حقيقة قد أوفى السودانيون أديبهم الكبير الطيب صالح حقه في احتفالات متكررة لذكراه.. كان آخرها وأنجحها ما سعدنا بحضوره يوم السبت 27 مارس 2010م بقاعة الصداقة.. قام به مركز عبد الكريم ميرغني بالاشتراك مع جامعة العلوم الطبية التكنولوجية. وما جعلني اكتب هذه الرؤية النقدية الجديدة هي لان كل القراءات او معظمها على الاقل في نقد رواية الطيب صالح الاشهر «موسم الهجرة إلى الشمال» كانت تحاول تثبيت ان المقصود بالرواية والدافع لكتابتها هو كرد فعل من الاديب لآرائه في رفض الاستعماريين الذين كانوا يحتلون بلاده السودان. بالرغم من أن هنالك ما يؤدي إلى عذر ما ذهب إليه رأي النقاد الذين قالوا بهذا الرأي.. بسبب أن «الطيب صالح» قد غادر السودان في عام 1952 وعايش وهو شاب فترة التحررالوطني التي كانت تموج بها افريقيا التي كانت في السودان ممثلة «بمؤتمر الخريجين» من المثقفين السودانيين الذين قادوا المطالبة باستقلال بلادهم آنذاك. لكن الاديب الصادق الحس النقي الطباع وجد نفسه من خلال السرد الموضوعي يعترف بايجابيات اهل السودان الاوربي.. في حين يظهر نقداً لطباع اهل بلاده بدرجة اكبر وذلك ما سوف نسوق له الادلة. ان «مصطفى سعيد» بطل الرواية.. كان قد ابدى اعجابه وهو يتجه نحو «لندن» ويرى كيفية النظام والعمران في الطريق إليها.. حيث وصفه المعجب ببناء البيوت المنظمة والحدائق والاشجار على الطرقات المعبدة.. في هندسة تبين عظمة العلوم والحضارة بتلك البلاد على العكس ففي حين ان الراوي وهو الاداة التي استخدمها الطيب صالح لتبيان ما يجيش بداخله حينما وصف دار جده بالقرية ص76 قائلاً: «دار فوضى قائمة دون نظام.. اكتسبت هيبتها في مدى اعوام طويلة.. غرف طويلة مختلفة الاحجام بنيت بعضها لصق بعض في اوقات مختلفة.. اما حسب الحاجة إليها واما لأن جدي توفر له مال لم يجد وسيلة ينفقه فيها..!!» وتلك الغرف.. بعضها لها نوافذ كثيرة وبعضها ليست له نوافذ...!! وحتى النساء اللائي غرر بهن «مصطفى سعيد الشخصية المضطربة.. التي تذكرنا في بعض تصرفاتها وعدم مبالاتها بالمحاكمة لبطل «البير كامو» في رواية الغريب.. بالاضافة الى كونه كان كذاباً.. نجده يعترف بأن ضحاياه من الاروبيات كن بريئات يثقن في قول الرفيق.. وتلك صفات حقيقية يحوز عليها الانسان في المجتمعات التي استقرت فيها الاحوال والعدالة والديمقراطية الصحيحة.. ومن قبل رأينا كيف وصف «اليزابيث» التي احتضنته منذ اللقاء الاول وجعلته الهاً. وفي القرية بين الراوي ان «مصطفى سعيد» في عمله كان انجح من الآخرين في زراعة حقله الذي اشتراه حيث كان محصوله اضعاف محصول أهل القرية وكان عمله منظماً مرتباً.. وكان سلوكه عظيماً اشاد به اهل القرية وميزه الراوي حين زاره بصفات الانضباط والاعتذار حين زاره دون موعد كما ذكر بعد وفاته كيف ان زوجته «حسنى» أثنت على سلوكه وبكت لفقده لأن «مصطفى سعيد» عاملها بصورة حضارية لا شك كسبها من الغرب «لندن» لدراسته سلوك أهل القرية.. ويمكنني هنا ان أقول ان (الطيب صالح) يمكن ان نصفه ككتاب سياسي أو مصلح اجتماعي يقارن ما ادركه من حضارة مع ما ترزح فيه مجتمعات بلاده السودان بل كل افريقيا. ظهر ذلك بقول الراوي حين هاجم حتى الطبيعة حيث قال واصفاً اشمس في رحلته باللوري إلى أم درمان.. ان حرارة الشمس يشكو منها الحجر.. واضاف واصفاً شقاء السكان قائلاً «هذه بلاد الانبياء». وكأنه يقول ان هنالك حاجة للدين حيث تكون الطبيعة والحياة قاسيتين.. حيث الحاجة للصبر...!! وفي مجال السلوك السالب يصف الراوي التناقض الذي يعيشه اهل القرية... حيث ان جده المتدين بشدة تجده يجالس أربعة آخرين بينهم شخصيتان ماجنتان.. بنت مجذوب وود الريس. كان «الجد» وهو جالس على فروة الصلاة يطقطق مسبحته التي تسقط حباتها دون حساب حينما كان يضحك حتى تدمع عيناه.. حينما تخبره «بنت مجذوب» عن ود البشير..!! يوجه «الطيب صالح» نقده بصورة خفية حينما يصف ذلك الموظف السوداني الذي سافر معه بالقطار وحكى له عن ذكاء «مصطفى سعيد» الذي كان أذكى أبناء دفعته ثم يواصل الرجل منتقداً الاستعمار لكنه ينام فجأة في حين ان القطار الذي أتى به الانجليز «خفف» صعوبة السفر بالدواب بالسودان كان يمر على قنطرة خزان سنار الذي بناه الانجليز ليروي اكبر مشروع بافريقيا كان هو الأهم لغذاء وكساء وتوفير العملة الصعبة بالسودان لسنوات طويلة...! ويقوم الراوي بذكر حديث خاله عبد المنان وهو ينتقد قادة السياسة بالسودان قائلاً «انهم فقط، يفلحون حين يأتونا كل ثلاث أو أربع سنوات وهم يهتفون عاش فلان.. عاش فلان.. حتى «الشفخانة» لم يستطيعوا اكمال بنائها لسبع سنوات.. ويضيف لماذا تصرف كل الاموال بالخرطوم...؟!! كما يوجه الكاتب عن طريق الراوي نقداً لاذعاً لحكام افريقيا واصفاً اعضاء المؤتمر الذين أتوا للخرطوم قائلاً: «ملس الوجوه، أفواههم كافواه الذئاب، تلمح في أيديهم ختما من الحجارة الثمينة..» ثم يواصل وحينما يتخرج أحدهم ويتوظف يكون كل همه بيت كبير بحديقة وعربة فارهة ويسافرون إلى اروبا لشراء أغراضهم يشحنونها بالطائرات... وفي نفس الوقت معظمهم مرتشين يبنون ثرواتهم على عرق الكادحين...!! لا شك ان الطيب صالح الذي قال عبارته الشهيرة فقد أدرك بوضوح فداحة الظلم والاهانات المتواصلة والأذى الذي نالته الشعوب الافريقية على أيدي حكامها... قبل الختام أقول انني عند دراساتي للأدب الانجليزي.. مع الفلسفة أرى ان هنالك كتابا وشعراء هم مشروع فلاسفة ومنهم الطيب صالح الذي يقول.. «ان موت صديق عزيز يطفيء احدى شموع الروح عند صديقه الحي».. فاذا نحن اهتممنا بالموتى كثيراً كيف نعيش حياتنا.. أخيراً نقول ستظل روايات الطيب صالح محل اهتمام وتحليل الكتاب والنقاد والمفكرين لفترة طويلة.