تتطلب عملية التحول السياسي التى شهدتها البلاد أخيراً، إجراء العديد من المتابعات العلمية من دراسات وأبحاث ومشاركات صحفية وإعلامية مختلفة، تناقش وتستجلى الأبعاد المختلفة الداخلة فيها لمعرفة أسبابها وتداعياتها، وتوثيق مراحلها، واستشراف مستقبلها. وشكلت عناصر القوة الدولية السودانية التى تتمثل فى الموقع الاستراتيجى، واحتياطى الموارد الطبيعية، والبنيات التحتية الاستراتيجية المتنامية، منذ القدم، إهتمام القوة العظمي متعددة وثنائية وأحادية. ولقد تعرض السودان على إثرها للعديد من الهجمات والتدخلات التي هددت وحدتة وسلامة أراضيه وأدخلته أتون أزمات مازالت تأثيراتها مستمرة، مستغلةً سوء توزيع وتخصيص الموارد، وضعف عمليات التخطيط الاستراتيجى وخاصة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وتعاظم دور الولاياتالمتحدة في الشأن الدولي الذي اعتمد على آراء وتوجهات المحافظين الجدد. ومثلث عملية سلام جنوب السودان أول اختبار لهؤلاء المحافظين الجدد لتنفيذ مخططاتهم إزاء البلاد، بعد أن فشلت كل محاولات تفكيكها وإضعافها من الداخل أو الخارج. وفي المقابل تصدت لتلك الهجمات على الدوام، جبهة داخلية ضعيفة ومتباينة سياسياً وفكرياً، حيث لم تستطع أن تفصل فى خلافاتها المستمرة بين الخاص والعام، الاستراتيجي والتكتيكي، مما أضاع فرصاً عديدة كادت تمكن من الالتحام الوطني في مواجهة تلك التهديدات الخارجية. وحاولت اتفاقية السلام الشامل صياغة معالجات لأزمات السودان بشكل شامل، وبناء السودان الجديد، دون ان يحدد الاتفاق بوضوح ملامح ذلك السودان الجديد، كما واجه بعض العقبات مثل المواقف الغربية الداعمة للحركة، وتعارض توجهات الشريكين فكرياً وايديولوجياً، مما أفرز العديد من التحديات التي أعاقت البرنامج التنفيذي والجداول الزمنية للاتفاق، ومن خلال هذا سعت الولاياتالمتحدة للتدخل في كل مراحل الاتفاق صياغةً وتنظيماً ورعايةً ودعماً من اجل تحقيق استراتيجيتها، حيث واصلت سياستها المكملة لخطى الإدارة البريطانية الاستعمارية السابقة التى مهدت لهذه المرحلة الآنية من خلال سن قانون المناطق المقفولة وممارسته بشكل عزز من فرص الانفصال. وصاغت الولاياتالمتحدة استراتيجيتها الأخيره تجاه السودان على ضوء مجموعة من المطالب القديمة المتجددة التى تقوم فى الأساس على فكرة إضعاف البلاد وتفكيكها على كافة المستويات لهزيمة التوجهات المعادية والمهددة لمصالحها ولدول المنطقة التى تقوم عليها، ونادت الاستراتيجية فى ديباجتها بضرورة التحرك العاجل لحماية المدنيين، وتنفيذ اتفاقية السلام الشامل بين الشمال والجنوب، وصولاً إلى مرحلة ما بعد الاستفتاء على تقرير المصير في 2011م، سواء ظل السودان دولة موحدة أو أصبح دولتين منفصلتين ينبغي عليهما التعايش في سلام، ودرء مخاطر الإرهاب بمحاربة الأوضاع التى تجعل من السودان ملاذاً آمناً للارهاب يهدد مصالحها، كما اشارت الى دور الشركاء الدوليين فى مواجهة التحديات المتعددة... فهذه الملامح الإنسانية تهزمها التصريحات المتضاربة والأفعال المعادية لمندوبيها والمتحدثين باسمها.. إن دعم الولاياتالمتحدة لاتفاق السلام الشامل لا يكون فقط بالاعتراف بنتائج الانتخابات ودعمها .. وإنما يتطلب بذل الجهود الحقيقية وتواصلها في تنفيذ خطتها المعلنة دون انتقائية باعتبارها القوى الفاعلة فى الساحة الدولية.. والإسراع مع الشركاء الدوليين لحل مشكلة دارفور وإنهاء أزمة المحكمة الجنائية، ورفع اسم السودان عن قائمة الارهاب، أن التعامل الموضوعى والجاد مع تلك القضايا دون استخدامها سياسياً يقلل من فرص الانفصال ويضع حداً لمعاناة أهلنا فى دارفور، وفى ذلك تحسين للأوضاع الداخلية المفضية لتنفيذ الاتفاق بطريقة سلسة ويحقق اهداف الجميع. واستطاعت الولاياتالمتحدة من خلال رعايتها للاتفاق الاطمئنان على حجم مصالحها المحلية والاقليمية والدولية التى تكفل بها، ودعمها المتواصل للانفصاليين وتوجهاتهم، وإيحائها للدول الأفريقية للاعتراف ضمنياً بالمولود الأفريقى الجديد، ودعمها المباشر لبند الانتخابات دون سائر بنود نيفاشا التى كادت تنسف الاتفاق «ابيي، قانون الانتخابات»، وتأكيدها دوماً على حرصها لحماية حلفائها، وجميعها مؤشرات تهدد وحدة البلاد وسلامتها، وتهزم أهم مبدأ أفريقى نادت به منظمة الوحدة الإفريقية عند تأسيسها عام 1963م المتمثل فى الإقرار بالحدود الموروثة عن الاستعمار وعدم المساس بها، لما يترتب عليها من إشكالات ومخاطر لبناء الدولة الإفريقية الهشة، وبهذا فإنها تعمل فى اتجاه يتناقض مع أهداف ومقاصد الاتحاد الافريقى الوليد، ويعزز فرص التفكيك وإعادة الدمج لدول القارة البكر فى كافة المستويات، كما تمكنت ايضا من إزاحة الدور العربى والإسلامى واضعافه من خلال تجاهلها للمبادرات التى تقدمت بها لحل المشكلة ودعمها للإيقاد، لذلك نشهد اليوم تجاهلا كبيراً عربياً اسلامياً لما يدور فى السودان من أحداث وتجاذبات، خاصة مصر، رغم التهديدات الخطيرة التي يمكن أن يفضى اليها انفصال الجنوب على أمنها واستقرارها المائى والغذائى، وتهديد للأمن القومى العربى، وتمثل هذا التجاهل العام فى تصريح الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى الذي اعتبر التجاذبات الداخلية في السودان شأناً داخلياً لا ينبغي التدخل فيه، مما قدم تطمينات الى الولاياتالمتحدة على افتقاد أهم مؤسسة عربية لأية رؤية أو بعد استراتيجي حيال مصير السودان، واكتفاء دول الجامعة بتقديم مشروعات خدمية محدودة كإنشاء مدرسة أو افتتاح مستشفى.. دون إرادة حقيقية للحفاظ على وحدة السودان وإغراء الجنوبيين من خلال صياغة برامج تنموية حقيقية تصحح أخطاء الماضى، وتعزز من الجهود الوطنية الهادفة الى جعل الوحدة جاذبة، وتدفعهم للتصويت الطوعِي للوحدة. أن غياب خطة عربية أو إفريقية شاملة تغطى وتعالج أزمات الدولة من منظور المصالح الإقليمية، واختزالها فى لجان مراقبة للانتخابات فقط لا يخدم المصالح المشتركة، حيث أصبحت الاوضاع فى غاية الحاجة الى مراعاة وتقدير الأبعاد المهددة لوحدة وتضامن الإقليمين الافريقى والعربى، ولمبررات قيام منظماتهما. لكن التجاهل العربي والتساهل الإفريقي للمخاطر المحدقة بالتطورات السودانية، قابله اهتمام أمريكي وغربي جاد ومبادر ومتجاوزاً لكل تحفظات الماضى، بضرورة انعقاد الانتخابات في موعدها، وعدم القبول بأي تأجيل لها، بدون الاستماع لفكرة التأجيل ووضع معالجات لها، او ممارسة ضغوط كافية وفاعلة، او إجراء مفاوضات ملزمة ترضي الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني السودانية ولا تعوق برنامج الحكومة القادمة، بدلاً من تركها للحكومة التى لا يعترفون بها.. الى جانب معالجة خلافات الشريكين خاصة الحركة الشعبية وتعديل رؤاهم حول الملفات المختلف حولها «نتائج التعداد السكانى مثلاً»، تمهيداً لبناء حكومة قوية ومتجانسة تتمكن من تنفيذ ما تبقى من الاتفاق فى تلك الفترة القادمة، وتحقق اهداف الاستراتيجية الامريكية المعلنة، وقد صرح المبعوث الأمريكي سكوت غرايشن انه مارس ضغوطاً على كافة الأطراف للوصول لتسوية تضمن عدم تأجيل الانتخابات، ولكن ليس لتحسين الأوضاع السياسية بعدها، وهذا الموقف يوضح أسباب الاهتمام الأمريكي بجدية بملف الانتخابات دون غيره في هذا التوقيت، والتمسك بعقد الانتخابات في موعدها رغم المواقف المعادية لسكوت غرايشن لوحدة السودان، وحديثه أمام الكونجرس عن تطلعه لانفصال الجنوب. الى جانب تلك الفوائد التى سوف تتحصل عليها الولاياتالمتحدة من دعمها لقيام الانتخابات وتشكيل الحكومة الجديدة فى الشمال والجنوب .. تريد أمريكا تغيير توجهات السودان السياسية الموالية لمعسكر الممانعة الذي يضم سوريا وإيران وحزب الله وحركة حماس، ليكون أقرب لمعسكر التطبيع الذي يدعم سياسة أمريكا في المنطقة، كما تهدف الى إضعاف هيمنة الصين على صناعة النفط في إفريقيا، وإعطاء دور مقدر للشركات الأمريكية في النشاط الاقتصادي السودانى. إن دعم الولاياتالمتحدة للانتخابات دون ربطها بإجراء متابعات متزامنة لبقية الملفات، لقضايا الوضع السياسى الداخلى، دارفور، الجنائية، ومحاربة الارهاب.. والتى تشكل صلب استراتيجيتها تجاه السودان، يعتبر مؤشراً يقود الى تأزيم الأوضاع أكثر من حلها، خاصة فى إطار سياستها الداعمة للحركة الشعبية، حيث يفرخ وضعاً سياسياً أعرج أو مشوهاً يستدعى معالجة فى ضوء سيناريوهين الأول: فى حالة تنفيذ الاستفتاء فى مواعيده يناير2011م، يتطلب استعجالها لاستصدار قانون الاستفتاء وتجنيب البلاد خلافات الشريكين فيه.. الى جانب اعتماد ما يتمخض عن مفوضية الحدود من ترسيم للحدود المشتركة دون تشكيك أو محاباة، بالإضافة الى إجراء معالجات ملحة لملفي دارفور والجنائية، أي تسريع مفاوضات الدوحة، واستخدام مجلس الأمن بمساعدة الصين لصالح السودان. وهذه الفترة القصيرة «8 شهور»، لا تمكن من معالجة النزاعات الداخلية فى الجنوب ولجم تهديداتها، فهل امريكا فى عجلة من أمرها لقفل ومعالجة هذه الملفات الحيوية التى تبتز بها الحكومة السودانية من حين لآخر؟ وهل أمريكا تسيطر على كل هذه الملفات؟ وهل هى أنجزت ما تريده من الحكومة بشقيها ؟ .. والثانى: تأجيل الاستفتاء لفترة أقصاها «18» شهراً التى تنتهي بنهاية فترة ادارة أوباما بهدف استخدام ما يتمخض عن الاستفتاء كدعاية انتخابية لفترة جديدة .. ومساعدة حكومة الجنوب وتمكينها من مفاصل السلطة السياسية، وبناء دولة قوية تستطيع المحافظة على استحقاقات الانفصال.. وإنهاء النزاعات القبلية والسياسية، ومعالجة موضوع جيش الرب.. الى جانب حل مشكلة دارفور بشكل هادئ، وصياغة قانون الاستفتاء، وترسيم الحدود.. وكل ما تبقى من بنود بالكيفية التى تأمن مصالحها.. وهذا يتطلب وقتاً كبيراً مما يستدعى أن تقترح وتضغط فى اتجاه تأجيل الاستفتاء. إن فكرة تأجيل الاستفتاء يجب التروي جيداً في مآلاتها من قبل الحكومة ودراستها بعمق اذا طرحت، فالولاياتالمتحدة ترمي بعد أن اطمأنت على استلام البشير للسلطة وسلفا كير لحكومة الجنوب.. بإمكانها مساعدة الحركة مرة أخرى بدعمها سياسياً لتأسيس نظام قابض فى الجنوب، يمكنها من السيطرة على منابع النفط وروافد النيل، كما تسعى لتقليل حدة الخلافات وتأثيرات المعارضة الجنوبية، وعسكرياً بتدريب قواتها وتأهيل بيئة الرأي العام المحلى والعالمى ومؤسساتهما لضمان فرصة التصويت للانفصال، وهذا يتناقض مع الجداول الزمنية لتنفيذ الاتفاق، ومع توجهات الاستراتيجية المعلنة، ويؤكد التوجهات المعادية والانتقائية فى دعم بنود الاتفاق.