أعادتنا مجريات الأحداث فى جنوب كردفان بأحزانها وهمومها وملف الازمة فيها، الى الكتابة مرة اخرى فى الصحف للإدلاء بشهادتنا بعد ان قررنا التوقف من تلقاء انفسنا مستلهمين المعنى الذى ذهب اليه ايليا ابو ماضى عندما قال: قالت سكتّ وما سكتّ سدى أعيا الكلام عليك أم نفدا؟ إنّا عرفنا فيك ذا كرم ما إن عرفنا فيك مقتصدا فاطلق يراعك ينطلق خببا واحلل لسانك يحلل العقدا ما قيمة الإنسان معتقدا إن لم يقل للناس ما اعتقدا؟ والجيش تحت البند محتشدا إن لم يكن للحرب محتشدا؟ والنور مستترا؟ فقلت لها كفّي الملامة واقصري الفندا ماذا يفيد الصوت مرتفعا إن لم يكن للصوت ثمّ صدى؟ والنور منبثقا ومنتشرا إن لم يكن للناس فيه هدى؟ إنّ الحوادث في تتابعها أبدلني من ضلّتي رشدا ما خانني فكري ولا قلمي لكن رأيت الشعر قد كسدا نكتب وليس لنا ما نعتقه كما فعل شاعر الغزل عمرو بن كلثوم عندما تنسك واعتزل الغزل، حتى إذا ما اضطرته الظروف لقول الشعر قال تسعة أبيات واعتق مقابلها تسعة رقاب، والأبيات التى قالها هى: تَقُولُ وَلِيدَتي، لَمّا رَأَتْني ٭٭ طربتُ، وكنتُ قد أقصرتُ حينا: أَرَاكَ اليَوْمَ قَدْ أَحْدَثْتَ شَوْقاً ٭٭ وَعَادَ لَكَ الهَوَى داءً دَفينا وكنتَ زعمتَ أنكَ ذو عزاءٍ ٭٭ إذا ما شئتَ، فارقتَ القرينا بربكَ، هلْ أتاكَ لها رسولٌ ٭٭ فشاقكَ، أمْ لقيتَ لها خدينا؟ فَقُلْتُ: شَكَا إلَيَّ أَخٌ مُحِبٌّ ٭٭ كَبَعْضِ زَمَانِنَا، إذْ تَعْلَمينا فَقَصَّ عَلَيَّ مَا يَلْقَى بِهِنْدٍ ٭٭ فَوَافَقَ بَعْضَ ما قَدْ تَعْرِفينا وذو الشوق القديم وإن تعزى ٭٭ مَشوقٌ حينَ يَلْقَى العَاشقينا وكم من خلة أعرضتُ عنها ٭٭ لغيرِ قِلى وَكُنْتُ بها ضَنينا أَرَدْتُ فِرَاقَها وَصَبَرْتُ عَنْها ٭٭ ولو جنّ الفؤادُ بها جنونا وبالطبع من بين ماجذبنا للكتابة المطارحات التى دارت فى الصحف بين الوالى احمد هارون والصحافى الهندى عز الدين، وقد أعجبتنى شجاعة احمد هارون حين قال إنه مستعد لمفاوضة قطاع الشمال او اى محام عن المتمردين إن كان ذلك سيوقف الحرب ويحقق السلام. واختلفنا مع احمد هارون فى مواقف اخرى لكن الذى اختلف فيه معه الهندى هو الذى نتفق فيه مع الوالى «لا بد من مفاوضة من صنع الحرب ومن يؤثر فيها حتى لو كان هو قطاع الشمال، فدماء ابناء جنوب كردفان ليست رخيصة حتى نريق المزيد منها»، والدرس الذى ارجو ان يكون الاخ الوالى قد استفاده من علاقته مع الحلو، هو ان الامر يجب ان يكون امر مؤسسات لا افراد، وقد سرنى ان وفداً كبيراً من الاحزاب السياسية بجنوب كردفان وصل العاصمة الخرطوم والتقى معظم النخب وقطاعات المجتمع المدنى ورئاسة الاحزاب، لبلورة رؤية لتحقيق السلام فى الولاية، فهذه الاحداث اعادتنا لصفحات «الصحافة» الغراء لندلي برأينا، ولا مناص من ذلك قياماً بواجب الشهادة، فالشكر لصحيفة «الصحافة» الغراء منبر الرأى الحر، لكن الموضوعات التى نريد ان نتطرق لها كثيرة ومتشابكة وسنمر عليها سريعاً. «1» مقاربات فكرية حول النزاعات ووسائل فضها: يقول العلامة عبد الرحمن ابن خلدون فى كتابه «العبر وديوان المبتدأ والخبر فى ايام العرب والعجم والبربر» والمشهور بمقدمة ابن خلدون: «اعلم ان الحروب وانواع المقاتلة لم تزل واقعة فى الخليقة منذ براها الله، وأصلها إرادة انتقام بعض البشر من بعض، ويتعصب لكل منهما اهل عصبيته، فإذا تنازعوا لذلك وتوافقت الطائفتان، احداهما تطلب الانتقام والاخرى تدافع، كانت الحرب، وهو امر طبيعى فى البشر لا تخلو منه امة ولا جيل». ورأى ابن خلدون هذا اعتمده معظم علماء الاجتماع المعاصرين ولم يخرجوا عنه، فقد اورد الدكتور محمد حسن فضل الله فى كتابه «المنهج الاسلامى لفض النزاعات» نقلا عن الدكتور جهاد عودة: «ان الصراع والنزاع بصفة عامة نشاط انسانى ينشأ عن رغبة طرفين او اكثر فى القيام بأعمال متعارضة فيما بينهم، فعندما تشعر الاطراف المتنازعة ان هناك مصالح يمكن ان تجنيها جراء الانخراط فى الصراع، تقدم على الدخول فيه، وتختلف أشكال الصراع وفقا لمحصلة اعتقادات وتصورات ورغبات القوى المشاركة فى ادواره» عاش السودان خلال السنوات القليلة الماضية ومازال يعيش صوراً مختلفة من صور النزاعات والصراعات، بعضها داخلى كتلك التى تجرى الآن فى دارفور ومنطقتى جنوب كردفان والنيل الأزرق، وبعضها خارجى مثل الذى يجرى بين دولتى شمال وجنوب السوان، وقد تم اتباع عدد من الوسائل لتجاوز هذه النزاعات والوصول الى سلام مستدام، وربما يلزمنا أن نتعرض فى هذا المقال الى جوانب مفاهيمية وفكرية حول النزاعات ووسائل فضها طالما أن البلاد تعيش اجواء التفاوض وتتلمس الطريق الى السلام، فأصل النزاع فى اللغة النزع، جاء فى لسان العرب النزع الجذب والمنازعة المجاذبة والمنازعة فى الخصومة مجاذبة الحجج، والتنازع التخاصم، وتنازع القوم اختصموا، ومن هنا نقول النزاع يعنى وجود خلاف وتعارض فى وجهات النظر ربما تم التعبير عنه بصورة عنيفة تعرف بالحرب والقتال، والحرب بالطبع لا تنشأ فجأة انما تمر بمراحل عديدة هى: مرحلة تشكيل النزاع، وتبدأ بالادعاء وتشكيل المواقف ثم التصعيد وهى مرحلة إطلاق التصريحات العدوانية، ثم التفاقم وهى مرحلة استخدام الوسائل العنيفة للتعبير عن الموقف تجاه الآخر، ثم تأتى مرحلة التحسين وهى مرحلة تشكيل القناعات الداخلية للتعبير عن المطالب بوسائل غير عنيفة، ثم تأتى المرحلة الأخيرة التى تتعاظم فيها القناعة باستخدام الوسائل السلمية، مثل التفاوض لتسوية الخلافات او الخضوع للتحكيم، وعلماء الاجتماع يرجعون اسباب النزاعات الى عدة اسباب تشمل الصراع على الموارد المتاحة، والسلطة السياسية، واختلاف الافكار والمعتقدات ووجهات النظر حول قضايا كبرى مثل الهوية وايديولوجية الحكم وفلسفته، واختلاف الاعراق، والشعور بالظلم والغبن، وانتقاص الحقوق او ما يطلق عليه حديثا بالتهميش. ولحسن الحظ اسباب الصراع فى جنوب كردفان ليس من بينها قضايا الاعراق والهوية، لذلك فإن تجاوزها فى تقديرنا ممكن وميسور، ومركز دراسات التماس وبعد اقل من شهر من اندلاع الحرب فى المنطقتين عقد حلقة مدارسة اقرت ضرورة اتباع الطرق السلمية فى تسوية النزاع، لكن ما كان ذلك الصوت فى تلك الفترة يمكن ان يلقى أذناً صاغية، بل ربما وقع اصحابه إذا ما جاهروا به فى تلك الفترة تحت نيران من سماهم الوالى احمد هارون المكارثيين الجدد، لكن اليوم وبعد الدمار الكبير التى شهدته المنطقتان والخسارات الكبيرة التى لحقت بالمواطنين وتوجه دولة الجنوب لتسوية خلافاتها مع الشمال، فإن قناعة الطرفين باستخدام الوسائل غير العنيفة والارادة لصناعة سلام مستدام تنامت بطريقة تبشر بحدوث اختراق كبير فى حل القضايا موضع الخلاف المطروحة للتفاوض الآن، ولعل ما تقوم به الوساطة الافريقية عالية المستوى يجمع بين الوساطة والمساعى الحميدة، ونحن ندعو مراكز الدراسات والنخب المثقفة إلى القيام بتحقيق حول اسباب النزاع لاستجلاء كوامنه سعياً نحو تحقيق سلام مستدام يخاطب كل اسباب النزاع، وربما يلزمنا هنا استلهام القيم والمبادئ الاسلامية التى تساعد على السلام الاجتماعى مثل مبدأ حرية الاعتقاد، فلا مجال لإكراه الآخرين على عقيدة أو دين أو ايديولوجية أو ثقافة، ومبدأ المساواة فى الحقوق والواجبات «ان الله اذهب عنكم عيبة الجاهلية وفخرها بالآباء، الناس بنو آدم وآدم من تراب» «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير». ومبدأ التسامح والتسامح كما جاء فى اعلان المبادئ لليونسكو عام1995 يعنى احترام التعدد والاختلاف، واحترام حق الآخرين فى الحياة والتعبير، والاعتراف بالآخر والتعايش معه ومبدأ العدل وتحريم الظلم. وإنى لأعجب من موقف المتنطعين الفاجرين فى الخصومة والعداء، وكأنهم لم يقرأوا الآية الكريمة «عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة والله قدير والله غفور رحيم». ولقد اعجبنى موقف الاحزاب السياسية فى جنوب كردفان وهم يقودون مبادرة لبلورة رؤية يتفق حولها اغلب الناس ان لم يجمعوا عليها، تصبح إطارا لتحقيق السلام واستدامته، ولا بد من ابداء رأينا دون مواربة حول القضايا المطروحة وهى: أولاً مبدأ التفاوض والحل السلمى: نؤيد هذا المبدأ وندعو له، فالحرب فى جنوب كردفان يجب ألا تكون حرباً صفرية يسحق فيها طرف الطرف الآخر، ويجب أن تكون لها نهاية ونهاية قريبة. ثانياً من هم أطراف التفاوض: إن التفاوض ينبغى أن يكون مع الجهة التى أعلنت التمرد وتقود القتال الآن، وهى الحركة الشعبية قطاع الشمال، أما كونها ذات ارتباط بالجنوب وهو الآن دولة ذات سيادة فهذا هو احد موضوعات التفاوض، ولا يمكن توقيع سلام دون فك الارتباط والاتفاق على توفيق الاوضاع. ثالثاً موضوعات التفاوض: لا بد من تحرير اسباب النزاع ومناقشة اسس تجاوزها، وإشراك كافة قطاعات المجتمع فى جنوب كردفان لنزع فتيل التوتر وإقتلاع الاسباب الكامنة المسببة للنزاع، ولا بد من الاتفاق على مبادئ عامة وثوابت يتم الالتزام بها. رابعاً ما بعد توقيع الاتفاق: ننادى بدور أكبر لقطاعات المجتمع المدنى لتنزيل الاتفاقية وتنفيذها وخلق السلام الاجتماعى، فلا مجال لثنائية تجعل البعض واقفين على الرصيف وقضايا الولاية المصيرية يقرر فيها شريكان متشاكسان. «2» أبناء النوبة الانكفاء على النفس ومخاوف الاصطفاف الإثني أ- اسوأ ما مرت به منطقة جبال النوبة هو سياسة المناطق المقفولة التى عرفت «بسياسة النوبة Nuba Policy» التى هندسها انجس جيلان وطبقت ايام الاستعمار، فقد بلغت الجرأة بالمستعمرين أن حاولوا منع دخول الكساء الى جبال النوبة، ففى 10/11/1934م كتب دوقلاس نيوبولد حاكم كردفان الى د. ن ماكاديار السكرتير الادارى يستعجله استصدار قرار يمنع بموجبه ادخال الكساء للنوبة «دار الوثائق القومية». وصمموا لهم نظاماً تعليمياً خاصاً، ومنعوا تزاوج النوبة مع الآخرين، وفى نوفمبر 1937م انشأت الارسالية مركزاً لها فى الابيض ونادياً وداخلية لابناء النوبة، واستصدرت قراراً يمنع تزاوج النوبة خارج اهلهم الا بمعرفة ضابط مختص.. انظر مقالنا فى صحيفة «الصحافة» العدد «6567» «جنوب كردفان جدلية التعايش والصراع». وقد تم تجاوز هذه السياسة لكن آثارها لم تزل باقية، فهى ولَّدت فى بعض ابناء النوبة ميلاً الى الانعزال والانكفاء على النفس. ومعظم الاحزاب التى اسسوها للمشاركة فى العمل السياسى فشلت فى استقطاب ابناء السودان من الولايات الاخرى، فظلت احزاباً اقليمية محصورة فى أبناء النوبة، واتحاد عام جبال النوبة انضم إليه بعض الشخصيات من ابناء الولاية من غير ابناء النوبة امثال المرحوم قمر حسين رحمة الذى ما لبث ان تركه لينضم لحزب الامة، وهناك الحزب القومى المتحد ومدارس الحزب القومى المختلفة والحركة الشعبية قطاع جبال النوبة، اضف الى ذلك التنظيمات السرية مثل كمولو وتنظيم الكتلة السوداء والتنظيم الدائم لشعب جبال النوبة الاصلى، بل حتى الشهيد مكى على بلايل الذى حاول تأسيس حزب قومى فأسس حزب العدالة بمشاركة الفريق ابو كدوك وامين بنانى ود. لام اكول، لكن ما لبث ان فقد حزب العدالة هذه الرموز فى موجة الانقسامات التى ضربت الاحزاب السودانية، ونحن بالطبع لا ننكر وجود قيادات من ابناء النوبة فى الاحزاب القومية مثل المؤتمر الوطنى وحزب الامة والاتحادى الديمقراطى والمؤتمر الشعبى ومنبر السلام العادل وحزب البعث، لكن الميل الى الانعزال وتكوين المؤسسات الخاصة مازال موجوداً، بل بدأ ينمو بطريقة تثير المخاوف، فاللجنة السياسية لأبناء النوبة بالمؤتمر الوطنى التى تأسست لظروف خاصة نتفهمها بدأت تنمو وتمثل حزباً داخل حزب، بل سنت سنة غير حميدة، فقد تأسست على هدى الحركة الاسلامية لأبناء النوبة، ثم تبعتها الآلية الشبابية لأبناء النوبة بالمؤتمر الوطنى، وهى تنظيمات شجعت على الاصطفاف الاثنى فى الوقت الذى نسعى فيه لتجاوز ذلك الى الكيانات القومية. ونحن نكن كل الود والاحترام للجنة السياسية لابناء النوبة بالمؤتمر الوطنى، لكن نخاف من فقدان قيادات قومية فيها وارتدادهم الى خانة الاقليمية والعرقية، ونحذر من تنامى ظاهرة الكيانات القبلية داخل الاحزاب الكبرى وردة الفعل من الإثنيات الأخرى.