يواجه السيد رئيس الجمهورية تحديات كبيرة جداً تتفاوت مستوياتها رأسيا وافقياً داخلياً وخارجياً، وقد واجه تلك التحديات للامانة والتاريخ بشجاعة قل نظيرها في التاريخ الحديث، لكن كتابة دستور دائم للبلاد في هذه المرحلة تبدو من اكثر التحديات تعقيداً.. ذلك ان الدستور القادم ينظر اليه البعض وكأنه المفتاح السحري لحل مشكلات الحكم في البلاد، وينظر اليه البعض الآخر على أنه عقد بين الدولة والمجتع لا يمكن ابرامه بدون توفر الثقة. وبغض النظر عن وجاهة هذا الرأي او ذاك فإن الواقع المعاش يطرح أسئلة ربما لا نتجاوز الحقيقة اذا قلنا إنها اسئلة تتعلق بالاشكالات التي تعاني منها الدولة وادارة المجتمعات في كل انحاء العالم، كما نرى ذلك في اسبابنا وايطاليا وانجلترا وحتى في فرنسا صاحبة فكرة الدولة، ومع ذلك ما يواجهه السيد الرئيس يبقى استثناء من جهة تراكم الاشكالات المتعلقة بالادارة وهيكلة الحكم وتردي الاحوال المعيشية وانحسار الحماس الوطني. ربما ولفائدة ايجاد بيئة تحاورية تشاورية توافقية ان نطرح بعض الاشكالات والتحديات عشية «نداء الامة لكتابة دستور جديد».. من هذه الاسئلة: ٭ إن من أقسى التحديات التي نعيشها الآن هي التباعد الكبير بعد اكثر من عقدين من حكم الانقاذ بين تطلعات المجتمع السوداني واداء الاجهزة الحكومية حتى وصلنا لواقع عكس تطور المجتمع السوداني في فهم حقوقه وواجباته وترقٍ في تطلعاته لدولة المواطنة والحقوق والعدالة الاجتماعية، فهذا الواقع المتطور لم ترتق اليه الادارات الحكومية التي تعيش في حالة صراع بائس حتى داخل ادارات الوزارة الواحدة، بل تم رهن الخدمة المدنية للمجاملة والمصالح الضيقة لابناء القرية الواحدة، او الدفعة الواحدة او الحزب الواحد. واننا اذ ننعى رصانة الخدمة المدنية وغياب المحاسبة والشفافية وقعنا في بؤس لا نحسد عليه، ذلك البؤس المتمثل في عدم قدرتنا على التغيير والتحول لترسيخ مفاهيم الأمانة والقيم والقوانين، وتأسيس دولة المواطنة والعدالة الاجتماعية!! وعلى طريقة فيصل القاسم في التساؤل في برنامج «الاتجاه المعاكس» هل ستكون كتابة الدستور في هذا الوقت تقنيناً لأداء المؤسسات والأجهزة الحكومية التي لا تحترم نصوص الدستور؟! أم أن كتابة الدستور في هذا الوقت بالذات أصبحت حتمية كي نتمكن من ترسيخ الحكم الراشد؟! ٭ السؤال الثاني: نحن نعيش في وسط عربي افريقي يعيش مركزية الحكم بوله لا فكاك منه، ونحن في السودان نعيش مفاهيم سطحية جداً للحكم اللامركزي، ومهما جادلنا واكثرنا جدالنا فإن ما نعيشه اليوم ونمارسه لا يرقى لمفهوم الحكم اللامركزي، فهو بالكاد يمكن أن يكون ادارة محلية، ولا نحتاج لجهد لاثبات مركزية المال والقرار السياسي وغيرها، فهل سنكتب دستوراً جديداً نردد بين دفتيه مفردات الحكم اللامركزي او الفيدرالية دون بذل اي جهد قبل كتابتها في الدستور للتفاكر حولها والتشاور والوصول الى عقيدة راسخة لتطبيق الحكم اللامركزي بثبات وشجاعة واعتراف كامل بأهميته للسودانيين في هذه المرحلة؟! للأسف الشديد إن تصورنا للحكم ليس مبنياً على تراثنا وإرثنا في الحكم والادارة، ولا هو قائم على بحوث ودرسات عميقة تهدف لبناء مستقبل آمن.. إن الاهتمام المتجذر بمستوى واحد من الحكم هو الذي جعل النخب في الخرطوم تتحاور وتتجادل حول من سيكتب الدستور وليس كيف يكتب الدستور، وكأننا لم نبارح عشية الاستقلال رغم كل الدماء التي سالت والموارد التي أُهدرت لم نقف لنتساءل اسئلة عميقة وهادئة ماذا نريد من الدستور الجديد بناء الامة أم بناء الدولة؟! ام كلاهما وكيف؟! ٭ السؤال الثالث: ان من اكبر التحديات التي تواجه السودانيين وعلى رأسهم رئيس الجمهورية هي أن الأمة السودانية تحتاج لكي نتوجه لكتابة دستور دائم الى حالة وجدانية مستقرة متوافقة متطلعة الى مستقبل آمن، وعلى العكس من ذلك نحن نعيش حالة من الاحباط واليأس.. والا كيف نفسر هجرة مئات الآلاف من الاكاديميين والعلماء والمثقفين بعضهم تجاوز الخمسين عاماً من عمره.. فهؤلاء لم يهاجروا من الريف الفقير المحروم من أبسط ضروريات الحياة.. هؤلاء هاجروا من العاصمة «حيث الطيارة بتقوم والرئيس بنوم»!! إن توتر العلاقة بين الحكام على كافة مستويات السلطة وبين المواطنين حد فقدان الثقة، هي التي تجعل شرعية الحكم نفسه في المحك، وغياب العدالة على كافة مستوياتها هو الذي يزعزع الثقة في المستقبل الآمن. إن بشريات البترول والتعدين ومصفاة الذهب لم تستطع ان تزرع الامل في نفوس السودانيين، لأن غياب المحاسبة والشفافية والعدالة الاجتماعية تجعل هذه البشريات لا تعني شيئاً للعامة!!! اذن ما هي الافكار الجديدة التي نتوجه بها الى الجمهور كي نعيد الطمأنينة الى الوجدان الوطني؟ وما هي الخطوات العملية التي يجب ان نخطوها لنبدأ رص البنيان الوطني؟! في اعتقادي المتواضع ان الحوار المبني على احترام الآخر هو من اهم الخطوات في اتجاه بناء الثقة. إن الحوار الوطني يجب ان يرقى الى مستوى اخلاقي ارفع من مجرد السماح للآخر بالتعبير عن رأيه، بل يجب تمكين الآخر من المساهمة العملية على قدم المساواة فكراً وتخطيطاً وانجازاً في المشروع الوطني بدءاً من كتابة الدستور. ٭ السؤال الرابع: ان السودانيين في حالة توق شديد لرد الاعتبار لارادتهم الوطنية، ولن يهدأ لهم بال حتى يترجموا هذه الارادة في مشروع وطني قومي ناجح يعيد الاعتبار لكرامتهم الوطنية، ويقشع الصدأ عن مواهبهم المعطلة!! ان القيد الثقيل الذي اقعد الارادة الوطنية عن الانطلاق هو اعتقاد بعض الجماعات او التنظيمات او المجتمعات أنها وحدها تملك القدرة على انجاز «المشروع الوطني» وهناك بجانب هذا الاعتقاد معضلة اخلاقية، وهي معضلة القاء اللوم على هذه المجموعة او تلك الجماعة، وهي معضلة اخلاقية، لأن الوقت قد ازف كي نعتبر جميعا بما آل اليه حالنا، ولكي نتساءل ما هو الدرس المستفاد وما هو المخرج الآمن؟! إن مستقبل السودان في خطر، وما نحتاجه لضمان المستقبل الآمن بإذن الله هو اعادة ملايين المتشردين والمتشردات والنازحين والنازحات واللاجئين واللاجئات والمهاجرين والمهاجرات والصامتين والصامتات والمقاتلين والمقاتلات والماكرين والماكرات والحاسدين الحاسدات الى الحياة الطبيعية حياة احساس المواطن بوطنه وكرامته.. الى حياة الاحساس بالسيادة والاحساس بأننا امة يمكن ان ان نكون في حالة صعود.. وبغير هذه الروح لا يمكننا أن نتوجه الى كتابة دستور نطمع في أن يكون عامل توحد وتضامن، وعلى العكس من ذلك سيستثمر كل حسب «عاهته الوطنية» نداء الدستور لصالح مشروعه الخاص، وهكذا لن نفلح لا سمح الله لا في بناء امة ولا في كتابة دستور.. وإذا سلمنا بهذا سيطرح السؤال المنطقي نفسه: كيف نبدأ التوافق الوطني؟ من يطرح مبادرته؟ من المسؤول عن تهيئة بيئة الصدق والاحترام ليتداعى العقل الجمعي الوطني السوداني؟! ٭ السؤال الخامس... من هم المعنيون بكتابة الدستور؟ هل يكفي ان نوجه النداء الى مجموعات ظلت تحتكر تصميم «الدساتير» منذ الاستقلال؟! ام ان هناك فاعلين جدداً وعلاقات جديدة ومستويات جديدة للحكم غير المركزي اصبح عدم تجاوزهم ليس صعباً فحسب بل مستحيلاً! ويجب ان نعترف بأننا اصبحنا كيانات جغرافية تحتاج الى حوار علمي حول الحكم اللامركزي، وان هذه الكيانات الجغرافية لا يمكن ان تعود الى العزلة الاجتماعية الثقافية الاقتصادية السياسية، بل تتوق الي فاعلية كاملة.. هذه الفاعلية سيدي الرئيس لا تتم الا بالالتفات الى هذه المجتمعات والتحاور مع اداراتها ونخبها ووجهائها وممثليها سواء أكانوا رجال دين او مثقفين او رجال ادارة اهلية او فاعلين سياسيين او شرائح فئوية مختلفة او حتى «حملة سلاح».. واصبح الصبح على السودان عشية ندائكم لكتابة الدستور، وهو عبارة عن كيانات جغرافية.. هذه الكيانات ليست أمراً سيئاً او معيقاً لبناء الدولة او تكوين الامة، على العكس يمكن ان تكون نواة لتأسيس جمهورية قوية ذات مركز قوي مهاب وأقاليم حرة ناهضة تملك السلطة المحلية «وليس فقط الادارة المحلية» لادارة مواردها وتطوير ثقافاتها، تتكامل اقصاديا وتنمويا، فلا مجال للانفلاق او الانفصال، فقد اثبت الواقع العملي على الصعيد العالمي والاقليمي أن الاقاليم الجغرافية لن تختفي، ولكنها تتكامل وتتشارك، لذلك نحن لكي نذهب الى كتابة دستور جديد يجب ان نتساءل من هم المعنيون بكتابة الدستور؟ انهم بعد ستة عقود من الاستقلال فاعلون جدد بمقدور السيد الرئيس أن يوفر بيئة الحوار الوطني الصالحة لتفاعلهم الايجابي من اجل وطن قوي. ٭ السؤال السادس: ان استسهال كتابة نصوص الدستور كما درجنا في الماضي بتكوين لجنة من عشرة اشخاص او ثلاثة كما في احدي المرات لم يعد ممكناً.. كذلك درجت بعض الجهات الرسمية في السنوات الماضية على نقل «أدبيات الدول» سواء أكانت استراتيجيات قومية او مشروعات اقتصادية او ...الخ.. خاصة من ماليزيا وغيرها.. ايضا لم يعد هذا «الشف» مجدياً لسبب جوهري ساطع، وهو ان تجربتنا الوطنية قد نضجت واستوت بحيث لن تجعلنا نتجه لكتابة دستور او صناعته كما يحلو للمجلس الاستشاري لوزارة العدل ان يصفه، بل ستمكننا تجربتنا الوطنية من نحته لصلابتها وقسوتها ونجر مفرداته من عمق أصالتنا. إن الشعب السوداني توفر على تجربة مرة وقاسية طوال فترة الدولة الوطنية، وسيتوجه بدماء الشهداء وبقساوة الصراع السياسي وبالنفوس التي ذاقت مرارة الكيد والمكر والحسد حتى بين ابناء الجماعة او المجموعة او الحزب الواحد، وبفداحة ثمن الموارد المهدرة، وبحالة الامهات المشردات المزرية، وبواقع الاطفال الايتام المؤلم، واقسى من كل هذا وذاك وللمفارقة بخسارتنا للعقول المهاجرة.. وبتفرد الشخصيات السودانية من اكاديميين واقتصاديين وباحثين وعسكريين ساهموا في كتابة دساتير كثير من الدول العربية والافريقية... وفي بناء جيوشها وتأسيس جامعاتها وشركاتها.. بكل هذه المرارات والآلام والإخفاقات والحسرات، سنتوجه لنحت دستور يأخذ صلابته من عمق التجربة الوطنية ودروسها وعبرها، وسنكتب ديباجته بدمائنا ونضع الشعار والنشيد موضع النحر والقلادة، لأن ما سنكتبه هو خلاصة تجربة مرة ممهورة بالدماء والفاقة والتهجير. سيدي الرئيس إن تهيئة بيئة وطنية لكتابة الدستور ليست صعبة، لكن الصعب بل المستحيل أن يعيش السودانيون بعد هذه التجارب تحت ظل قوانين تجعلهم يصمتون عن الحق والحرية، ويتعاملون مع الجور والظلم والفساد، رغم معرفتم للحق ورغم تأنيب ضمائرهم وقناعاتهم الأخلاقية. لقد أصبحت مسألة كتابة دستور نحترم قوانينه المنبثقة عن نصوصه مسألة وجود إنساني.. مسألة اخلاق.. مسألة ادراك المجتمع السوداني لحقيقة انه لا يستطيع العيش في هذا الوطن، ليس فقط بسبب سوء ادارة الموارد، ولكن لأن التناقضات بين الشعار والواقع اصبحت لا تسقيم معها حياة كريمة!! وتهيئة المناخ لكتابة الدستور لا تعني بالضرورة حكومة انتقالية او ترضية هذا الحزب او ذاك، بل تعني أبعد من ذلك.. تعني ايقاظ روح الامة من القاعدة الى القمة... وتعني القدرة على الالهام وادارة حوار صادق وهادف بين شرائح المجتمع كافة بغض النظر عن أعراقهم أو أحزابهم أو معتقداتهم. إننا نريد أن نوقظ الأمة لتعكس روحها وأصالتها في الدستور الذي ستحترمه وتصونه!!