن متقاعد يحاول أن يكتب رواية من خلال تفاصيل دقيقة ننتظرها قريباً.. *عميد كلية تنمية المجتمع جامعة وادي النيل