أجراه/ ميشيل باندلر ليس هناك من وزارة مركزية للثقافة والتي توكل إليها مهمة وضع السياسة العامة للآداب والفنون الوطنية بحكومة الولاياتالمتحدة، حيث توجد مؤسستان خيريتان تقومان بتقديم المنح والدعم للثقافة وهما المؤسسة الخيرية الوطنية للآداب NEA والأخرى تحت اسم المؤسسة الخيرية الوطنية للانسانيات NEH، وهما المؤسستان اللتان تقومان بدورهما في توفير الدعم وتقديم المنح للأدباء والفنانين الأفراد والباحثين والعلماء ولمؤسسات الآداب والفنون والانسانيات. بينما تتراوح ميزانية المؤسسة الخيرية الوطنية NEA حوالي ال 115 مليون دولار أمريكي للسنة المالية 2003م، فهي تعتبر متواضعة مقارنة بالمؤسسات العامة من نظيراتها للبلدان الأخرى. فالدعم المقدم من الجهات المانحة الخاصة لطالما شكل غالب الدعم للثقافة الأمريكية. فقد قُدر حجم الإنفاق على الآداب والفنون بالولاياتالمتحدة في العام 2002 بحوالي 12.1 بليون دولار أمريكي. فخلال فترة وجودها والتي تقارب الأربعة عقود من الزمان ظلت المؤسسة الخيرية الوطنية للآداب NEA، والتي اختطت لنفسها شعار تشجيع التفوق والتميز وحمل الآداب والفنون وتقديمها لكافة الأمريكان، ودأبت على استغلال دعمها كصافرة انطلاق لإبتدار در التبرعات والهبات والمنح الخاصة. فعند تولي دانا جيويا إدارة المؤسسة الخيرية الوطنية للآداب NEA في مطلع العام 2003م فقد جلب ونقل خبرة ثقافية واسعة وعلى نحو غير معتاد وذلك لموقعه على سدة مؤسسة NEA. جيويا والذي عُرف لكونه شاعراً وكاتباً للمقالات فقد قضى خمس عشرة سنة كإداري، والذي يكتب القصائد في وقت فراغه قبل أن يتفرغ تماماً لكتابة الشعر ويغدق عليه من جل وقته، فتداعياته المحورية والبالغة الشأن والأهمية والتي أفضى بها في 1991م عبر مقالته التي نشرت بإحدى المجلات تحت الاسم ما جدوى الشعر؟ وهل يستحق الشعر كل هذا العناء؟ تلك المقالة التي تمددت لاحقاً لتصبح كتاباً فاتحة الباب ومشعلة فتيل النقاشات والحوارات والتي استمرت بعد ذلك حيناً من الدهر، فضلاً عن كتابته بالصحف والمجلات وتعليقاته التي يرفد بها الراديو حول الموسيقى والآداب والفنون بالإضافة لكتابته كلماتاً ونصوصاً للاوبرا. في هذا الحوار يتناول جيويا سلسلة من القضايا التي تغطي العديد من أوجه الثقافة الأمريكية الخاصة منها والعامة فضلاً عن تتبع تطور المجالات المختلفة. * لقد ذكرت الموسيقى العالمية على انها تشكل مثالاً للدمج التكنلوجي فهلا حدثتنا عن الموسيقى في اطار النزعة والتوجه الاولى الذي سميته بالشعبوبة الجديدة؟. لكل النزعات والتوجهات الرئيسية للموسيقى الكلاسيكية الامريكية الحالية جذور تقليدية . فهناك الرومانسية الجديدة والتي هي الاكثر تقليدية وهناك حركة الموسيقى العالمية والتي تستخدم وتوظف تقاليداً غير اوربية وكذلك الموسيقى المعتدلة والتي تجمع اساساً ما بين تقاليد كلٍ من الموسيقى الكلاسيكية وموسيقى البوب ، فجميع هذه الانماط تسعى الى الوصول وان تكون غاية منال جمهورها. * ما مدى الاثر الذي تركته هذه التوجهات والنزعات الكبيرة على اشكال الادب والفنون الاخرى؟ في اطار الفن التشكيلي وانه لجدير بالاهتمام الاشارة الى ان احدى النزعات والتوجهات الرئيسية الا وهي اعادة التأكيد على دور التشكيل كوسيط في قبالة التكوين او الكولاج وطرق التعبير الاخرى المختلفة . وهناك ايضاً بعث واحياء للفن التشكيلي الرمزي كبديل عملي وقابل للتطور والنجاح بدلاً عن التجريد والفن التصوري الخيالي . اما في الشعر فهناك نهضة كبيرة في اطار الشكل والسرد حيث ان احدى التوجهات الادبية الرئيسية في امريكا كانت الخلق والابداع خارج اطار الثقافة والفكر الرسميين وفي اطار الشعر الشعبي والرآب وشعر رعاة البقر وشعر المطارحات والمنافسات الذي يشترك فيه الجمهور عند اختيار الفائز. ودائماً ما كان يتم توظيف القافية والوزن في تلك الاشعار والشعر المعدل او المختصر (بحذف صوتاً او حرفاً او اكثر من وسط الكلمة) كما في حالة قافية موسيقى الجاز او حتى في شعر رعاة البقر والذي تم فيه احياء واعادة بعث الحياة في روح نوع الوزن المشدد والمضغوط لاشعار الاغاني الشعبية . ولذلك فما تراه ليس الا محاولة لاعادة تأسيس علاقة بين الماضي والحاضر لمزج ودمج الحداثة بالطرق التقليدية وذلك لخلق ابداع ما هو معاصر .اما في اطار المسرح ، فالكاتب المسرحي الامريكي الوحيد الذي يمكن اخذه في الاعتبار وهو اوغست ويلسون والذي وفي ذروة منتصف عمره المهني قد انعش التقاليد الطبيعية الواقعية التي نراها عند يوجين اونيل وتنسي وليامز. * فلنأخذ مثالاً عل ذلك مسرحية ويلسون (درس البيانو ? التقاليد وتاريخ العائلة........)؟ تماماً فاذا ركزنا على القضايا الاجتماعية فالاكثر اهتماماً بالمسرح الامريكي لربما كان ما يطلق عليه الاوربيون (بالعمل الادبي والفني الجماعي) او (معاً في اطار الادب والفن) ففكرة الوانقنيريان للعمل المسرحي والتي تراه على انه ما يتضمن ويشتمل على مكون متعدد الوسائط فهناك الأوبرا الجديدة وهي بجلاء ادبية لان مكوناتها قد استطاعت ان تجعل من نفسها عناصر سهلة المنال ومتيسرة للجمهور بينما في المسرح فاننا نجد شخصاً مثل جولي تيمر والذي استطاع ان يآلف ويجمع عناصر من الكوميديا الادبية والموسيقى والمشهد والتي نعتبرها من المكونات الأساسية للاوبرا والبالية ، فهناك فكرة محاولة دمج وسائط الإعلام والرقص والأوبرا والمسرح الغانئي والمسرح الناطق وحتى مسرح الدمى وذلك في إطار الخبرة المسرحية. * يعتبر عملك مرآة تعكس مثل هذا النوع من الدمج ، اليس كذلك؟ بلا فانا شاعر وقبل أن أتولى منصبي هنا فقد تعاونت مع شركات الرقص والأوبرا ، فهناك شركات للرقص بالولاياتالمتحدة توظف شعراء وتستخدم نصوصاً بمصاحبة الموسيقى والرقص. * أود لو تكرمت أن تنقل لنا تاريخك الشخصي ، شخص مثلك قد أثرى الساحة الثقافية كناقد وككاتب للمقال وهو في مقتبل عمره المهني وذلك بجانب ما تحمله من أعباء مهنتك الحالية فضلاً عن الثقافة وما تعني لك في الإطار الخيري؟ إذا كنت رجل نهضة وتنوير فذلك فقط لأنه السبيل الوحيد لكي أبقى كفنان وأديب ناشط، فلقد وددت ورغبت في أن أكون شاعراً ولم أكن أسعى للحصول على شهادة ومؤهل جامعي مما الغى عليَّ عبء البحث عن وسيلة اخرى للعيش وكسب الرزق . فانا أبن الطبقة العاملة من لوس انجلوس وقد امضيت خمسة عشرة عاماً أعمل بالمؤسسات الامريكية ما بين عشرة إلى اثنى عشر ساعة في اليوم بينما أكتب بالليل وفي عطلات نهاية الاسبوع ، لقد فعلت ذلك لكي أبقى ككاتب ولكنني أكتشفت انني جيدُُ في مزاولة التجارة أيضاً ، فلقد تعلمت أشياء من عالم التجارة لا اعتقد ان من الضروري على الكتاب تعلمها في إطار عملهم الفني والأدبي كالعمل ضمن فريق عمل بغية تحقيق الاهداف العامة ، فكل واحد يمكنه تحقيق النجاح ، ولقد علمتني التجارة ضرورة إدراك أهمية ما تود فعله على المدى الطويل والعمل في اتجاه تحقيق ذلك . ولسخرية القدر وللمفارقة فبعد مغادرتي لعالم التجارة فقد نذرت نفسي ألا أعمل لدى أي شركة أو مؤسسة كبيرة مجدداً. * ما الذي يثير ويحفز حساسيتك الثقافية هذه الأيام؟ لطالما ظللت أشعر بان احدى الحلقات المفقودة في الثقافة الامريكية ألا وهي ضرورة وجود جيل جديد من المفكرين والمثقفين الشعبيين ووجود مثقفين ومفكرين جادين لا يتبعون وغير منضمين أو ملتحقين باي من الجامعات. تحتاج امريكا للكثير من المفكرين والمثقفين والذين يتحدثون وباعتزاز وفخر عن الثقافة الشعبية العامة، فلدينا تقاليد متميزة في هذا المضمار والتي تذهب بعيداً في القدم منذ اميرسون وبو وحتى عصر الانفجار غير المعتاد لمثقفي نيويورك من اليهود في الثلاثينيات والاربعينيات والتي مثلت ذروة التقاليد الامريكية. * متى تفير هذا النظام؟ خلال العقود التي سبقت الحرب العالمية الثانية تطور النظام الجامعي في الولاياتالمتحدة ونما بصورة كبيرة اثناء منتصف مجتمع الرفاه حيث ان المؤسسات الاكاديمية استوعبت ووظفت الكثير من المثقفين والمفكرين . وبمرور الوقت أصبح هؤلاء المثقفون يخاطبون قطاعاً محدوداً بدلاً عن مخاطبة اعداد متنوعة ومختلفة من جمهور القراء الاذكياء . وفي نفس الوقت تقلصت وسائل الاعلام التي كانت توظف هؤلاء المثقفين الشعبيين . فاحدى القضايا التي اثارت فضولي وشحذت مكامن ذهني وجذبت اهتمامي ألا وهي كيفية إعادة اكتشاف وسائل الإعلام لخدمة الحياة الفكرية والثقافة الشعبية وكيف نستطيع خلق فرص للأدباء والمفكرين لمخاطبة الجمهور. * ما هي ملامح التغيرات التي طرأت على الحياة الثقافية والفكرية الامريكية؟ انني اؤمن بان امريكا تنابها حالياً عملية تحول والتي أرى إنها خلق لبوهيمية جديدة ، حيث ان البوهيمية القديمة ووفقاً للفهم والنسخة الامريكية والتي تراها كظاهرة حضرية تتميز بالتركيز على المفكرين والمثقفين والادباء الذين تجاوزوا النظم والتقاليد والذين انتظموا في تلك الحركة وبغض النظر عن طبقاتهم الاجتماعية . فالشاعر كمنقز مثلاً قد رسم وكتب أدب الخيال وعمل في مجال المسرح أيضاً وكذلك ايزرا باوندا والذي ألف الموسيقى وكتب نقداً وشعراً وويندام لويس والذي كان رساماً ريفياً وروائياً في ذات الآن . وهناك كاتباً امريكياً مغموراً وأقل شهرةً والذي اعجبت به كثيراً وهو ويلدون كيز والذي كان شاعراً وكاتباً لأدب الخيال وتعبيرياً تجريديا ً وناقد فني وأدبي بالإضافة لكونه منتجاً تجريبياً للافلام . ففكرة البوهيمية تقوم على المفهوم الذي يرى الآداب المختلفة على إنها تعزز بعضها البعض وان الابداعية تتجلى في أبهى وافضل صورها في وضع وحالة اللاطبقية حيث الموهبة والملكة والطاقة هي التيارات المحركة للابداع. اما في العصر الحالي فان هناك نوع جديد من البوهيمية قد نشأ ، فهو لم ينشأ بجوار أو حول المدن الكبيرة ولكنه نشأ كمجتمع افتراضي من خلال التقنية وهو يتحرك عبر الانترنت والمكالمات الهاتفية غير المكلفة وعبر الفاكس من خلال الخدمة الآنية والنشر الاليكتروني وكذلك من خلال خلق مثل عالم البوهيمية المؤقت اللحظي عبر منتديات ومؤتمرات الكُتاب وتجمعات الأدباء ومدارس الفنانين حيث يلتقون لإسبوع وأكثر . هذه المجتمعات لا يتم تعريفها وفقاً للجغرافية المحلية ولكن من خلال التجانس والتآلف الثقافي . وفي إطار الفهم العام بامكاننا طرح التساؤل وعلى النحو التالي كيف ينبغي لنا خلق حياة ثقافية وفكرية خارج نطاق الدعم المؤسساتي للجامعات؟ هذا لا يعني ان الجامعة سيئة ولكننا نجد ان الثقافة تصبح أكثر غنى عندما يتم خلق الأدب والفن في الكثير من المواقع والاماكن بالمجتمع ، وحينما يتم خلق وانتاج حياة ثقافية بوهيمية واكاديمية فان هذا يخلق منطقاً دياليكتيكياً صحياً . وبالرغم من ان ميراثي وخلفيتي التاريخية ايطالية ومكسيكية إلا ان نمط تفكيري جيرماني حيث انني اعتقد واؤمن بالدياليكتيك وبكيفية تلاقي القوى والتحول الدائم لكل قوة إلى أخرى ، أو ربما بمثل هذا الهجين الثقافي والفكري الذي يميزني كأمريكي.