لم يعد شاغل للناس بسائر ارجاء السودان أكبر من التفكير فيما تحمله المرحلة القادمة من عمر البلاد من تغيرات جذرية ربما قادت إلى تغير خارطة البلاد بأسرها إذا ما أسفرت نتائج الاستفتاء المزمع عقده لتحديد خيار أهل الجنوب من الاستمرار في السودان الموحد بشكله الحالي أو الانفصال عنه بعد أن كشفت نتائج الانتخابات هيمنة المؤتمر الوطني على مفاصل الشمال وتفرد الحركة الشعبية ببسط هيمنتها وسطوتها الكاريزمية على الجنوب التي تتعالى فيها نبرة أصوات كثيرة منادية بالانفصال عن السودان الشمالي، وحيال هذا الوضع الغائم والقاتم الذي تظلله سحب الضباب تطل ثمة اسئلة مشروعة عن شكل العلاقة بين الدولتين الجاراتين إذا ما وقع الانفصال سياسيا واقتصاديا واجتماعيا لا سيما أن هناك العديد من الروابط التي لا سبيل للفكاك منها إلا بوصف خارطة طريق قويمة وسليمة مرسومة على هدى من البصيرة والرؤية الاستراتيجية البعيدة المتعمقة في اصل الأشياء ولعل مسألة توزيع عائدات النفط حال الانفصال والتحكم في آبار البترول وأيلولتها للشمال أو الجنوب تعتبر من أكبر العقبات التي تقف بقوة في طريق أخذ الاستحقاقات. حيث يرى خبراء اقتصاديون استمرار تقاسم عائدات النفط بين الشمال والجنوب بالأنصبة الحالية في حال الانفصال وأرجعوا ذلك إلى تقييد العقود المبرمة بين الحكومة السودانية و شركات النفط الأجنبية الضالعة في الكشف والتنقيب واستخراج البترول لضمان استرداد أموالها التي أنفقتها في قطاع النفط السوداني . ويتوقع الدكتور محمد الناير أنه من المرجح الاستمرار في استكمال العقود حتى نهاية أجلها ومن بعد ذلك يمكن أن يتم منح تراخيص جديدة للشركات من قبل الحكومتين في البلدين المتجاورين وأشار إلى أن الجنوب سيكون مواجه بعدة إشكالات على رأسها افتقاره للبنى التحتية التي تعينه على إنجاز عمليات التصدير والتكرير والنقل لا سيما أنه لا ملاذ له ولا مفر من الاتجاه لاستخدام ميناء بشائر الموجود على البحر الأحمر والذي بالطبع سيتبع لدولة الشمال مما يحتم أن تنشأ ثمة علاقة تعاون بين الدولتين الجارتين وإلا ستجد حكومة الجنوب صعوبة بالغة في النفاذ بمنتجاتها البترولية إلى خارجها خاصة أن الدول المجاورة لها عدا السودان تفتقر هي الاخرى إلى منافذ تطل على مجاري مائية رئيسية باستثناء ميناء مومبسا التي تواجه تعقيدات جغرافية تصعب من نقل الخام السوداني إليها تتمثل في انخفاض جنوب السودان مقارنة بموقع مومبسا الأمر الذي يرغم حكومة الجنوب على إنشاء محطات عديدة لضخ البترول حتى يصل إلى مومبسا إذا ما اختارت ذلك مما يضاعف تكلفة نقل خام النفط القادم من جنوب السودان إلى هناك وبالتالي ستفقد خزينة الجنوب أموالا طائلة لا سيما أن جملة تكلفة الخط الناقل من أنابيب البترول بلغت 600 مليون دولار ويرى الناير أنه من الصعوبة بمكان توفير هذا المبلغ أو ما يقاربه من موازنة دولة وليدة حديثة التكوين مما يرجح كفة استخدام أنابيب النقل الحالية وعدم الاتجاه إلى ما سواها من الخيارات مما يدر دخلا إلى خزينة حكومة الشمال جراء إيجار أنابيب النقل والميناء علاوة على ان اقرب مصفاة لتكرير النفط بالنسبة للجنوب هي مصفاة الأبيض وأنه لا سبيل أيضا لحكومة الجنوب سوى استخدامه لنفس السبب الذي أوردناه عن خطوط نقل البترول من حيث علو تكلفة الإنشاء وصعوبة الاتجاه إلى بدائل أخرى تكلف أكثر من استخدام التي بالشمال السوداني. وتابع الناير أن شمال السودان سيكون عرضة لتأثيرات طفيفة في مضمار الاقتصاد بسبب أن نسبة مقدرة من إنتاج النفط الحالي منحدرة من أراضي الجنوب إلا أن قرار محكمة التحكيم بلاهاي مؤخرا القاضي بتبعية حقول هجليج إلى الشمال بجانب اكتشاف بعض الحقول بالبحر الأحمر ربما يخفف من وطأة تأثيرات الانفصال اقتصاديا لا سيما في مجال إنتاج النفط وتصديره وبالتالي العائدات منه وحذر الناير من مغبة الاعتماد على البترول كمصدر لرفد الخزينة العامة بالموارد المالية لما يتسم به من صفة اصلية قوامها أنه عرضة للنضوب الأمر الذي يستدعي الاهتمام بالقطاع الزراعي بشقيه النباتي والحيواني والعمل على النهوض به بتوفير البنيات التحتية اللازمة لانطلاقته مع توفير مدخلات إنتاجه لا سيما ان السودان يتمتع بميز نسبية كبيرة في إنتاج بعض المحاصيل مثل الصمغ العربي والقطن والكركدي وغيرها، لذا لابد من الاهتمام بذلك والعمل على رفع الإنتاج والإنتاجية فيها رأسيا وأفقيا مع إدخال محاصيل جديدة تحدث تغييرا في التركيبة المحصولية التقليدية الحالية بالاتجاه إلى زراعة واستزراع محاصيل تدر عائدا ماليا مقدرا إلى خزينة الدولة نسبة لارتفاع الطلب عليها مثل الأرز الذي بلغت قيمة فاتوره استيراده مؤخرا 100 مليون دولار في حين أنه يمكن زراعته وإنتاجه بمناطق كثيرة بالبلاد. أما المحاضر بجامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا الدكتور عبد العظيم المهل يرى أن الانفصال يميل ميزان الأفضلية للجنوب في قطاع النفط وسيلقي بتبعات سالبة على الاقتصاد في شمال السودان الذي يعتمد عليه بشكل رئيس في ايرادات الموازنة فتناقص عائداته ربما يقود إلى عدم الإيفاء بالفصل الأول من الموازنة وتناقص الصرف على التنمية وتأخير سداد مرتبات وأجور العاملين بالدولة ودعا المهل إلى إحداث ثورة صناعية شاملة ببناء مصانع للأسمنت والعمل على توطين الصناعات التحويلية لا سيما تلك المرتبطة بالمنتجات الزراعية واشار إلى إلى الفدان الواحد بالمشاريع المرتبطة بالصناعة يخدم 100 عامل بينما يخدم الفدان في القطاع الزراعي التقليدي عاملاً واحداً فقط بإنتاج متذبذب وأضاف أن المبالغ التي رصدت لبرنامج النهضة الزراعية (5) مليار جنيه كان بالأحرى توجيه جزء كبير منها لإنشاء وتأسيس مدن صناعية تحويلية بالقرب من مناطق الإنتاج الزراعي لا ستيعاب أكبر قدر من الأيدي العاطلة لاسيما من جيوش الخريجين الجرارة كما ناشد بضرورة العمل على القفز بالصادرات الصناعية التي يمكن أن تدر حوالي 2 مليار دولار سنويا للخزينة العامة وأضاف أن الاعتماد على الزراعة التقليدية لن يمكن من تحقيق الأهداف المرجوة والمخطط للوصول إليها في الاستراتيجية القومية الشاملة وعلى الحكومة أن تنشط في الدخول في مضمار الصناعات الثقيلة بقوة كما فعلت في مصنع جياد لتجميع السيارات والشاحنات الثقيلة الذي اسهم بشكل كبير في تلبية احتياجات السوق المحلي مع توفيره العديد من الوظائف للعمالة المحلية علاوة على رفده للخزينة العامة بآلاف الدولارات رغم أن المصنع لم يكلف أكثر من 500 مليون دولار فقط تعتبر الآن أصولا وإنتاجه أرباحا.