لم تستطع إسرائيل الانتظار أكثر من ذلك وتضييع الوقت لتواصل سعيها في تحقيق الحلم السامي في توسيع دولة الصهيونية إلى ما تعاهد عليه حكماء صهيون يوم الشؤم ذاك في عام 1898م، التعاهد على بناء دولة تمتد حدودها من شاطئ الفرات بالعراق إلى ضفاف النيل في مصر.. ذلك الحلم الذي أخفوه يوم أن ذهبوا إلى السلطان العثماني عبد الحميد رحمة الله عليه يرجونه أن يسمح لهم بالمقام مواطنين في فلسطين في وطن جديد لهم بعد قرون طويلة من الشتات في بقاع العالم.. لكن السلطان المسلم عرف بفطرته لؤم الصهاينة وعدم وفائهم ونفاقهم، فقطع عليهم أحلام اليقظة وردهم خائبين. والغالبية تعرف ما نقله التاريخ من التحول السامي بعد ذلك إلى بريطانيا ونشاط المنظمات السرية الصهيونية والماسونية، لتخرج اتفاقية سايكس بيكو ووعد بلفور وغزو الجنرال اللمبي فلسطين و «الربيع العربي الأول» الثورة العربية ضد العثمانيين بمعاونة الغرب. وليتهم لم يتعاونوا وليتهم ما خرجوا وحاربوا، فتفرقوا وضاع بأسهم بينهم، فتسيدت الإمبراطورية العجوز. وحتى لا تأخذنا التفاصيل المريرة الكثيرة يوجد تشابه ورابط بين الوقائع الحالية مع ما حدث في تلك الأيام، أيام القومية العربية وثورتها ضد «الظلم العثماني» وزوال الخلافة في ما عُرف بعصر القومية العربية. وهو أن تلك الأيام شهدت تفاصيل مشابهة لأحداث اليوم وميل الدول الغربية «لقضايا الشعوب ومناهضة الظلم»، وهو ما أدى إلى الأحداث المعروفة للكل بعد الحرب العالمية الأولى. وبالعودة إلى واقعنا مصحوباً بالفكرة القديمة لدولة إسرائيل من الفرات إلى النيل، إذ لم تمض سنوات قلائل على تسويق فكرة الشرق الأوسط الجديد، وهو الغلاف البراق لفكرة تغيير الأنظمة السائدة في الشرق الأوسط وتمهيد الطريق أمام التنظيمات الإسلامية السياسية لتخلف أنظمة طالما وصفت بأن قيادتها حليفة للغرب وإسرائيل. وهو ذات التمويه الذي نجحت فيه بريطانيا وفرنسا لتمرير سياسة الاستعمار بغلاف براق آخر، وهو فكرة القومية العربية والثورة على العثمانيين قبل وأثناء وبعد الحرب العالمية الأولى. فلم تمض الأيام حتى أحتل الإنجليز والفرنسيون تلك البلاد وفق الاتفاقية الشريرة بين وزيري خارجية البلدين، ولم يعلمها من ثاروا ضد العثمانيين من العرب. واليوم يتم تسويق نفس الملامح في «ربيع العرب الثاني»، والدلائل بدأت وفقاً للكثير من التصريحات الأمريكية والإسرائيلية عن وجوب تشكل وضع جديد أوضحته خريطة الشرق الأوسط الجديد بتقسيماتها الكثيرة التي نشرها السيد «برنارد لويس» في بداية ثمانينيات القرن المنصرم، وفيها تجزئة مخيفة وفقاً للعرقيات والديانات والسحنات، فالدولة الواحدة يمكن أن تقطع الى أجزاء قد تصل الى ثلاثة أو أربعة أو خمسة. وهي السياسة التي أطلق روحها العديد من المسؤولين منهم الرئيسان الأمريكيان «بوش» الأب والابن والمخضرمة «كوندليزا رايس» والصقر العسكري «رامسفيلد» وغيرهم وغيرهم، عن العالم الجديد والفوضى الخلاَّقة في الشرق الأوسط. والواقع يقول إن البداية لاستعجال تمهيد الأجواء لاحتلال الصهاينة بقية أراضي حلمهم لا يكون بحشد القوة وضرب المناطق واحتلالها والظهور كمعتدٍ على سيادة الدول، بل الظهور كالمدافع عن نفسه ضد هجمات «المسلمين العرب الهمجيين» الذين يعادون «السامية». لا أحلى من أن يُمكنوا في الخطوة الأولي حكم هذه البلاد وشعوبها عبر حليفهم الغرب، لحكام غفلة تساندهم بطانتهم الغافلون المهادنون عملاء الغرب الذين أذاقوا شعوبهم ويلات الظلم وضياع الحريات العامة ونهب البلاد وثرواتها وتركوا الشعب صاحب الأرض والدولة فقيراً جائعاً منغمساً في الملذات قليل التمسك بالمثل والأخلاق إلا من رحم الله. وبعد سنوات طويلة من الظلم والبطش والنهب، يثور الشعب ضد الطبقة المنتفعة في طوفان صادق مُبرر، وهو الحق المشروع من الشارع الذي تركبه بعد حين «التيارات الإسلامية الوسط» لتتحقق الخطوة الثانية لليهود. وفيه تستنشق الشعوب عبير الحرية من زمن. لكن يشوب العبير المنتظر غبار الفوضى الخلاّقة، ضياعٌ للأمن وظهورٌ للمطامع وحرقٌ لأكباد الناس البسطاء. فينتخب الشعب المسلم التيارات الإسلامية المسلمة للحكم بأغلبية معقولة، وتتحقق الخطوة الثالثة لأحفاد حكماء صهيون. وفي الرابعة يستغلون هذه الأجواء المتوترة وهذه الفوضى وفرح الشعب و «مطاريد» الأنظمة السابقة بالحكم، فيُعملون بوسائلهم وأعوانهم ومن استطاعوا أن يخدعوه ويعموا بصيرته لزرع الفتن والتوترات الأمنية ويزينوا لغير المتروين أو المتشدقين بالجهاد أو المتشحين به أن يهاجموا حدود إسرائيل ومن يحرسها لتكون الضحية وهي الغاصب. وليس أدل من ذلك الاتهامات التي ساقتها العديد من الجهات منها جماعة الأخوان المسلمين وأحد أبنائها يتقلد رئاسة الجمهورية بمصر لجهاز المخابرات الإسرائيلي الموساد بالوقوف وراء الهجوم الذي تعرض له موقع لحرس الحدود المصري في سيناء قرب الحدود الشمالية مع الكيان المحتل مساء الخامس من شهر أغسطس الماضي. وهو الهجوم الذي نفذه مجهولون أشارت إليهم بعض الوسائط المصرية والإسرائيلية بأنهم «إسلاميون متشددون» جاءوا من قطاع غزة، وأسفر عن مقتل «16» من الضباط والجنود المصريين وجرحوا «7» آخرين في «شهر رمضان الكريم» وهم يهمون بتناول طعام الإفطار. وفي حين قالت القوات الإسرائيلية إنها قتلت خمسة على الأقل من المهاجمين، جاء في البيان الذي ذكرت وكالات الأنباء انه نُشر على موقع الجماعة، أن إسرائيل دبرت الهجوم في محاولة منها لتقويض حكومة الرئيس المصري محمد مرسي وإظهار أن منطقة سيناء بعد زوال مبارك يمكن أن تكون موطئ قدم «للجهاديين المتشددين». وقالت الجماعة في بيانها: «هذه الجريمة يمكن أن تنسب للموساد الذي يسعى لإجهاض الثورة منذ قيامها، وأكبر دليل يدل على هذا أن إسرائيل أصدرت توجيهاتها لمواطنيها الموجودين في سيناء بمغادرتها على الفور منذ عدة أيام قبل الهجوم دون إبداء أسباب مقنعة». وإذا كان هنالك الكثير من الفوائد التي يمكن أن تجنيها إسرائيل من هذا الهجوم ونسبه إلى قطاع غزة، أكبرها ما ذكرنا من وضع نفسها في خانة الضحية ابتغاء هدفها الأكبر، فهناك هدف آخر يتمثل في ضرب جهود الإخوان فض الحصار الظالم على قطاع غزة الذي تعتبره إسرائيل قطاعاً إرهابياً، وفي نفس الوقت لا يقبل الإخوان المشاركة في حصاره، كما سمح النظام السابق لنفسه بفعل ذلك. مما جعل حركة حماس المسيطرة على القطاع الفلسطيني المتهم تنفي هذه التلميحات على لسان رئيس حكومتها المقالة «إسماعيل هنية» الذي قال «إن إسرائيل هي المسؤولة بطريقة أو أخرى عن هذا الهجوم لإحراج القيادة المصرية وخلق مشكلات على الحدود من أجل تقويض الجهود المبذولة لفك الحصار الإسرائيلي المفروض على قطاع غزة». وعلى صعيد الردود الدولية الغربية التي تتوارى خجولة في قضايا بعينها مثل انتهاكات الكيان الصهيوني والحروب في أفغانستان وباكستان وبورما وغيرها من المناطق، سارعت بعد الهجوم إلى شجبه، وتتبعت مجريات الأحداث بدقة كأنها تحدث على أراضيها، ومنها مطالبة الولاياتالمتحدة الحكومة المصرية بإطلاع إسرائيل بشكل مستمر على تطور العملية العسكرية التي ينفذها الجيش المصري في شبه جزيرة سيناء طوال شهر أغسطس الماضي. وقالت واشنطن إن وزيرة خارجيتها «هيلاري كلينتون» حثت وزير الخارجية المصري «محمد كامل عمرو» نهاية الشهر الماضي، في اتصال هاتفي، على إبقاء خطوط الاتصال مفتوحة مع إسرائيل. وأكدت «كلينتون» أهمية العمل بشفافية مع نشر القاهرة لطائرات ودبابات في سيناء للمرة الأولى منذ معاهدة السلام عام 1979م مع إسرائيل، لملاحقة «المتشددين الإسلاميين» حسب زعمهم. ويبقى القول إننا في بداية مسرحية سياسية سامية توسعية تتعدد فيها الفصول ويشاهد متابعها عجباً لقوم امتهنوا الدهاء والغدر واللعب مع الله وقتل الأنبياء، وتعاونوا مع من تعاونوا من نظرائهم في الغرب، وهو ذات التعاون الذي ذكره الله في كتابه الكريم ووصف من تبعهم بأنه منهم، وميّز فيه هؤلاء عن بقية أهل الكتاب الآخرين. ولسوف نشاهد في فترات قريبة تجدد مثل هذه الحوادث في منطقة سيناء وربما الجولان وغور الأردن لتكتمل الفصول الأخرى، تُنسج فيها صورة إسرائيل الضحية التي تحاربها التنظيمات «الإرهابية» وتساندها الأنظمة الإسلامية في الدول المجاورة مثل مصر وقريباً حسب الفوضى الخلاّقة سوريا ومن بعدها الأردن. وليس غريباً أن تحاول إسرائيل تصعيد الحرب الكلامية مع إيران بحجة برنامجها النووي تمهيداً لمحاولة ضربها ضربة استباقية كما فعلت مع المشروع السوري قبل سنوات قلائل، وهي الحرب التي ستجر المنطقة كلها إلى ذروة الفوضى الخلاّقة، بل ستجر العالم كله إلى فوضى تجني ثمارها إسرائيل كأنها تقول «إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب». وهو سيناريو يحذر منه الكثير من المراقبين ويا للعجب من الغرب نفسه، يتنبأون منه بقرب حدوث الحرب العالمية الثالثة وقيام دولة إسرائيل الكبرى الحاكمة والمسيطرة على العالم. همسة: قال الله تعالى «فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور» صدق الله العظيم.