قبل أيام قليلة من استئناف المفاوضات بين الخرطوم وجوبا في العاصمة الاثيوبية، دشنت الولاياتالمتحدة الاميريكية حملة اخرى من الضغوط على الحكومة السودانية لتحقيق اختراق آخر في القضايا الخلافية، بعد حسم قضية النفط. واستهدفت واشنطون هذه المرة على لسان مبعوثها للبلدين برستون ليمان خطة الوساطة باقامة مناطق عازلة على الحدود بين البلدين، وهي الخطة التي تواجه برفض قاطع من الحكومة في الخرطوم لتضمنها استقطاع 14 ميلاً في منطقة بحر العرب واضافتها جنوبا. وقال برنستون ليمان امس الاول إن الوقت قد حان كي تقبل الخرطوم خطة الاتحاد الأفريقي بسحب قواتها من الحدود بين السودان وجنوب السودان، تمهيداً لإقامة منطقة منزوعة السلاح بين الجانبين، مشيراً الى أن من شأن ذلك تطبيق اتفاق مواصلة صادرات النفط الجنوبي عبر الشمال. وأضاف ليمان، في تصريحات وزعتها الخارجية الأميركية، « بمجرد قبول ذلك يمكننا المضي قدماً في العناصر الأخرى لنزع السلاح، ويجب أن تقبل الخرطوم هذه الخطة أولاً، وهناك اقتراحات جيدة أمام الخرطوم في شأن السماح بوصول المساعدات الإنسانية، إننا ننتظر الرد على هذه الخطة». ومن الواضح ان تصريحات المبعوث الاميركي تجاه الخرطوم تلقي بالكرة في ملعب الحكومة، بشأن تحمل مسئولية نجاح الجولة القادمة من المفاوضات او فشلها في احراز تقدم. وربما يكون هذا ما دفع بالخارجية السودانية لان تتحفظ في الرد على تصريحات المبعوث الامريكي، فقد قال ناطقها الرسمي العبيد احمد مروح ل» الصحافة» بانها غير معنية بالرد عليها، وان الامر متروك لوفد الحكومة المفاوض في ان يحدد موقفه من الخريطة المقدمة من الوساطة. ويرى مراقبون ان موقف الخرطوم الرافض لان يكون بحر العرب نقطة الصفر للمناطق العازلة صحيح لان موافقتها على الخريطة التي قدمها امبيكي ستسمح باقتطاع (14) ميل جنوب بحر العرب من الشمال واضافتها الى الجنوب. كما يحظى الموقف الحكومي من هذه القضية بدعم لافت من المجموعات السكانية في تلك المناطق، فقد سبق وحذرت في بيانات صحفية من تقديم اي تنازلات بشأن المناطق جنوب بحر العرب، متوعدة الحكومة والمجتمع الدولي بالرد المناسب حال تمت التضحية بمناطقهم وضمها جنوبا من اجل التوصل لاتفاق بين الخرطوم وجوبا. ودخلت مجموعات ضغط جديدة في مسار القضية تضم شخصيات ذات نفوذ في حزب المؤتمر الوطني،فقد نظم كل من والي جنوب دارفور السابق عبدالحميد موسى كاشا وعدد من ولاتها واعيان في المنطقة مؤتمر صحفي عشية العيد لاعلان ان بحر العرب خط احمر امام اي تنازلات حكومية. وجدد بالامس رئيس هيئة شورى الرزيقات محمد عيسى عليُّو ل» الصحافة» موقف تلك المجموعات السكانية من هذه القضية، مؤكدا على عدم احقية الجنوب في تلك المناطق، ومتهما الوسيط ثابو امبيكي بتقديم خريطة لا تمت للواقع بصلة. واشار عليُّو الى ان كل الشواهد تؤكد تبعية هذه المناطق الى الشمال، مستدلا على موافقة الحركة الشعبية على اعتماد خريطة السودان في العام (1956) كمرجعية عند توقيعها اتفاق السلام الشامل، وعند اجرائها للاستفتاء وللانتخابات اللذين لم يشملا المناطق التي تدعي الآن تبعيتها اليها. ويشدد رئيس هيئة شورى الرزيقات على ان موقف الحكومة من رفض خريطة امبيكي صحيح، محذرا في ذات الوقت من مغبة تراجعها عن هذا الموقف تحت اي ظرف لان ذلك سيصطدم ،كما يتابع،بتصعيد ابناء تلك المناطق للقضية بشكل لن يتوقعه احد. واللافت ان ابناء المنطقتين لا يتعاملون مع تصريحات المبعوث الامريكي على انها تشكل ضغوطاً على الخرطوم لتقديم تنازلات، فمحمد عيسى عليُّو يرى في حديث ليمان حثاً للطرفين على تحقيق نتائج ملموسة دون تحديد احداثيات لهذا الحل. والحال كذلك فكيف يمكن حل النزاع الحدودي بين الشمال والجنوب، بخاصة وان الشواهد تؤكد استحالة الوصول الى اتفاق في ظل تمسك كل طرف من الاطراف بموقفه من القضية، وهو ما تمظهر في الاتهامات المتبادلة بين الخرطوم وجوبا بالتعنت وعدم الرغبة في التوصل لتسوية، فجوبا تحمل الوفد الحكومي المفاوض مسئولية الامر لرفضه اقامة المنطقة العازلة خاصة في المناطق المتنازع عليها وكذلك رفضه اللجوء الى التحكيم الدولي لحل النزاع مشيرة إلى أن وفد الجنوب قدم عدة مقترحات وبينها مقترح لاعتماد الخريطتين التي تقدم بهما كل من الشمال والجنوب لتحديد المناطق المتنازع عليها، فيما تحاجج الحكومة في الخرطوم بانه لا يمكنها ان تقدم تنازلات في هذا الصدد لتخلق اكثر من ابيي اخرى، وربما لتخوض من جهتها نزاعا داخليا مع المجموعات السكانية التي تتحرك في تلك المناطق. يشير الخبير في شئون تسوية النزاعات البروفيسور بخاري الجعلي الى ان التحكيم الدولي يعد من آليات تسوية مثل هذه النزاعات، الا ان هنالك آليات اخرى يجب ان يتم اتباعها قبلا وفقا لميثاق الاممالمتحدة، ومنها التسوية بين الطرفين ثم الوساطة ومن بعدها عملية التوفيق، وان فشلت كل تلك الآليات في تحقيق اتفاق على القضية يمكن ان يتم اللجوء الى التحكيم الدولي عبر محكمة العدل الدولية ، ويشترط للخيار الاخير ، كما يشدد الجعلي، موافقة الطرفين على الاحتكام اليها، اذا ان المحكمة لا تملك اختصاص مباشرة مثل تلك القضايا دون هذه الموافقة. يبقى ان نجاح الجولة القادمة من المفاوضات بين دولتي الشمال والجنوب، يعتمد بشكل رئيس على احراز تقدم في قضية المناطق العازلة على حدود البلدين، ومن المؤكد ان هذه الحقيقة هي ما دفع بالادارة الاميركية الى توجيه رسائل واضحة بهذا الشأن للخرطوم، لكن كيفية تعاطي الحكومة ووفدها المفاوض مع هذه القضية داخل الغرف المغلقة يظل مصدرا للتكهنات عند المعنيين والمراقبين.