تشهد البلاد فى الأيام المقبلة تحولاً سياسياً كبيراً بتشكيل حكومتين متباينتين قومية وأخرى لجنوب السودان على أسس جديدة تاريخية، وذلك بعد مرور ربع قرن من الحكم الشمولى والانتقالى الذى أطرته اتفاقية السلام الشامل. وتأتى هذه التحولات نتيجة لمتطلبات الاتفاق، وتكملة لما تبقى من بنود اتفاق السلام الشامل CPA، وتنفيذها لبرامج الوحدة الجاذبة والإشراف على عملية الاستفتاء كأهم واجباتها فى تلك الفترة القصيرة. وينتج الوضع القادم حكومة قومية مشكوك في نزاهتها من قبل المعارضة، وقد وضح ذلك من التصريحات المسبقة لقادة الأحزاب التى قاطعت الانتخابات، واللاحقة التى شاركت فيها، عليه سنشهد معارضة لديها أحكامها، وبرامجها المعطلة لمشروعات الوحدة الجاذبة، وكل ما يتطلع إليه الرئيس المنتخب من مشروعات.. وذلك للصراعات الماضية والتاريخية مع المؤتمر الوطنى التى عمرها أكثر من ربع قرن. وقد وضح ذلك من تحالف أحزاب المعارضة فى جوبا على تسمية مرشح واحد لمنافسة المرشح عمر البشير، الى جانب سعيهم لإسقاط مرشحي المؤتمر الوطنى فى كل المستويات، كما بدأت بعضها بمقاطعة الانتخابات مشكلةً بوادر أزمات محتملة للحكومة على الرغم من تصريحات بعض قيادات المؤتمر بأهمية مشاركتها ورغبتهم فى تشكيل حكومة وطنية متجانسة.. إن الإدراك المبكر لكافة القوى السياسية بفوز المؤتمر الوطني في الشمال والحركة الشعبية فى الجنوب يعظم من فرص استثمار التحديات الخارجية، خاصة بالنسبة لحكومة المؤتمر الوطنى وهى مقدمة كافية لتأكيدهم على استمرار الأوضاع المتأزمة، على الرغم من تأييد القوى الغربية والدولية لها، واقرارهم بالمؤسسات الدستورية وتشكيلتها، وبالقوانين والنظم التى تؤسس للتحول السياسي، وموافقتهم حتى اللحظة الأخيرة من بداية الاقتراع على المشاركة مما يؤشر الى عدم التعويل عليها كثيراً فى تحسين الأوضاع. علماً بأن الدول الغربية والمؤسسات التى تهيمن عليها تعمل فى اتجاه معادٍ للحكومة في الشمال واستخدامها للتحديات السابقة التى تتمثل فى التحدى الأمريكى بوضع السودان فى قائمة الدول الراعية للإرهاب، والحصار الاقتصادى، اتهامات المحكمة الجنائية، سلام دارفور، والأطماع الدولية فى المياه ومشاكل الحدود.. هذه الملفات لم تحسم، ولا تتغير بتغير النظام السياسى او القيادة السياسية فى السودان، كما أن تداعياتها مستمرة ومتنامية ومتنقلة من حكومة الى اخرى وان كانت ديمقراطية، حيث لم تلمح الدول الغربية بأية وعود لمعالجة تلك التحديات، او ابداء رغبتها فى تحسين علاقاتها وتنميتها بعد إجراء هذا التحول المهم الذى يغير الانقاذ ويعطيها شرعية دستورية بعد أن كانت شرعية ثورية، اذن سوف تستخدم الدول الغربية ذات الاتهامات كأداة ضغط على الحكومة المنتخبة الجديدة، ودعم كافة مقولات المعارضة الشمالية إعلاميا ومعنويا لاضعاف الحكومة ولتمرير كافة اجندتها من توقيع لاتفاقيات سلام اخرى على قرار نيفاشا تحقق بها اهدافها التى استعصت عليها عند حكم الانقاذ، والتى تقوم على التفكيك وإعادة التركيب وفق منهج الفوضى الخلاَّقة وتجزئة الدول الكبرى.. ومن خلال حكومة غير متجانسة ومتناقضة ومتصارعة فى توجهاتها الاستراتيجية وغير مدعومة خارجياً ولا مسنودة داخلياً. أما فى الجنوب سوف تظهر حكومة قوية ذات تعاون ودعم دوليين، وتماسك داخلى مقدر أي بدون منافسة او معارضة للحركة الشعبية، وذلك نتيجة للإنجاز الذى حققته لإنسان الجنوب الذى تمثل فى اتفاق السلام ووقف الحرب، وما تضمنه من نصوص اعادت لهم حقوقهم ومنحتهم حريتهم، كما تجلب لهم مشروعات متعددة واردة فى برنامج الوحدة الجاذبة المقترح الذى سوف تنفذه الحكومة المنتخبة. لكن هل تتمكن الحكومتان من انجاز تلك المشروعات فى تلك الفترة المتبقية والتى تقدر باقل من عام؟ وهل تسمح لهم القوى الداخلية والخارجية؟ وقد ادارت الحركة الشعبية الجنوب فى الفترة الانتقالية بالشكل الذى اسس لها السيطرة والفوز فى الانتخابات.. الى جانب ادراك التنظيمات الجنوبية واجماعهم الضمنى والصريح بفوائد الاتفاقية واهمية الالتزام بها حتى حين. وقد عكست الانتخابات جدية الأحزاب الجنوبية وتوحد رؤاها فى تحقيق هدفهم الاستراتيجى الذى منحته لهم الاتفاقية وهو الاستفتاء فى بداية 2011م، لذلك لم نشهد انسحابات من المنافسة او مقاطعه لاية مرحلة من مراحل العملية الانتخابية، فالجميع شارك على الرغم من التهديد والاغتيالات والشكاوى، مما يدفع بكافة القوى السياسية للمشاركة بشكل او بآخر فى الحكومة القادمة، وهذا يوضح مدى الالتفاف حول القضايا المصيرية عكس الذى يحدث فى الشمال من صراعات واشتراطات دون تفهم لحقيقة وطبيعة العلاقة بين المؤتمر والحركة والدور العالمى المرتجى منهما. ودون تقدير للمسؤولية التاريخية الملقاة على تلك التنظيمات والتكتلات السياسية. وتشير ملامح الوضع الجديد الى بروز ازمات جديدة بعد أن استبشر الناس خيرا بتقارب الاسلاميين فى الانتخابات، مما يستدعى تكوين حكومة وطنية صادقة لمواجهة تحديات الاستفتاء والانفصال والتدخل الخارجى، لا حكومة تصريف أعمال اتفاق نيفاشا. إن المؤشرات جمعيها لا تقود لخير هذه الأمة، وأن المخاطر سوف تعصف بالجميع حكومة ومعارضة، مشاركين فى الانتخابات أومقاطعين كلياً او جزئياً، فيجب على الجميع إدراك ذلك والعمل سوياً بدون استخدام الإثارة والشماتة التى لا تنفع فى هذا الوقت، فالجميع رحبوا باتفاق نيفاشا، والكل فى مؤتمر اسمرا او ابوجا.. وافق على منح الجنوب حق تقرير المصير، إذن الكل مشترك ومساهم فى مال إليه حال البلاد والعباد، فلا بد من مخرج يشترك فيه الكل ايضاً. وتتطلب المرحلة القادمة بشكل عام من التنظيمات السياسية السودانية استخدام الموضوعية والعقلانية فى سلوكها وممارستها للعملية السياسية فى البلاد، على اعتبار أن النظام السياسى فى اتجاهه الى التغير الى نظام قائم على اسس ديمقراطية وفق منظومة نيفاشا، مما يستدعى مراجعات مهمة للخطاب السياسى لها، وتحديد توجهاته الداخلية والخارجية، وتقوية ممارستها للمؤسسية، كما يتطلب من المؤتمر الوطنى بشكل خاص وعاجل، باعتباره حزب الاغلبية البرلمانية حتى وقت كتابة هذا المقال، السعى الجاد لإجراء تحالفات استراتيجية لا تكتيكية، وادارة حوارات واسعة، وذلك لاعتبارات قوة القانون الذى أرسته نيفاشا وتأثيره، وقوة المعارضة التى اتسعت قاعدتها لتشمل المؤتمر الشعبى والاتحادى الاصل وربما هنالك آخرون.. والسند الخارجى المتوقع لها، الى جانب دعم الحركة الشعبية لها. ان التداول السياسى فى البلاد أصبح ذا طابع مؤسسى ومنظم وفق القانون والدستور وليس بالادارة الشمولية، فالأوضاع تغيرت وتدار بقوة القانون لا قانون القوة. ولا بد من ادراك ذلك واحداث مراجعات داخل الحزب وإعادة النظر فى هياكل التنظيم الذى كان يدير الدولة بمفرده، ورفدها بقيادات أكثر قبولاً وتفهماً لمتطلبات المرحلة الديمقراطية لا الشمولية، حمايةً لمصالحه وتمتيناً للتجربة وانجاحاً للفترة الأولى من حكمه، حتى تتسنى للجماهير إعادة الثقة فيه وانتخابه والتجديد له بولاية اخرى. لقد نجح المواطن السوداني فى تجاوز امتحان الانتخابات وممارسة حقة بامتياز وبشهادة المراقبين الدوليين والمحليين، فهل تتمكن القيادات السياسية منهم من تكرار ذات النجاح من خلال ممارستهم للسلطة التى أتاحتها لهم اتفاقية نيفاشا فى تجاوز مخاطر الفترة المقبلة ونقل البلاد الى مرافئ السلام الحقيقي، وتشكيل حكومة متجانسة وطنية دون اشكالات؟ وهل تتفهم الحركة الشعبية الشريك الثانى المؤتمن على الاتفاق، بأن الوقت قد نفد وأن الجدية والتمسك بالاتفاق والالتزام بحقوقه ومتطلباته مقدم على المصالح التكتيكية؟ ٭ أستاذ العلوم السياسية بالمركز الدبلوماسي وزارة الخارجية.