استيقظنا صباح 30 يونيو على نغمات مارشات الجيش، وقد كان كل شيء متوقعاً نسبة لاضطراب الموقف السياسي وتحولات الأحزاب المتكررة ومزايدات السياسة يأتلفون مرة ويختلفون مرات، والائتلاف نفسه يحمل في طياته اختلافات ومكايدات ووضع عراقيل وهمز ولمز أدخل الشعب عامة في دوامة من عدم الاستقرار والاحباط النفسي والاجتماعي لهذا كان قبول الناس للانقلاب، وظلوا يلتزمون بيوتهم يشهدون المسرح بالإعلام بعدما أصبح السودان مفتوحاً لمخابرات ماكرة من أقرب الجيران وأبعدهم، ثم وجد التمرد أرضاً خصبة ومسرحاً واسعاً لنشر نشاطه وتمدد إعلامه وزيادة عملياته الحربية. وكان الناس يستمعون لإذاعة التمرد ترسل مارشات وأناشيد حماسية ويتبادلون حديث زعيم التمرد د. قرنق، وله في نفوسهم وقع خاص، حيث كان يختار الوقت والكلمات، بل كان ينشر وقائع الاجتماعات السرية للدولة قبل ساعات من صدورها. لهذا ضعف الحكم، وأصبحت كل نقابة مهما كانت صغيرة تنذر وتتوعد بالتوقف عن العمل، وما أظن أن هناك هيئة نقابية لم تدخل في هذه المنافسة.. ثم تحول الحكم من ائتلاف ثنائي إلى توسع الحكم بمسميات وطنية أو قومية، ثم حرب ادخال النقابات بممثل في آخر حكومة ليطفئ نار حربها، ومثل الجيش بوزير دفاع يشهد له بالكفاءة العسكرية وعرف بالتميز والنزاهة، لكن الأذكياء من الجبهة بعد عزلهم ومراراتهم أسرعوا وسبقوا المتسابقين إلى التحرك، لكنهم لأسباب يعلمونها أخفوا أنفسهم من هذا المسرح تماماً، فذهب بعضهم للسجن وبعضهم إلى القصر، وبعضهم لكسب التأييد بوجوه مختلفة. وبتأييد من القاهرة الغاضبة لإلغاء معاهدات الرئيس السابق نميري معها، ولتقييم سفيرها الخاطئ للوضع أيدت الوضع وساندته دولياً، وتمكن الانقلاب الإنقاذي من التمتع بتأييد مشوب بالحذر الشديد، وأكثرية الشعب الصامتة تنتظر إعلان حكم عسكري للتصحيح واعادة الحياة إلى طبيعتها تدريجياً، وتطهير العاصمة من اللصوص وزوار الليل الذين روعوا الآمنين في مالهم وأنفسهم. وهناك ضائقة معيشية وندرة في الوقود والنقد الأجنبي، فأصبحت الحكومة تهرول لإطفاء نار الخبز فتجد ناراً للوقود، وتسرع لانهاء انفلات الحالة الأمنية لتجد تمدداً للتمرد حتى أطراف العاصمة. والإنقاذ بعد أن هدأت الأحوال وكسبت الجولة، خرج من كان في السجن لينضم لبقية الفريق الآخر، وسلت سيفها وطردت آلاف الضباط والجنود من الجيش والشرطة والأمن، وآلاف الموظفين، وأبطلت نشاط النقابات والصحافة لتفعل في صمت ما تريد. وعايشنا تلك الفترة على أعصابنا، فكان أي شخص ملتحٍ يفعل بأعظم شخصية ما يشاء، وأصبح المعلم الصغير يسعى لطرد المدير، والطبيب العام ينذر الوكيل بل يفصله بمذكرة مباشرة، والمظالم تطول... وتطول. وأصبحت هيبة الحكم مهزوزة في الادارة والسياسة والاقتصاد. وبدأ ما يسمى المؤتمرات ثم اللجان الشعبية تمارس الحكم ويا لها من لجان.. ثم انتسب آخرون وأرسلوا اللحي والذقون فضيقوا على الناس في حرياتهم ومعاشهم، وأصبحوا عبئاً على الإنقاذ نفسها بكثرة تطلعاتهم، والشعب الصابر الذي وقع بين نارين ينتظر صبحاً جديداً للخلاص، أو متفائل بشارات الاسلام المرفوعة ومعظماً التهليل الذي يبدأون به ويختمون ثم بدأ الحكم الذي استعان برجال الجيش في التخلص منهم ومنحهم امتيازات بديلة، وأرسلوا لآخرين طال غيابهم عن الوطن بالعودة والمشاركة في السلطة، وبدأوا يجربون الحلاقة في رؤوس الأيتام. ثم انتقلت الدولة وبحزبها الاسلامي لحرب في جنوب السودان، وجندت من تشاء شباباً وطلاباً، وأقامت معسكرات للموظفين في القطينة، فاتجه الشعب بكلياته ليرى نهاية الحرب التي يشارك فيها أبناؤه، وتركوا المطالب الفئوية وتحمل فرق الأسعار في الخبز والوقود والضرائب وتحمل رفع الدعم عن الصحة والتعليم ودعم المواد المعيشية. وأصبح الباب مفتوحاً لشركات بعينها وشخوصها، وخرج الآخرون المؤسسون للاقتصاد، وهربوا أموالهم على قلتها، ومنحوا خبرتهم لدول أخرى كسبت منهم الكثير. ودخل الاقتصاد في ربكة وتداعى له غير أهله، فسادت البضائع المغشوشة والتالفة، وأصبحت العمارات والقصور وتطاول البنيان ظاهرة في وسط العاصمة وأطرافها. وهذا الوضع أغرى آخرين تسارعوا للمدن والعاصمة خاصة يمنون أنفسهم بسلطة أو مال غير جهد، فأثرى من كان مزارعاً وحسب، ومن كان راعياً للماشية، وانعدم المزارعون في المشروعات والرعاة والعمال المحليون وصاروا يتجولون في العاصمة بأشياء مناديل ورق وأقلام وألعاب أطفال وأوانٍ منزلية، وأصبح العمل يقوم به النازحون وأهل الجنوب قبل طردهم. وخلا الريف من عمارة، والشباب اتجهوا نحو العاصمة حتى ضاقت بهم، والعاصمة المثلثة أصبحت أكثر من ثلاث مدن، فكل مدينة حولها مدن عشوائية. والانقاذ تسير والأمل معقود عليها لم ينقطع بشعارات الاسلام السمحة التي تحملها.. لكن إلى متى.. الخدمات 9% منها في العاصمة غير المثلثة مما جعل الشرق ينتبه والغرب يتيقظ والأطراف تطالب بحقها محلياً في السلطة المحتكرة. وبعد زمن طال تجرد الإنقاذ حساباتها وتجد نفسها محاصرة بنيران أشد من الحكومة السابقة، وحاصرها التمرد في الشرق والغرب الذي وصل عصامة البلاد بالفعل. ثم أضعفت الأحزاب وسلبت من ترى فيه خيراً لتوظفه في إدارتها وتفسح له المجال في مؤسساتها التشريعية، وبهذا تزيد من عبء الحكم بلا طائل. ويتكلمون عن الفقر وينسون أسبابه حتى طال 60% من الشعب، وبدأت العلاج المتأخر، فالفقراء هم مفصولو الإنقاذ من الخدمة، وهم من نزح من أرضه ودياره ليمارس الفاقة والأمل السراب في العواصم. إن الأموال التي تصرف في هذا المجال لمحاربة الفقر كبيرة وضخمة، ومجموع ما يصرف في شهر رمضان الكريم فقط كبير، لكن ماذا بعد رمضان؟ ومائة جنيه للعامل والموظف بأي غرض تفي؟! الولاة لا يفكرون بتفكيرهم الخاص بل بتفكير إشارة، فكل منهم يصرف ما يزيد عن الخمسمائة مليون، وبحساب عدد الولايات يصير المبلغ كبيراً وعلى حساب التنمية. أرض السودان بكر والماء ميسور، والمفصولون والمبعدون كرهاً فيهم الشباب والكفاءة ومن يستطيع الادارة والتخطيط، فالأجدر أن يوظف هذا المبلغ في مشروعات بالأماكن الخصبة، وهذا يكفي الدولة مؤونة الصرف السنوي، وصرف عمل الدولة كله لتدبير هذه المؤونة كل عام وعشرة وما أكثرها. ويمكن دراسة مشروع سريع العائد أو مصانع في بعض المدن والولايات، مصانع اسمنت، سكر، مياه غازية، مصانع نسيج، شركات تشييد أو حظائر أبقار وضأن وجمال. والأموال التي صرفت على اليخوت والفلل على الشاطئ كان يمكن أن تكفي مثل هذه المشروعات. وأن يجمع هذا المال من الولايات في شكل أسهم لتأسيس بنك الفقراء وأصحاب الحاجة أسوة بالبنك الزراعي. والإنقاذ اعترفت بالأخطاء وهذه فضيلة الشجعان، لهذا وجدت تعاطفاً كفاها شر الربيع، وأوجد لها مساحة من التنفس الطبيعي، والشعب نفسه شجاع ومدرك ويعلم تماماً أنه لا يستفيد من (الربيع)، وكفاه علماً ويقيناً ما يحدث في ليبيا وتونس ومصر وسوريا، وكفاه ما جناه من ربيع أكتوبر 1964م وأبريل 1985م، ويكفي الإنقاذ ربيعاً أنها أدركت الأمر مبكراً. ونعلم أن الذين استفادوا من أخطائها هم الذين هبوا إليها لملء الفراغ الذي أوجدته بداية أمرها بالفصل والطرد من الخدمة دون دراسة، وهؤلاء في باطنهم يبطنون خدمة ذاتهم وبناء قدراتهم وتأسيس مصانع وشركات عجزوا عن تأسيسها، وهي بالتأكيد على علم بهم. وبقى على الإنقاذ الاعتراف بخطأ المفاصلة في شجاعة، وإعلان ذلك للشعب، وتضميد جراحها، واختصار تكوين حكومة برئاسة المشير البشير يختار بنفسه عناصرها من المخلصين من حزبه و50% من الأحزاب، وأن يتاح للأحزاب بناء نفسها ووضع دساتيرها ودورها وبرنامجها خلال هذه الفترة بدعم من الدولة، وبعدها تجرى انتخابات حرة ديمقراطية. * معلم بالمعاش/ أم روابة