عندما التحقنا بوزارة الإعلام فى العهد المايوى وكان من السهل التنقل بين وحداتها، اكتشفنا فى وقت مبكر أن الإذاعة والتلفزيون أجهزة هزازة إما أن تعصف بك فيها الأمزجة السياسية المتقلبة، أو أن تنتهى مريضاً بالضغط والسكرى ولا تجد ثمن الدواء والاستشفاء فتنتهى مستجدياً تسأل الناس. الإذاعة والتلفزيون فى السودان مسميات بلا معاني ولا مباني للأسف، وهذا هو حالها وتاريخها فى السودان، النجومية فيها مرحلة انتقالية، وقد اكتشف ذلك بعض الأذكياء الذين دخلوا هذه الأجهزة فهربوا منها بسرعة البرق. فى الأسبوع الماضى انشغلت الصحف بقضية مذيعة قناة «النيل الأزرق» إسراء عادل درويش التى تم فصلها من التلفزيون بسبب ملابسات طرف فيها قناة «الشروق» كما تقول الصحف، وتذكرت وانا أتابع القضية المسلسل المصرى «سارة» الذى قامت بتمثيله بطريقة قديرة الفنانة حنان ترك التى ادت دورها بدرجة عالية من الحرفية، المقدمة الغنائية للمسلسل تقول: «كان فى عصفور قلبه صغير وريشه قصير وحلمه يرفرف بر السور، كان إنسان من طيف ونور....»، وحكاية العصافير قديمة مع منطقة الإذاعة «الراديو والتلفزيون» ولكنها تختلف فى تفاصيلها، وفى سابق الأزمان كان المذيع عندما يقدم الأغنية يقول بلكنة سريعة أنها من عزف أوركسترا الإذاعة، فتسمعها بعض الحبوبات مثل جدة صديقنا محمد عبد الله عمر فى الباوقة وكأنها «عصفور كسر الإذاعة» وتقول لهم يا اولادى شنو حكاية العصفور الكل يوم بكسر فى الإذاعة؟! ويبدو أن عصفور الإذاعة أو عفريتها قد انتقل إلى مبنى التلفزيون المجاور وملحقاته، وهو لا يكتفى بتكسير الإذاعة ولكن بتطفيش الخامات المبدعة أيضاً والعصافير الجديدة المنافسة له. بروف علي شمو كان قد اكتشف حكاية عصفور الإذاعة منذ وقت مبكر، فلم يرهن قدراته ومهاراته لحوش الإذاعة، فذهب إلى الولاياتالمتحدة مرات ومرات والتحق بجامعاتها المميزة، ورأى وسمع ولتر كرونكايت وهو يختتم نشرته الإخبارية فى CBS قائلاً هكذا الحال اليوم (And that is the way it is)، وشاهد دان راذر الذى كان ينتج برنامج «60 دقيقة» المشهور على نفس القناة، ورأى إدوارد مورو وأندى رومى وبرنارد شو ومايك والاس وبربارا ولترز وولتر وندل وآخرين من عباقرة الإذاعيين فى المحطات الأمريكية ABC, NBC وشاهد استديوهات إنتاج بحجم الساحة الخضراء، وعاد إلى السودان ووجد أن العصفور ما زال يكسر فى الإذاعة، فترك التلفزيون إلى وزارة الإعلام ثم إلى دولة الإمارات حيث أرسى القواعد لصروح إعلامية ضخمة، وهو مازال يعتبر ابو الإعلام هناك، وعاد إلى السودان، ومنذ السبعينيات هجر الإذاعة والتلفزيون بسبب العصفور الذى يبعد المنافسين عدد كبيراً من اقدر وأميز الإعلاميين السودانيين، أحمد عمرابى صاحب القلم الرشيق الذى ذهب سفيراً بالخارجية، والطيب حاج عطية إلى جامعة الخرطوم والفاتح أبو سمرة إلى منظمة الأغذية والزراعة فى روما وغيرهم، وتخلت الإذاعة والتلفزيون عن إذاعيين وإداريين بدرجة ممتاز من أمثال حمدى بدر الدين ومحمد طاهر وحمدى بولاد ومحمد سليمان وصالح محمد صالح ومعاوية حسن فضل الله بسبب سن المعاش، وعمر الجزلى «حمدى قنديل فى مصر مازال نجماً فى الفضائيات المصرية منذ ثورة يوليو 1952م وحتى اليوم»، كما عصفت الأمزجة السياسية وضيق الوظائف وتدنى الراتب بالعديد منهم منذ زمن أبو عاقلة يوسف. بروف شمو ذكر لي فى مناسبة وكنا ننظر إلى طاقم الأوركسترا أمامنا على مسرح النادى العائلى: «منذ أن دخلنا الإذاعة منظر الأوركسترا لم يتغير»، وكيف يمكن أن تتغير الإذاعة والتلفزيون إذا لم يتغير منظر الأوركسترا الحاضرة دائماً فى الشاشة، فالعصفور الذى يكسر الإذاعة لن يغادرها إذا لم تتغير الصورة النمطية لبرامج التلفزيون وتختفى الأوركسترا من الشاشة، مجموعة من الناس يتحدثون وهم ينظرون إلى الأوركسترا بقيادة محمدية فى انتظار الإشارة من المذيع، وكأنما التلفزيون السودانى قد أصبح متعهداً للحفلات فى الداخل والخارج، ومعظم البرامج والسهرات الأوركسترا فيها حاضرة، وهو منظر اختفى فى القنوات التلفزيونية، إلا فى حالات نادرة، حتى فى رمضان حيث تتبارى القنوات فى إنتاج افضل المسلسلات والبرامج الحوارية، قدم لنا التلفزيون السودانى برامج كسيحة بائسة تم تصويرها فى أحياء الخرطوم العشوائية خارج الاستديوهات، اذا ما كانت هناك استديوهات. واستمراراً لتداعيات مسلسل مذيعة النيل الأزرق المحترمة، ذكرت صحيفة «الصحافة» بتاريخ الخميس 13/9/2012م، أنه بات من المؤكد عودة المذيعة إسراء عادل درويش إلى قناة «النيل الأزرق»، وقالت إن مصادر أكددت لها أن هناك وساطة قوية، وأن شخصيات من الوزن الثقيل تدخلت فى الخلاف الذى حدث بين المذيعة والقناة، على طريقة الأجاويد، عودة المذيعة متروكة لتقديرها الشخصى وليس للأجاويد، وهو أمر لن يغير من أن العمل الإذاعى فى السودان لا يعتمد على نظام النجوم المعروف، وهو ينفق على البنيات الهندسية أكثر مما ينفق على المبدعين وتدريبهم وتأهيلهم ورواتبهم ومخصصاتهم، وفى كثير من الدول رواتب المذيعين أعلى بكثير من رواتب رؤساء الدول، والعمل في شركة اتصالات فى السودان أفضل بكثير من العمل فى تلفزيون السودان، ومن المعروف فى مصر مثلاً أن مديري الإذاعات لا بد أن يتدرجوا من كادر الإذاعيين، ويعتبر هذا تقليداً راسخاً هناك، أما عندنا فيمكن للفنيين والإداريين والمهندسين أن يصبحوا مديرين للإذاعة والتلفزيون، والأمر لا علاقة له بالأشخاص ولكن بضرورة أن تكون هناك تقاليد مهنية راسخة تنير الطريق أمام المبدعين. والنجومية فى السودان طريق قصير محفوف بالمخاطر والأشواك، والسقوط منه إلى عالم النسيان سريع وينتهى بالمذلة والهوان، وهو فى كثير من الأحيان يرتبط بنزعات ورغبات شخصية تنتهى مع ذهاب الأشخاص النافذين فى الموقع المعين، يحدث ذلك فى الفن وفى الرياضة وفى السياسة أيضاً. وفى السودان ليس لدينا ما يسمونه نظام النجومية (Star System) كما يوجد فى العواصم السياسية الكبيرة فى اوروبا والولاياتالمتحدةالأمريكية وفى هوليود وبوليود الهندية، وفى العالم اليوم تتم صناعة النجوم بحرفية ومهنية عالية، وهناك متعهدون ومؤسسات تعمل على تفريخ وصناعة النجوم فى مختلف المجالات، فعضو الكونجرس فى الولاياتالمتحدة لا يتم التعرف عليه وانتخابه إلا بعد سلسلة طويلة من عمليات الترويج والتسويق وتحسس الاتجاهات والإعداد النفسى والمهنى لتقلد المنصب أو الوظيفة أو المهنة الفنية. ووفقاً لواقع النجومية فى الولاياتالمتحدة فإن صناعة وخلق النجوم والترويج لهم واستغلالهم تجارياً لإغراض ربحية بحتة، وهو ما يحدث فى صناعة السينما الأمريكية وفى عالم الرياضة مثل كرة القدم والبيسبول. والذى يحدث أن استديوهات السينما الضخمة فى هوليود تبحث عن الأشخاص والوجوه الواعدة التى تصلح للظهور فى المجال المعين سياسة كانت أم رياضة أو فناً أو تلفزيون أو راديو، وغالباً ما يتم اختراع أسماء جديدة لهم وإلصاق خلفيات عن حياتهم جديدة غير حقيقية لتسليط الضوء عليهم أكثر، وهذا يحدث أيضاً فى السينما العربية. ونظام النجومية يركز على الشخصية أكثر من الأداء، وهذه مهمة يقوم بها فريق ضخم من رجال العلاقات العامة والمسؤولين فى المهن المختلفة واستديوهات السينما ومحطات التلفزيون. والنجومية فى السودان تأتى عن طريق الصدفة البحتة، لأن المؤسسات التى تصنع النجوم غير موجودة، ومع ذلك يتم التفريط فى النجوم بسهولة، وفقد التلفزيون السودانى العديد من الأسماء التى لمعت فى مجال العمل الإذاعى بسبب تغير المزاج السياسى فى مجالى الراديو والتلفزيون على مدى سنوات طويلة، ويكاد يكون ذلك سنة ظلت جارية منذ استقلال السودان، فالعديد من المذيعين المرموقين خرجوا من دار الإذاعة إلى مساطب وزارة الاستعلامات ووزارة الإعلام بمسمياتها المختلفة فى مختلف عهود الحكم، وهناك العديد من الأسماء المعروفة التى تركت العمل فى راديو وتلفزيون السودان إما بسبب خلافات سياسية وتغير نظم الحكم أو بسبب عدم قدرة هذه الأجهزة على استيعاب الطموحات الوظيفية للبعض، أو بسبب غضب بعض المسؤولين، وهناك سلسلة طويلة من الأفراد يمكن الإشارة إليهم خاصة بعد فترة عبود والفترة المايوية. وأزمة العمل الإذاعى أكبر من جهود محمد حاتم وحسن فضل المولى، ولن يصلح العطار ما أفسده الدهر، إنها تركة مثقلة ومؤلمة وقصة حزينة فى دولة شحيحة الإنفاق على الإعلام، ولا تدرك أن الحروب والصراعات التى تدور فى عالم اليوم هى حروب معلومات وصراع يلعب فيه الإعلام رأس الرمح وليس الدبابات والصواريخ. وكما قال ولتر كرونكايت هذا هو الحال، ولن يتغير الوضع فى الإعلام السودانى بتدخل من الكاردينال أو الجنرال، فالأزمة داخله مستعصية وقديمة ومتأصلة، والداخل إليه مفقود والخارج منه مولود، ولا مكان لعصفور قلبه صغير وريشه قصير للعيش فيه حتى يكبر وينمو، فعفريت العصفور القديم مازال يكسر الإذاعة.. دعوا العصفورة ترفرف خارج سور العفاريت.