حياة المرء كلها ابتلاء والمؤمن أكثر ابتلاءً من غيره، فالعلاقة طردية بين قوة الإيمان وشدة الابتلاء، فهنئياً لمن ابتلاه الله فصبر ولم يجزع ولم يتأفف من قضائه وقدر الله فيه. وهناك أناس من بني جلدتنا محصهم المولى عزَّ وجلَّ بالابتلاء بشكل من صنوف الإعاقة «حركية ذهنية عمى صمم بكم»، فلم يركنوا إليها برهة ولم يتعجلوا أمرهم رفعاً لراية الاستسلام خنوعاً وقبوعاً في بهو قصي في المجتمع يستدر عاطفة الأصحاء المنعمين ومصدراً للشفقة والرحمة عليهم، بل نافسوا الأصحاء في شتى ضروب الحياة التي في مقدمتها سبل طلب العلم والارتقاء في سلمه، متخطين بفضل قوة عزيمتهم وصدق نيتهم أرتالاً من منافسيهم ممن يتمتعون بنعمة الحركة والنظر والسمع وغيرها من مبهجات الحياة بعيداً عن منغصاتها. فمع بواكير عام 2011م تناولنا في هذا الملف قصة الطالب بخيت موسى بخيت الذي ولج إلى المرحلة الجامعية آنذاك من أوسع أبوابها، وخشية قصم ظهره والمحافظة على مشاعره الرقيقة من خدش شهر قصة نبوغه رغم إعاقته الحركية التي لازمته منذ الفصل الرابع بمرحلة الأساس، آثرنا عدم ذكر اسمه والاكتفاء بالإشارة إليه بالحرف «س»، وجاء في متن حديثنا عنه أن الطالب «س» «19 عاماً» نشأ منذ نعومة أظافره معافى في بيئة تكتنز جنباتها بكل مقومات الحياة الكريمة والعيش الكريم وساهمت في نجابته وظهور إمكاناته العقلية الفذة، غير أنه كما يقول المثل العامي وصفاً لتقلبات الدهر التي لا تنقضي وصروف الحياة لا متناهية العجائب المثيرة دوما للعجب والاندهاش «الدنيا تلد بلا مخاض»، ألم ب «س» مرض خفيف الوطأة في ظاهره، إلا أنه مع مرور الأيام وتقادم السنين قاد إلى شل حركته، وصار عصيَّاً عليه الوصول والرجوع إلى مدرسته، بيد أنه لما يحمل من جينات أصيلة ومتأصلة يغلب على سمتها الإصرار على مواصلة التعليم، سار في دربه الشائك حتى وصل إلى المرحلة الجامعية في صبر ومثابرة، والآن يصل إلى مدارج جامعته بشق الأنفس جراء تكبد وعثاء السفر وشدة الصعاب، فما يبديه «س» من جلد وصبر يستحق أن يكون مثالاً يحتذى وأمثاله كثر في المجتمع، وأن بكل ربع من المعاقين نماذج. ليواصل بخيت دراسته الجامعية بنفس العزيمة والإصرار على كسر مجاديف الإعاقة والسير عكس تيارها الجارف الذي أعمل آلته الصدئة في جسده النحيل حتى لا يرى من بدنه سوى هندامه، ومع ذلك واصل بخيت رحلة تفوقه العلمي ولم يتزحزح عن دفة قيادة النجاح، ليقود زملاءه في سيرك النجاح، وهو صابر جلد، غير أن الإعاقة أبت إلا المواصلة في نخر جسده، وهو يرفض رفع راية الاستسلام إلى أن أسلم روحه إلى بارئه بعد أن جلس لبعض امتحانات الفصل الأول في السنة الثانية التي لم تنته بعد، ليكون انتقاله إلى الدار الآخرة صبيحة يوم الأربعاء الماضي فاجعة في سماء وأرض كلية التربية الحصاحصيا التي انتقلت بكليتها إدارة وطلاباً وموظفين إلى الكتير مساعد مسقط رأس بخيت، في موكب مهيب يجل عن الوصف وينم عن كم الود والاحترام والتعاضد بين أفراد أسرة كلية التربية الحصاحيصا التي أكد منسوبوها بتسارعهم في موكب مهيب قوامه ما يناهز خمس حافلات ونعيهم لبخيت، أنها بحق كلية للتربية وغرس القيم التي تضعضعت وخبا وميضها في بقاع كثيرة. وقد أوضح والد الراحل بخيت وعمه بخيت أحمد الإمام، أن مجيء أسرة كلية التربية الحصاحيصا لأداء واجب العزاء في فقدهم الجلل خفف عنهم كثيراً من وطأة المصيبة وعنفوان الحرمان السرمدي من رؤية بخيت مرة أخرى، وأعربوا عن جزيل شكرهم وامتنانهم لكل منسوبي كلية التربية الحصاحصيا، على ما أبدوه من مشاعر جياشة تعبر عن فقدهم الحقيقي لابنهم بخيت الذي ضرب مثالاً يستحق الوقوف والتبتل في محرابه ملياً، استلهاماً للعبر وشحذاً للهمم.