الدعم السريع يعلن السيطرة على النهود    وزير التربية والتعليم بالشمالية يقدم التهنئة للطالبة اسراء اول الشهادة السودانية بمنطقة تنقاسي    سقطت مدينة النهود .. استباحتها مليشيات وعصابات التمرد    عقار: بعض العاملين مع الوزراء في بورتسودان اشتروا شقق في القاهرة وتركيا    عقوبة في نواكشوط… وصفعات في الداخل!    الهلال يواجه اسنيم في لقاء مؤجل    تكوين روابط محبي ومشجعي هلال كوستي بالخارج    عثمان ميرغني يكتب: هل رئيس الوزراء "كوز"؟    كم تبلغ ثروة لامين جمال؟    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء الشاشة نورهان نجيب تحتفل بزفافها على أنغام الفنان عثمان بشة وتدخل في وصلة رقص مؤثرة مع والدها    سلسلة تقارير .. جامعة ابن سينا .. حينما يتحول التعليم إلى سلعة للسمسرة    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    شاهد بالفيديو.. في مشهد نال إعجاب الجمهور والمتابعون.. شباب سعوديون يقفون لحظة رفع العلم السوداني بإحدى الفعاليات    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    من رئاسة المحلية.. الناطق الرسمي باسم قوات الدعم السريع يعلن تحرير النهود (فيديو)    شاهد بالصور والفيديو.. بوصلة رقص مثيرة.. الفنانة هدى عربي تشعل حفل غنائي بالدوحة    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    إعلان نتيجة الشهادة السودانية الدفعة المؤجلة 2023 بنسبة نجاح عامة 69%    والد لامين يامال: لم تشاهدوا 10% من قدراته    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    هل أصبح أنشيلوتي قريباً من الهلال السعودي؟    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    ترامب: بوتين تخلى عن حلمه ويريد السلام    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    ارتفاع التضخم في السودان    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    بيان مجمع الفقه الإسلامي حول القدر الواجب إخراجه في زكاة الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جدل الأنا والآخر في أعمال الطيب صالح ... بقلم: د. خالد محمد فرح
نشر في سودانيل يوم 30 - 09 - 2009

تظهر جدلية العلاقة بين الأنا والآخر بكل قوة وضوح في جميع الآثار الإبداعية الرائعة التي خلفها لنا الأديب الراحل الطيب صالح كما لاحظ أغلب النقاد الذين عرضوا لتراث هذا الكاتب والقاص والروائي العظيم ، بل لعلها تكون أبرز سمات وخصائص عالمه الروائي والقصصي.
وما من شك في أن الإحساس بالهوية ، أو الوعي بالذات ، وبالتالي الوعي بصورة الإنسان عن نفسه ، أو تصوره لنفسه ، وعلاقة ذلك بمفهوم الغيرية ، أي بمعنى الوعي بوجود الآخر المغاير ، ومعرفة السمات المميزة ، والحدود الفاصلة بين الأنا والآخر ، والذي يطرح بدوره وبصورة مباشرة ، مسألة آليات التشكل الداخلي للهوية نفسها ، وديناميات صيرورتها المستمرة ، ومن ثم طرق مقاربتها للآخر ونظرتها إليه ، لهي من أقدم ، وأرسخ ، وأوضح حقائق الوجود البشري. ولعل من أكثر الإفرازات الطبيعية الناجمة عن هذه الحقيقة الوجودية والاجتماعية سلبيةً ، وأقصاها تطرفاً ، هي خصيصة العنصرية التي فشلت كل العقائد والأديان والمذاهب الإيديولوجية والفكرية عملياً فيما يبدو عن محوها بالكلية عن نفوس البشر.
وهذا الموضوع ، أعني مسألة المقابلة بين الأنا والآخر سلباً أو إيجابا ، بغضاً و صراعاً ، أو محبةً وتواصلا ،هو موضوع قديم قدم الوجود البشري نفسه ، وقد تمت معالجته – بخلاف الأعمال الروائية – من خلال مقاربات نثرية أخرى عديدة ،ومن زوايا نظر ومضامين شتى: فلسفية ، وسياسية ، وأنثروبولوجية ، وسوسيولوجية ، وتاريخية ،وما إلى ذلك من المنطلقات المختلفة لسائر العلوم الإنسانية الأخرى.
فإذا ما تركنا فلاسفة اليونان القدماء ، وفلاسفة العصور الوسطى جانباً ، فإننا نجد أن هذا الموضوع قد تطرق إليه بصورة من الصور ، مفكرون وكتاب كثيرون من بيئات وثقافات وخلفيات وأزمان متباينة، نذكر منهم على سبيل المثال فقط: أبا عثمان الجاحظ ،والشهرستاني ، وعبد الرحمن بن خلدون ، وكارل ماركس ، وآرنولد توينبي ، ورفاعة الطهطاوي ، ورشيد رضا ، ومحمد عبده ، ومالك بن نبي ، وفرانز فانون ، وجان بول سارتر ، وإدوارد سعيد ، ومحمد عابد الجابري وغيرهم.
أما في مجال القصة والرواية بصفة عامة ، فقد كان لموضوع العلاقة بين الأنا والآخر مكانها البارز في عدد من الروايات التي أبدعها نفر من الروائيين النابهين في شتى أنحاء العالم. نذكر من بين تلك الروايات العالمية التي عرضت لإشكالية العلاقة بين الأنا والآخر – أيضاً على سبيل المثال فقط لا الحصر – كلاً من رواية "قلب الظلام" للكاتب البولندي الأصل الذي كان يكتب باللغة الإنجليزية: "جوزيف كونراد" ، ورواية الكاتب الفرنسي: ألبير كامو " الغريب " أو L`Etranger ، ورواية الروائي الإنجليزي: ادغار مورغان فورستر أو E.M.Forester "رحلة إلى الهند " أو A Passage to India ،ورواية " التجربة الغامضة " أو L`Aventure ambigue للكاتب السنغالي: شيخ حامدو كان ، ورواية: " الأشياء تتداعى " Things fall apart للكاتب النيجيري "تشينوا أشيبي" ، وهلم جرا.
وغالباً ما يرتبط التناقض والتضاد بين الأنا والآخر في أعلى تجلياته حدة ،كما يصوره ذلك النمط من الروايات الحضارية إلى العنف والفجيعة والمأساة. ففي رواية " الغريب " للروائي الفرنسي: ألبير كامو ، يقتل بطلها الفرنسي " ميرسو " فتىً عربيا جزائرياً ، بلا أدنى سبب أو مسوغ ،زاعماً في عبثية ظاهرة ،ولكنها عبثية ذات دلالة رمزية قوية الصلة بحقيقة رفض الأنا في أقصى درجات تطرفها أحياناً ، للآخر بكافة متعلقاته بما فيها البيئية والطبيعية التي لا يملك حيالها شيئا. ذلك بأن ميرسو قد ادعى أن الشمس هي التي قتلت ذلك الرجل الجزائري. وتفسير ذلك قد يكون هو أن شمس بلاد الجزائر الحارة نسبياً ، بالمقارنة مع شموس أوروبا وفرنسا ذات الحرارة المعتدلة ، تلك الشمس الحارة المرتبطة بهذا الآخر البغيض إلى النفس أصلاً ،على الرغم من أنها شمس بلاده هو ، وإنما ميرسو وأسلافه مجرد غزاة و دخلاء ، قد أفسدت مزاج ذلك الأوروبي ، وجعلت الدم يغلي في عروقه ، ودفعته بالرغم عنه إلى ارتكاب جريمته تلك.
أما رواية " الأشياء تتداعى " للكاتب النيجيري: تشينوا أشيبي ، فقد صورت بطريقة فنية الأثر الطاغي ، بل الانقلاب الجذري الذي أحدثه الاستعمار الإنجليزي بكل أبعاده السياسية والاجتماعية والثقافية والدينية على مجتمع قبيلة الإيبو في جنوب شرق نيجيريا ، وما تمخض عنه من صدمة ثقافية واجتماعية قاسية ، وتكريس للشره الإمبريالي ،والتكالب الاستعماري في أبشع صوره ، مما أدى في نهاية المطاف إلى تحطيم مجتمع الإيبو التقليدي إلى غير رجعة. وقد توسل شينوا أشيبي فنياً لتصوير نتيجة صدام الهويات هذا وتعارضها من خلال هذه الرواية ،عبر قصة زعيم العشيرة التقليدي " أوكونوكو " ،وهو بطل الرواية الذي لم يستطع أن يتحمل رؤية العالم الذي درج فيه طفلا ، وترعرع فيه شاباً إلى أن استوى رجلاً ذا حيثية ومكانة على مستوى مجتمعه المحلي ، لم يتحمل أن يرى ذلك العالم بأحيائه وأشيائه ينهار ويتداعى أمامه ، مما دفعه إلى الانتحار.
وبالطبع يعمد الطيب صالح في رواية " موسم الهجرة إلى الشمال " إلى تناول هذه الظاهرة أو الثيمة الفنية نفسها عبر حدثين مأساويين هما: قتل " مصطفى سعيد " لزوجته الإنجليزية " جين مورس " ، وكذلك قتل حسنة بنت محمود لود الريس ، ثم قتلها لنفسها بعد ذلك.
ولم تكن الأعمال الروائية العربية ببدع من نظيراتها في مختلف أنحاء العالم في الاهتمام بإبراز جدلية العلاقة بين الأنا والآخر ، بل إن أول منتج سردي عربي في العصر الحديث ، يمكن أن يطلق عليه اسم " رواية " بالمعنى المتعارف عليه لهذا الجنس الإبداعي ، إنما كان يدور في الأساس حول موضوع اللقاء بين المجتمع العربي والحضارة الأوروبية. وذلك المنتج السردي هو رواية: " علاء الدين " لعلي باشا مبارك 1993 – 1824 م ، والتي نشرت في عام 1882 م ، كأول رواية عربية حديثة على الإطلاق ، أي بما يجعلها سابقة لرواية: "زينب " التي أصدرها الدكتور محمد حسين هيكل في عام 1930 ، بحوالي نصف قرن من الزمان ، على الرغم مما يشاع على نطاق واسع بأن هذه الأخيرة هي الرواية العربية الأولى تاريخيا.
ورواية "علاء الدين" لعلي باشا مبارك ،هي عبارة عن رواية تعليمية ، يدون من خلالها بصورة غير مباشرة ، طرفاً من سيرته الذاتية في فرنسا خلال النصف الثاني من أربعينيات القرن التاسع عشر 1844 – 1851 م ،ولكن بأسلوب قصصي وتعليمي ، رمز فيه إلى شخصيته الحقيقية بالاسم المتخيل:" علاء الدين ".
وهكذا تتوالى هذه السلسلة من الروايات "الحضارية" إذا جاز التعبير ، أي تلك الروايات التي ترصد وتصور جدل الأنا والآخر ، وخصوصاً تلك التي ترصد العلاقة المتوترة والملتبسة بين الشرق والغرب ، أو بين الشمال والجنوب. وهنا تقفز إلى الذهن مباشرة روايات بعينها مثل: رواية يحي حقي "قنديل أم هاشم" ، ورواية سهيل إدريس:" الحي اللاتيني " ، ورواية توفيق الحكيم: "عصفور من الشرق " ،ورواية عبد الرحمن منيف: " شرق المتوسط " ،ورواية رضوى عاشور:" ثلاثية غرناطة " ،وانتهاءً برواية الكاتب العراقي عواد علي غنام: " حليب المارينز "التي صدرت في عام 2008 م.
وعادةً ما يضيف النقاد والباحثون إلى هذه الطائفة من الروايات ،نصوصاً سردية عربية أخرى ذات مضامين حضارية ، أي أنها تتناول جدلية العلاقة بين الأنا والآخر بصورة من الصور ، نذكر من بينها: تخليص الإبريز في تاريخ باريز لرفاعة رافع الطهطاوي ، وحديث عيسى بن هشام للمويلحي ، وقصة " أديب "للدكتور طه حسين.
ومن المؤكد أن رواية موسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح ،هي من أكثر أعمال هذا الكاتب تمثيلاً لهذا النمط من الروايات ذات المضامين الحضارية والثقافية التي تحدثنا عنها آنفا.
فهذه الرواية تتناول بعمق جدلية العلاقات بين الكيانات الحضارية المتباينة ،والالتباس والتناقض الكائن بين تلك الكيانات الثقافية والحضارية المختلفة ،ممثلة بصورة خيالية ورمزية في شخصيتي الشاب السوداني الذي سافر إلى بريطانيا للدراسة في عشرينيات القرن الماضي ، والذي يمثل هو نفسه بوصفه سودانياً ، مزيجاً للهويات والكيانات العربية والإسلامية والإفريقية مجتمعة. فعندما سألت إيزابيلا سيمور مصطفى سعيد في رواية موسم الهجرة إلى الشمال: ما جنسك ؟ هل أنت إفريقي أم آسيوي ؟ أجابها: أنا مثل عطيل ، عربي .. إفريقي. فنظرت إلى وجه وقالت: نعم. أنفك مثل أنوف العرب في الصور ،ولكن شعرك ليس فاحماً مثل شعر العرب .. " . فرد عليها قائلاً: " نعم هذا أنا .. وجهي عربي كصحراء الربع الخالي ،ورأسي إفريقي يمور بطفولة شريرة ". هذا من جانب ،بينما تمثله من الجانب الآخر ، شخصية (جين مورس) الفتاة الإنجليزية المعتدة بشخصيتها ،وخصوصاً بنبل محتدها ، وتفوق أرومتها ،والحضارة التي تنتمي إليها تفوقاً جبليّاً مركوزاً في أصل عنصرها ، في مقابل شخصية رجل سوداني لا يتطرق إليها أدنى شك بأنه هو ، وكل ما يمثله من هوية مركبة تجتمع فيها العناصر العربية والإفريقية والإسلامية ، دونها ودون هويتها مرتبة ، مما جعل الصراع المأساوي بينهما حتميا ،وانتهى إلى ما انتهى إليه من إقدامه على قتلها ، وحبسه هو في السجن في لندن لمدة سبع سنوات عقاباً له على تلك الجريمة.
إن هوية مصطفى سعيد المركبة بوصفه سودانياً ، جعلت المناجزة الحضارية بينه وبين الآخر الأوروبي مركبة ومعقدة هي الأخرى. لقد ضاق الشاعر السوداني الطليعي: النور عثمان أبكر من قبل ذرعاً بحيرة الأوروبيين في تصنيفه أثناء الرحلة التي جمعته مع صديقه الشاعر محمد المكي إبراهيم إلى ألمانيا وهم يومئذٍ شباب غض الإهاب في أوائل الستينيات من القرن الماضي ، ولخص النور تلك الحيرة في هذه العبارة الفلسفية البليغة: " إنه – يعني الأوروبي – يرفض هويتي الإفريقية حين أفكر ، ويرفض هويتي العربية حين أكون ".
قال الشاعر الكبير محمد المهدي المجذوب في توصيف تلك الهُجنة العرقية والثقافية للفرد السوداني:
عندي من الزّنجِ أعراقٌ معاندةٌ وإنْ تشدّقَ في أشعاريَ العربُ
ثم قال بعده بسنوات الشاعر الدكتور محمد عبد الحي في ذات المعنى:
بدويٌ أنت ؟ لا !
من بلاد الزّنجِ ؟ لا !
أنا مثلكُمْ تائهٌ عاد يغني بلسانٍ
ويصلي بلسانْ
من بحار نائيات لم تُنر في صمتها الأخضرِ
أضواءُ المواني .. الخ
إن الأزمة الحقيقة للسودان كبلد وككيان مع الغرب في شتى العصور ، هي أنه قد مثل تجسيدا لما يمكن أن نسميه: تمازج أو التقاء الهويات الخاسرة في ميزان العالم المعاصر ، ونعني بذلك الهويات العربية ، والإسلامية ، والإفريقية بمعناها العرقي لا الجغرافي. ولا شك في أنّ هذه الهويات جميعها ، هويات ظلت تقابل من قبل الآخر الأوروبي بمشاعر سلبية باستمرار على أقل تقدير ، إن لم تكن تقابل بالعداء والاحتقار.
لقد جسد مصطفى سعيد الاختلاف بين عالمين ظلا يصطرعان فيما بينهما بشتى الوسائل لقرون طويلة ،بحسب ما جاء في الرواية ذاتها التي ترجع بالصراع إلى عهد يتجاوز حتى حروب المسلمين والروم البيزنطيين في أوائل عهد الإسلام ،مروراً بالحروب الصليبية ، بل تعود به على لسان مصطفى سعيد إلى أيام حروب الرومان والقرطاجنيين الذي وقع قبل بضعة قرون من الميلاد ، وكأن الكاتب يشير ضمناً – وهو محق في ذلك بالطبع – إلى أن القرطاجنيين الذين إنما كانوا في الواقع أحفاداً للكنعانيين الذين هاجروا واستقروا في شمال إفريقيا ،و الذين يسميهم الأوربيون بالفينيقيين ، إنما كانوا قوماً عرباً عاربة.
أما جين مورس ، فقد عمدت في نوبة من نوبات غضبها وغيظها المتكررة على زوجها مصطفى سعيد ، عمدت في حركة رمزية متعمدة من قبل الكاتب بكل تأكيد ، إلى أن تلقي في موقد مدفأة بيتهما في لندن بعض التحف الفنية والمقتنيات الخاصة بمصطفى سعيد ، والتي تحيل بصفة خاصة إلى التراث العربي والإسلامي عنوان هويته ، وموضع الاختلاف والتضاد مع هويتها هي. وتلك التحف التي جعلتها تلك المرأة الإنجليزية طعاماً للنيران عبارة عن: سجادة للصلاة ،و مخطوط عربي قديم.
فهذه الرواية تطرح إذاً مشكلة الهوية ، أو إشكالية التقابل بين الذاتية والغيرية بإلحاح ، أي مشكلة الكيان الحضاري الذي ننتمي إليه بالعالم الخارجي ،وخصوصاً مع أوروبا ، فضلاً عن مشكلة نظرتنا لأنفسنا. فالمتن السردي لرواية موسم الهجرة إلى الشمال يعنى بهذه القضية من جانبها الأول ،وهو علاقة الأنا بالآخر ،وعلاقة الأنا بنفسها ،وهو جانبها الثاني. فحكاية مصطفى سعيد كما لاحظ الناقد الدكتور عبد الله إبراهيم ، يتصل بالجانب الأول ، بينما تتصل حكاية الراوي بالجانب الثاني. إنهما وجها مشكلة الهوية التي جرى تمثيلها سردياً في هذه الرواية بأبعادها الموضوعية المتصلة بالآخر ، وبأبعادها الذاتية المتصلة بالأنا.
وفي الحقيقة فإن الطيب صالح قد تناول موضوع جدل الأنا والآخر بكثافة في جميع أعماله وليس في رواية موسم الهجرة إلى الشمال وحدها. ولم يكن ذلك التناول قاصراً على البعد الحضاري والثقافي وحده بين الكيانات الكبرى عبر " ممثليها " من بين شخوص الروايات المعنية ، وإنما تناول جدل الذاتية والغيرية على مختلف مستوياتها وفي شتى تجلياتها. فبوسعنا أن نلاحظ على سبيل المثال أن تلك الأعمال قد عرضت لجملة من الثنائيات ، وأحيانا المجموعات المتقابلة والمتباينة الهويات ، مثال: النساء في مقابل الرجال ،القرويون في مقابل سكان المدن ،الحكام في مقابل المحكومين ، الأغنياء في مقابل الفقراء ، المتصوفة والزهاد في مقابل الفقهاء والعلماء ،و الأصالة في مقابل الحداثة ، بل إنه يعرض لنا في رواية عرس الزين مجتمع قرية ود حامد بكياناتها الإثنية والاجتماعية المتباينة ، موضحا سمات كل منها وخصائصها: أهل البلد من القرويين المستقرين ، وعرب القوز وهم البدو الطارئين على شريط النيل ، وفئة الرقيق المحررين ، وجواري الواحة ، والحلب أي الغجر ، او النور كما يسمون في بلاد الشام. وقد رأينا أن جميع هؤلاء فرحوا وغنوا ورقصوا وسكروا وطربوا ومدحوا النبي صلى الله عليه وسلم. فعلوا كل ذلك جميعه في عرس الزين الذي اختفت فيه جميع الحواجز وانصهرت فيه كل الهويات في مشهد بديع ينم عن نظرة إنسانية رحبة ومتسامحة ، مثلت بكل تأكيد المغزى الأخلاقي لتلك الرواية التي وصفها الناقد العربي الكبير الراحل" " علي الراعي " ، بأنها " زغرودة طويلة للحياة ".
والمقاربة التي يتبناها الطيب صالح في أعماله لمفهوم الهوية ، تشي بأنه كان يتخذ موقفا مرناً من هذا المفهوم ، بمعنى انه كان يعتقد ،ونعتقد نحن معه أيضاً ، بأن الهوية ليست شيئا جامدا ، أو سيظل شيئا جامداً بكل مشخصاته ومحدداته إلى الأبد الآبدين ، وإنما هي شيء قابل للتغيير والتحوير ، وأحيانا للتماهي غير الواعي ،والواعي أحياناً ، حتى مع من نعتبر أنهم هم الآخرون المخالفون لنا ، او حتى المعادون لنا ولهويتنا. وذلك بسبب التأثير والتأثر الحتمي بين البشر متى ما التقوا وتفاعلوا بعضهم بالبعض الآخر كيفما كانت طبيعة ذلك اللقاء. وهنا يأتي معنى عبارة ابن خلدون الشهيرة من أن" المغلوب مولع بتقليد الغالب الخ " ، وما إلى ذلك من معاني الانبهار ، والعلاقة الملتبسة المشاعر ما بين المحبة والبغض ، وصولاً إلى أقصى درجات هذه الحالة من اختلال التوازن التي تسمى ب "الاستلاب" alienation .
ولذلك فإنّ الطيب صالح يعمد في إحدى رواياته لتأكيد حقيقة سايكلوجية مثبتة تناسب هذا السياق تماماً ، ألا وهي حقيقة أنّ المقهور يستبطن عادةً نفسية قاهرية المخالفين له بالضرورة في الهوية ، حتى إذا ما واتته الفرصة حذا هو نفسه حذوهم ( إلا من رحم ربك بالطبع ) ، وربما بصورة أبشع في ممارسة القهر والعسف والتسلط على من هم دونه ، حتى ولو كانوا من بني جلدته. فهاهو الكاتب يصور في رواية " ضو البيت: بندر شاه " طرفاً من بعض الممارسات التسلطية لطبقة " الأفندية " السودانيين الذين ورثوا المستعمرين الإنجليز في الحكم والإدارة ، بمثل هذه العبارة التي تنضح بالسخرية المرة ،ولكنها – على كل حال – سخرية واقعية ،وليس فيها أي مبالغة أو تزيُّد. يقول ود الرواسي لمحيميد في رواية " بندر شاه: ضو البيت ": " وشن قالولك يا محيميد؟ قالوا الحكام أولاد البلد صعبين أجارك الله. زمان الإنجليزي كان ينهرك ويقول لك أتلا بارّه .. هسع قالوا أولاد البلد يضربوا بالشلُّوت ".
وعلى الرغم من عداوة مصطفى سعيد الظاهرية للإنجليز ، لم ينس وهو يعيش في قرية في قلب الريف السوداني ، أن يهيئ غرفته الخاصة على طريقتهم ، بما في ذلك احتفاظه بمدفأة إنجليزية كاملة في بلاد تكاد تعيش صيفاً لاهباً طوال العام.
وحتى حسنة بنت محمود أرملة مصطفى سعيد ،هذه الفتاة القروية البسيطة والأمية على الأرجح ، قد طرأ على هويتها الشخصية تحول عميق ،نحا بها نحو الحداثة شيئاً ما ، بسبب اقترانها بمصطفى سعيد بكل تأكيد ، إذ أنها قد أضحت شخصاً آخر بعد ذلك الاقتران وتلك المعاشرة. لقد أضفى عليها مصطفى سعيد من حداثته ، أو أنه قد "هدّ" فيها حداثياً كما نقول في كلامنا. وفي تقديرنا فإن ذلك المصل أو الترياق الحداثي ،ولا شيء آخر غيره هو الذي جعل حسنة بنت محمود ترفض الزواج من ود الريس ،ذلك العجوز المتصابي ،والقروي الجلف ، وتفعل به وبنفسها فعلتها التي فعلت ، إذ أنها قتلته وقتلت نفسها في ليلة عرسهما ، مخالفة بذلك أعراف القرية وتقاليدها التي كانت قائمة قبل تلك الحادثة بقرون ، حيث كان سائغا ومألوفاً بل من الواجب اجتماعياً في ذلك الوقت ، أن تزوج المرأة الأرملة أو المطلقة كيفما اتفق ،ومن دون اهتمام برغبتها هي الحقيقية، بحجة ضرورة سترها ، ولكي تتجنب النظرة غير المريحة التي ينظر إليها بها المجتمع السوداني التقليدي آنئذ.
لقد كانت حسنة تود في الواقع لو أنّ الراوي، الذي إنما هو الوجه الآخر لمصطفى سعيد ، فاتحها هو في رغبته في الاقتران بها بعد وفاة زوجها ، وخصوصا بعد أن عرض ود الريس نفسه عليها ،وكان الرواي نفسه مفتوناً بها سراً على نحو ما ،ولكنه أحجم عن تلك الخطوة في اعتقادنا لسبب يتعلق في جزء كبير منه بمقومات هويته هو الشخصية ذاتها. إننا نعلم من خلال الرواية أن ذلك الراوي الذي كان أفندياً متعلما درس في بريطانيا ويعمل في وظيفة حكومية بالخرطوم العاصمة ، شخص متزوج وله طفلة. وما كان متصورا من واقع السياق السوسيولوجي الذي تعرضه الرواية التي كتبت في الستينيات من القرن الماضي ، أن يغامر الراوي بالإقدام على الزواج من حسنة لأنه لم يكن شائعاً آنئذ تعدد الزوجات بين طبقة الأفندية خاصة.
وبمناسبة الحديث عن الراوي الذي إنما يمثل في نظر الكثيرين من النقاد والدارسين ، لسان حال الكاتب الطيب صالح نفسه ،والمعرب عن رؤاه وأفكاره ، فإنه يجدر بنا أن نذكر أن الراوي في موسم الهجرة إلى الشمال ، قد قدم صورة واقعية وإنسانية إلى حد كبير للمجتمع الأوروبي عامة ، والبريطاني على وجه التحديد ، وذلك حين يقول ما معناه : " إن الأوروبيين باستثناء اختلافات قليلة أناس مثلنا .. يربون أولادهم حسب الأصول .. يحلمون أحلاما بعضها يتحقق وبعضها يخيب ، وينشدون الطمأنينة في الزوج والأهل والولد .. بعضهم أعطته الحياة .. وبعضتهم حرمته الحياة.. الخ ". فهذه العبارة تنم عن نظرة موضوعية للآخر ليس فيها إفراط ولا تفريط . وهي تنطوي على نظرة يكون الآخر بموجبها بشراً مثل سائر البشر بكل نوازع الخير والشر التي تلازمهم ، أو إن شئت: هو مثل الأنا ذاتها ، فهو ليس شيطاناً ولا ملاكا.
ويمضي الطيب صالح في مقاربة جدل الأنا والآخر على نحو شديد العمق والاستقصاء ،عندما يتعرض لمظاهر الأرق الوجودي والتوتر الذي يعتري المرء عندما يصبح الآخر نفسه جزءً من الأنا على نحو يصعب الفكاك منه. وهو بالفعل ما طرأ لشخصية مصطفى سعيد ،والذي يتجلى خصوصاً في نهايته المأساوية الغامضة التي صورت بصورة رمزية عميقة الدلالة حيث حمل النيل جثته واتجه بها نحو الشمال ، ذلك الشمال الذي ظل يتوق إليه رغم أنه كان سبب مأساته ومعاناته الوجودية. وهو يصور أيضاً ، ذلك القلق الوجودي الذي يصيب الإنسان عندما يصبح في منزلة بين منزلتين ،فلا هو بالمنتمي بصفة كاملة إلى جذوره وأصوله ، ولا هو بالكامل الانتماء لهوية الآخر وثقافته ،وهو يعلم يقيناً أن ذلك الآخر سوف لن يقبله حتى ولو ارتمى في أحضانه بكلياته طائعاً مختارا. وهذا يذكرنا باختيار تشينوا أشيبي لروايته التي صدرت بعد روايته الأولى: " الأشياء تداعى " ، عنوان: " مضى زمن الراحة " أو No longer at ease ، بمعنى انه عندما تداعى الأشياء ، يمضي زمن الراحة ، أي مضي زمن محض الاستكانة إلى ميراث الأسلاف والامتياح منه صرفاً ، ويتعين التفاعل مع المعطى الحضاري الجديد الذي جلبه الاستعمار وفرضه ، ثم أضحى جزءا من هوية المجتمع التقليدي على الرغم مما في ذلك من رهق وعنت ، وانمساخ الهوية ، وذوبانها في كيان الآخر.
لقد تعامل الطيب صالح في الواقع مع تلك الثنائيات أو المجموعات ذات الهويات والخصائص المتباينة بذهنية ناضجة و متفتحة ،ومن غير ما مواقف مسبقة ،او أكليشيهات تنميطية جاهزة ،وبلا إطلاق أحكام قيمية ، أو التعبير عن انحيازات إيديولوجية ، أو اجتماعية ، أو إثنية ، أو ثقافية ، أو طبقية معينة. ولذلك فقد كان عقلانيا ومتسامحاً ومنصفا في أحكامه على جميع تلك الأشياء تقريبا موضع المقابلة أو التعارض. فلقد رأيناه ينصف المرأة ويساندها في نيل حقوقها ممثلة في شخصيات: " عزة بنت حاج إبراهيم " في رواية:عرس الزين ، وحسنة بنت محمود في رواية " موسم الهجرة للشمال " و"مريم بنت جبر الدار " في رواية " مريود ".
وتنتقد أعمال الطيب صالح أحيانا بعض متعلقات ال " نحن " ، أو الهوية الوطنية الجماعية ذاتها ، وخصوصاً بعض تجلياتها الثقافية من عادات وممارسات وتقاليد ذميمة، وذلك بطريقة غير تقريرية أو وعظية، وإنما هكذا عفوا ، و في سياق السرد الروائي ، وتضاعيف الحوار الدرامي المصاحب له. فهاهو في رواية "موسم الهجرة إلى الشمال " يأخذ على لسان أحد شخوص الرواية ، يأخذ على السودانيين تمسكهم بعادة ختان الإناث ،ويجعل تلك الشخصية تجادل من أجل تأكيد صحة حجتها ، وسلامة منطقها بأن هذه العادة الذميمة غير موجودة بين أهل الحجاز والشام ومعظم بلاد غرب إفريقيا ، على الرغم من أنهم جميعاً مسلمون.
ولم تستسلم أعمال الطيب صالح لغواية ثيمة البدائي النبيل القائلة بنقاء أهل الريف والبوادي أخلاقيا ، في مقابل أهل المدينة بصورة مطلقة ،حيث نراه يعرض لبعض من أنماط الفساد في القرية ذاتها ، ممثلا في فساد شلة محجوب واستئثارهم بمياه ري المشروع الزراعي دون بقية سكان القرية ،كما أن هنالك إشارة لممارسات محجوب ، واتباعه الطرق الملتوية في إزاحة من لا يروق له من الموظفين الذين يعملون بقريته عن طريق استغلال علاقاته الخاصة ببعض النافذين في العاصمة.
ولأن كان الطيب صالح قد تحدث لنا في قصصه ورواياته عن فساد الحكام ، وذلك على سبيل المثال في معرض وصف الراوي في رواية "موسم الهجرة إلى الشمال " لجده معرباً عن إعجابه الشديد به ، وذاكراً أن ذاك الجد قد عاش أكثر من تسعين عاماً: " رغم الأوبئة والحروب وفساد الحكام الخ.. " ، فإنه قد تطرق كما رأينا آنفا لجانب من فساد المحكومين أيضا ، وذاك بالطبع شيء واقعي وطبيعي أيضا.
فكأن الطيب صالح أراد أن يقول لنا إن الفساد خلق ذميم من حيث هو، وهو لا علاقة له بقرية أو مدينة ، بل هو أمر مرتبط بالإنسان من حيث هو. فهذه النظرة الشائعة التي تنسب الفساد دائما للمدينة، والطهر والنقاء إلى الريف والقرى ،هي إذا نظرة تبسيطية مبتسرة ومخلة ، وتنم عن نظرة نمطية رومانسية فجة ، هي نظرة من يعتقدون في أسطورة "البدائي النبيل " كما أسلفنا.
ولا يربط الطيب صالح الاستبداد والطغيان ،والميل إلى قمع الخصوم السياسيين ، واضطهادهم،وإقصائهم ، بجماعة سياسية أو مذهبية بعينها ضربة لازب ، بل يجعل مثل هذا السلوك السياسي المعيب يصدر بصورة موضوعية وواقعية من بعض أهل السلطان بوصفهم بشرا من حيث هم. وآية ذلك ما ورد في رواية " بندر شاه .. ضو البيت " على لسان الرواي المستنير وهو يحدث أحد أصدقائه في القرية بأن تغييرا قد حدث في السلطة في الخرطوم ، وان الحكومة القائمة آنئذٍ قادتها متدينون ، وأن رئيس الوزراء وجميع وزرائه يصلون الفجر جماعة في المسجد كل يوم ،وان كل موظف لا يصلي يفصل من وظيفته. ثم يستطرد الراوي بما معناه: ومن يدري لعل هذه الحكومة تمضي وتأتي من بعدها حكومة لا أحد يصلي من بين قادتها ، ومن يضبط مصلياً من بين الموظفين ، فسوف يحال إلى التقاعد فوراً ، كأخف عقوبة سينالها على صنيعه ذاك الخ.
كذلك لا يبدو الآخر المسيحي في رواية: " موسم الهجرة إلى الشمال " التي مؤلفها كاتب مسلم الديانة ، وتصور مجتمعا مسلما في غالبه ،لا يبدو في صورة سلبية ، بل على العكس من ذلك ، نجد بعض المقاطع التي تنمُّ عن مواقف إيجابية تماما. فعلى سبيل المثال ، يصور القس الذي سافر معه مصطفى سعيد في كمرة واحدة في القطار بين أسوان والقاهرة ، وكيف تحادث معه بلطف ، وأشاد بطلاقة لسانه في اللغة الإنجليزية ، ولما علم ذلك القس أن مصطفى سعيد ابن الخمسة عشر عاما مسافر من السودان إلى مصر لوحده ، قال له في حنوٍ ظاهرٍ وحكمة بليغة: " كلنا يا بني نسافر وحدنا في نهاية الأمر ". كذلك صور الكاتب إيزابيلا سيمور في رواية " موسم الهجرة إلى الشمال " ، صورها وهي تصغي إلى مصطفى سعيد وإلى أكاذيبه وأحاديثه المعسولة الخادعة وفي " عينيها عطف مسيحي الخ ".
وعلى الرغم من أن أعمال الطيب صالح وخصوصا رواية موسم الهجرة إلى الشمال تشدد النكير على المستعمرين والاستعمار الإنجليزي وما ارتكبه من فظائع في السودان وفي إفريقيا بصفة عامة ، إلا أنّ الرواية لم توفر النخب الأفريقية التي ورثت أولئك المستعمرين في قيادة بلدان إفريقيا المستقلة من السخرية والنقد اللاذع ، ووصفهم بالفساد ، والغرور ، والتعالي على مواطنيهم ،والاهتمام بالقشور والأمور الانصرافية دون اللباب ، وسعيهم المحموم لتعظيم منافعهم الشخصية على حساب الجماهير التي يدعون تمثيلها وقيادتها ، وهو عين ما تتطرق إليه الكاتب النيجيري المبدع: تشينوا أشيبي في روايته: " رجل من الشعب " أو A man of the people .
أما أبرز رسالة تفهم من خلال أعمال الطيب صالح عن رؤيته لجدل التقليد او الأصالة من جانب ، والحداثة من جانب آخر ، فيتجلى في هذه العبارة العميقة الدلالة التي وردت في نهاية قصة: " دومة ود حامد " ، تلك الشجرة الضخمة الشاهقة الارتفاع من شجر المقل أو الدوم ، التي ارتبطت بقرية ود حامد ، مسرح جميع أعمال الطيب صالح ،والمكانة الروحية الخاصة التي ظلت تتمتع به تلك الدومة من قبل جميع سكان القرية ، بسبب ارتباطها بضريح الشيخ ود حامد الذي سميت القرية باسمه ، لدرجة أنهم ارتضوا أن يدخلوا السجن جميعا فداءً لها ، حتى لا تقطع لكي يقام في موضعها رصيف مرسى الباخرة النهرية وفقاً لما قررته السلطات الرسمية ، قبل أن ترضخ لإرادة سكان القرية في الإبقاء على تلك الدومة ،وتلك العبارة هي قول الراوي: " لقد فات على هؤلاء الناس جميعاً ،أن المكان يتسع للدومة ،وللضريح ،ولمرسى الباخرة جميعها. "
وصفوة القول هي أن الطيب صالح كأنه كان ينظر إلى مسألة الهوية باعتبار أنها معطى ذا كيان غير جامد أو مصمت ، فهو قابل أبدا للتحوير والتغيير ، او هو عبارة عن فضاء ممتد أو continuum ، مكون من موجات مائعة ومرنة وقابلة للتشكل ، يمسك بعضها برقاب بعض ،وتتمازج مياهها ومكوناتها ، بل يجوز أن تصب فيها وتتمازج عدة هويات أخرى ، بما في ذلك تلك الهويات التي قد نعتبرها معارضة أو مصادمة لهوياتنا. وليست الهويات بكيانات مادية مصمتة ، منفصلة ومنطوية على نفسها ،وذات حدود قاطعة وواضحة الأطراف. ومن هذا المنطلق يتبنى الطيب صالح نظرة إنسانية جامعة ورحبة ، تبحث عن الإنساني المشترك بين البشر في إطار من الاحترام المتبادل ،والمحبة ،والوئام ،والسلام ، وفي ظل قناعة تقول بتعذر احتكار قيم الحق والخير والجمال ، او – في المقابل – نسبة خصال الظلم والشر والبشاعة ، لكائن من كان ، فرداً كان او جماعة ، وإنما هذه القيم الحميدة ،او تلك الخصال الذميمة ، مبثوثة فيما بين كل الناس في كل زمان ومكان ، من حيث هم بشر فحسب، وليس لأية اعتبارات ذاتية أخرى.
وهكذا نجد أنّ المضامين الفكرية التي تنطوي عليها روايات الطيب صالح وقصصه ، سواء تلك التي أجراها على ألسنة الشخوص ، أو على لسان الراوي ، أو من خلال تضاعيف السرد والحوار ، تشي في معظمها بدرجة عالية من التسامح ، والموضوعية ، والإنصاف ، والإعلاء من شأن الإنساني المشترك ، واستبصار قيم الحق والخير والجمال في البشر أو عكسها بالتساوي ، ومن دون ما تحيز. فهي عنده ليست قاصرة على طبقة ، أو فئة ، أو شعب ، أو ثقافة ، أو كيان حضاري بعينه. ولذلك نرى الطيب صالح وهو ينتقد ضمناً موقف مصطفى سعيد الذي عبّر عنه في ذلك الإهداء الذي صدّر به أحد مؤلفاته – أي مؤلفات مصطفى سعيد نفسه – وهو قوله: " إلى الذين يرون الأشياء بعين واحدة .. إما بيضاء وإما سوداء ". فكأن الطيب صالح أراد أن يقول لنا إن كلما يتعلق بالبشر هو أمر نسبي ، ولا تصح فيه الأحكام المطلقة أبدا ، والأجدر هو أن يأخذ البشر بعضهم بعضا على علاتهم ،وأن يسعوا معا من أجل التعايش المشترك في إطار القيم الإنسانية المشتركة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.