لم يكن أمام مركزية الحزب الحاكم قبل انتخابات 2010 خيارا للخروج بالولاية الشمالية من حالتي الاحتقان والاستقطاب الحادتين اللتين كانتا تظللان سماءها سوى اختيار شخصية توافقية من قائمة الخمسة التي رفعت اليها، وذلك للخروج بالولاية التي وللمرة الاولى في تاريخها واجهت وقتها ازمة اثنية عاصفة كادت ان تمزق نسيجها الاجتماعي، من المنعطف الذي كانت تمر به. ورغم ان اختيارات المؤتمر الوطني لمرشحيه لمنصب الوالي لم تحظَ بالقبول في معظم الولايات، الا ان اختيار نقيب المحامين الاسبق فتحي خليل حظي بتأييد واسع من قبل مواطني الشمالية بل اسهم في نزع فتيل الازمة بعد ان تراضت عليه كل الاطراف. وما بين يونيو من سنة 2010 وهو التاريخ الذي شهد توليه ادارة الولاية عقب فوزه في الانتخابات، و15 سبتمبر من 2012 وهو تاريخ رحيله عن الدنيا اثر حادث مروري ، جرت الكثير من المياه تحت جسر الولاية التي تسلم خليل دفة قيادتها وهي تترنح بداعي الديون التي كانت تكبلها والتردي الكبير في خدمات مواطنيها، علاوة على تناقص اعداد سكانها بسبب الهجرة الداخلية والخارجية لعدم توافر مقومات البقاء ،ولعل التوافق الذي حظي به خليل وقتها كان يعود الى الكثير من الاسباب لخصها مواطن تحدث (للصحافة) في عام 2010 عقب اختيار خليل وقال يومها»انه عفيف اليد واللسان وخبراته تؤهله لادارة الولاية والحفاظ على المال العام»، اذا بخلاف صفاته الشخصية لعبت خبرات الراحل دورا كبيرا في اقتناع مواطني الولاية بجدارته ،وهذا ماتوضحه سيرته الذاتية التي تشير الى انه من مواليد مدينة وادي حلفا في العام 1947 ،وتخرج في كلية القانون في العام 1973، اما مشواره مع العمل السياسي فقد بدأ باكرا وزاع صيته في جامعة الخرطوم التي كان احد اعضاء لجنتها التنفيذية ونال في احدى الانتخابات اعلى الاصوات بين الاسلاميين ،وشكل له النشاط السياسي تهديدا لمستقبله الاكاديمي وكاد ان يتسبب في ابعاده خارج اسوار الجامعة العريقة ، الا انه ورغم فصله مرتين لاسباب سياسية واصل مسيرته الاكاديمية حتى تخرج في كلية القانون ،ليعمل محاميا لخمس سنوات ،ولأنه كان يمتلك كل صفات القيادة تولي منصب نقيب المحامين السودانيين لاربع دورات متتالية امتدت من العام 1993 الى 2009 ، وخلال هذه الفترة كان من ابرز قيادات الحزب الحاكم بل والمؤثرين في اتخاذ القرارات ،ولم يقتصر دوره على العمل السياسي داخل الحزب ونقابة المحامين بل كان له وجود مؤثر في الهيئة التشريعية القومية التي دخلها في العام 1994 وتولى فيها رئاسة لجنتي التشريع والعدل ،وحقوق الانسان،ويعتبر الراحل احد المشاركين في صياغة دستوري 1998 و2005 ،وكانت له العديد من المشاركات الخارجية. وبهذه السيرة وتلك الصفات الشخصية التي ميزته على غيره سعى الراحل فتحي خليل لترك بصمة واضحة على جدار الولاية الغنية الفقيرة ،واعلن عن نفسه كرجل دولة حقيقي في شهوره الاولى من حكمه حينما اعترف امام جمع من المواطنين بمحلية القولد ان الولاية تعاني كثيرا وتحتاج لاعادة ترتيب مالي واداري وكان تركيزه كبيرا على اصلاح ما افسده دهر الحكومات التي سبقته ،وبعد ان أرسى دعائم نظام اداري ومالي صارم اتجه لتفعيل ملف الاستثمار ونفض الغبار عنه فكان ان نشط في زيارات خارجية الى الخليج والصين لاقناع الشركات والمستثمرين بجدوى الاستثمار في ولاية تمتلك من الخيرات والموارد ماتكفي لو تم استغلالها لاقالت عثرات السودان، ونتيجة لجهوده التي بذلها في هذا الاطار بدأت الكثير من المشروعات الاستثمارية خاصة تلك المتعلقة في التنقيب عن الذهب في اتيان اوكلها، وللمفارقة الغريبة فان آخر ظهور للراحل بالعاصمة كان يوم الاربعاء الماضي من خلال مؤتمر صحفي متعلق ايضا باقتصاد الولاية حيث تناول بالحديث تفاصيل الطريق الرابط بين السودان ومصر الذي تأجل افتتاحه الى يناير القادم ،وعدد يومها خليل المزايا التي يوفرها الطريق باعتباره الرابط الحيوي بين البلدين بالإضافة إلى مساهمته في الحركة التجارية في السودان ومصر وتقليل التهريب بكافة أشكاله بجانب الحد من الهجرة غير الشرعية ،مؤكدا على أن الطريق ظل حلما يراود إنسان الولاية الشمالية وكان من المفترض اكتماله منذ العام الماضي ،ولم ينسَ خليل في آخر مؤتمر صحفي يتحدث فيه الاشارة الى الخيرات التي تتمتع بها الولاية والمتمثلة في الذهب،مبينا جهود ولايته لإنارة المحليات المتبقية وربطها بالشبكة القومية بالإضافة إلى ربط الولاية بالطرق والجسور. ورغم أنَّ خليلاً لم ينجح في انفاذ كامل برنامجه الذي اعلنه الا ان ذلك لم يؤثر علي شعبيته وكانت النزاهة والامانة والشفافية كلمات السر في احتفاظه باحترام المواطنين الذين تدافعوا امس الى جامع دنقلا العجوز للصلاة عليه باعداد لم يسبق لها مثيل بعد سماعهم نبأ رحيله واكتست دنقلا بالسواد وغطى الحزن ارجاءها. وارجع المحلل السياسي شريف برسي الحزن الكبير على رحيل فتحي خليل الى شخصية الرجل الوفاقية والودودة وقال انه في العمل لايجامل ويمضي على نهج الشفافية والوضوح ولايطلق الوعود، وانه متواضع في تعامله الاجتماعي، ويشير شريف برسي في حديث ل(الصحافة) من دنقلا الى ان الراحل كسب ود مواطني الولاية بسبب صفاته الشخصية التي ميزته على غيره من المسؤولين ،علاوة على حرصه على المال العام كما اشار يشير شريف،والذي اكد عدم مجاملة الراحل فيه ،وقال ان رغبته في العمل وتقديم مايفيد الولاية كان كبيرا ،ويتفق رئيس المجلس التشريعي محمد عثمان تنقاسي فيما اشار اليه المحلل السياسي حينما اكد في حديث ل(الصحافة) ان فتحي خليل ورغم قصر فترته الا انه ارسى الكثير من قيم الحكم وقال انه كان يحب الانضباط ويحرص ان يكون غدوة لغيره ، اما عضو تشريعي الولاية عبد العزيز كامل شروني فقد بدا حزينا وهو يتحدث عن الراحل فتحي خليل الذي قال إنه اجتهد كثيرا لتطوير الولاية وتقدمها وخدمة مواطنها، معتبرا في حديث ل(الصحافة) ان رحيل خليل فقد للوطن والولاية على حد سواء.