٭ أعزائي قراء (صدى) ما أن أمسك القلم لأخط هذا اللقاء العزيز بيني وبينكم.. حتى أجد نفسي في عمق الهم العام.. عمقه السحيق الخانق.. وكم كنت أنوي أن أناقش مسائل أخرى تبعد قليلاً عن هم ضروريات الحياة، ولكن واقع هذا العمق يحتويني.. يسد علىَّ منافذ التفكير.. يجعل قلمي يحرن في عناد تام أمام أى موضوع سوى الذي أعيش. ٭ صباح الأربعاء الفائت وقفت كثيراً عند خبر جاءت به صحيفة «السوداني» الغراء في صفحتها الاولى والخبر يقول: الخرطوم: هاجر سليمان هزت جريمة بشعة ارتكبها رب أسرة يدعي (ب.س) سكون قرية مبروكة الوادعة من ضواحي تمبول بولاية الجزيرة، عندما أخرج مسدسه وانهال بالرصاص على أفراد أسرته، فقتل في الحال ابنته وشقيقه وزوجة شقيقه وأصاب والده ووالدته واثنين من أبناء عمه حيث أصاب أحدهم بمؤخرة المسدس عندما نفدت ذخيرته ونجت زوجته من حمام الدم الذي نصبه زوجها لوجودها خارج المنزل. وعلمت «السوداني» أن رب الأسرة دخل في نقاش مع أفراد أسرته لرفضه دراسة ابنته بالجامعة والتي أيد دراستها شقيقه الذي قتل في الحادث ووالده، وعندما احتد النقاش أصرَّ على موقفه، وقال إن ابنته ستدرس الجامعة على جثته، واستخرج مسدسه وانهال بالرصاص على جميع الحاضرين.. وتم القبض عليه ونقل والداه الى الخرطوم لتلقي العلاج لخطورة إصابتهما. ٭ يا الهي.. هذا الخبر يشير بوضوح للنقطة التي وصلت اليها الحالة داخل الأسرة السودانية.. حالة تغيير.. أي تغيير المزاج.. تغيير العلاقات.. ألم تلاحظوا أن حالات العنف داخل الأسرة بلغت مداها.. فالابن يقتل الأب والأب يقتل الابن.. والأخ يقتل الأخت والزوج يذبح الزوجة.. هذا على نطاق الأسرة.. أما خارج الأسرة فالأمثلة بالكوم.. والسبب واحد وواضح وهو الأزمات المتلاحقة وثقافة الحرب الممتدة.. وأم الأزمات التي ولدت في هذه الحالة هى الأزمة الاقتصادية وضيق الحال، وإذا ترك للحس الجمعي أن يعلق على هذه الجريمة لقال (دي ما ضبانة دي بطون ملانه)، وبالفعل هذه ليست غضبة من أن تلتحق الابنة بالجامعة، وإنما تعبير عن حالة متراكمة ساعدت في تفجيرها أداة الحرب اللعينة.. فالمسدس في جيب الأب. ٭ أترحم على الضحايا.. ضحايا الحالة السودانية الجديدة، وأشير الى انها ضمن أجراس الخطر.. فالمواطن العادي لا تهمه نظريات الاقتصاد المعقدة ولا يفهم معنى أن ينخفض التضخم بنسبة بالمائة.. لكن يفهم ذلك عندما ينعكس هذا الكلام على واقعه عندما ينخفض سعر رطل اللبن.. كيلو اللحمة.. دستة البيض.. الرغيف.. الذرة.. الكهرباء.. المياه.. تعريفة المواصلات.. أما عدا ذلك فهو كلام يسمعه عبر أجهزة الإعلام ويقابله بالسخرية والابتسامة الصفراء والعنف داخل الأسرة.. ومزيدٍ من سوء التغذية وأمراضه اللعينة التي قد تذهب بالعقل. ٭ وقد يقول قائل إنها حياة البشر تتفاوت دخولهم ومستويات معيشتهم.. وهذه حقيقة.. ولكن هناك حقيقة أكبر وهى مسؤولية الحكومة في إيجاد حد من التكافل لحفظ الحد الأدنى من السلام الاجتماعي. ٭ ومن خلال الواقع الذي يعيشه المجتمع السوداني في غالبية قطاعاته وشرائحه، نلمس عمق الانقلاب الذي حدث في حياتهم جراء الموجات المستمرة لارتفاع الأسعار وتدني الخدمات، مما هدد وفتك بالنسيج الحي للمجتمع، فقد اختل كل شيء.. وما بقى إلا أن نتعامل مع هذه الأجراس.. أجراس الخطر هذا مع تحياتي وشكري.