٭ أحد أقربائي، لا يحب الخرطوم مطلقاً، إن جاءها نهاراً غادرها ليلاً، وإن جاءها ليلاً سافر في الصباح الباكر. ٭ هو أصلاً، لا يزور الخرطوم إلا مجبرا: المشاركة في فرح أو المشاطرة في كره. ٭ في آخر زيارة له قال لي: والله جننتونا؟! ٭ نجي (الرياض) نقول الخرطوم جنة، نمشي (أمبدة كرور) نقول أخير بلدنا، في الحاج يوسف لا تعرف أنت في مدينة أم قرية. ٭ وأضاف: يا أخي دي ما خرطوم، دي (خراطيم). ٭ وهذا الذي ذهب إليه قريبي ب (عراقيه وسرواله)، عينه الذي يبحثه، المفكرون والباحثون والمثقفون ب (بدلهم وكرفتاتهم)، وعباراتهم الباردة في القاعات الأنيقة. ٭ (خراطيم في خرطوم)... تعني (تعايشاً متفاوتاً). ٭(التعايش المتفاوت).. يعني تعايش متناقضين أو أكثر، جنباً إلى جنب في آن واحد: فقير وغني، متعلم وجاهل، محدود دخل وشبه رأسمالي أو رأسمالي رث.. الخ. ٭ وأنا أكتب في هذه الزاوية، طلب مني أحد الزملاء، أن أضيف: (مؤتمر وطني وغير مؤتمر وطني)، ففي تقديره هذا المثال: أوضح لفضح التفاوت. ٭ والتعايش المتفاوت، قريب من مصطلح الازدواجية الذي يعني: (تهرؤ البنى التقليدية للمجتمع دون أن تزول تماماً، وخلق بنى شبه حديثة دون أن تكتمل أو يسمح باكتمالها تماماً). ٭ ودون تبسيط مخل للفكرة: في أي حي من أحياء الخرطوم، يمكن أن تجد عمارة فخيمة بجانب بيت جالوص، وبينهما عمارة أعمدتها قائمة، لكنها في انتظار التشطيب، و(طال عليها الأمد). ٭ في الخرطوم (مولات)... يا الله؟! ما تقول لي دبي ولا جنيف ولا طوكيو، وفي الخرطوم، كناتين بلا أرفف، ودكاكين بأرفف فاضية وطبالي. ٭ قديماً قال الشاعر اسماعيل حسن: بين الديوم والامتداد شارع ظلط للعين يبين لكنه في الحق ما هو شارع دية آلاف السنين ليل المطر في الامتداد تجيب عطور الياسمين لكنها في الديوم ما موية ماصت ليه طين.. ٭ الآن، داخل الديوم عمارات، وداخل العمارات موية المطر تعمل عمايل. ٭ وفي الشارع: عربة (برادو) بجانب (كارو)، وركشة و(راجل) يتسابقان. ٭ في الخرطوم: شركات ومراكز تجارية، ذات صلة وثيقة بالشركات العالمية، وعمال حرفة يدوية، يقفون بمعداتهم البدائية (على باب الله)!! في الخرطوم: إقتصاد ع. الله، واقتصاد اعاشة، ونمط انتاج الكفاف، واقتصاد سوق. ٭ وفي الخرطوم عمال مهرة وغير مهرة، ومثقفون وانصاف مثقفين، وعسكر وحرامية. ٭ التعايش المتفاوت، يفتح باباً ل (المنافسة التفاخرية)، والتظاهر والنفاق، ورويداً رويداً تنزلق كل الأرجل (تقليدية ومستحدثة) نحو الهاوية، هاوية الاستهلاك، ويصبح الاستهلاك هو المحدد للمكانة الاجتماعية. ٭ وهاوية الاستهلاك بلا قرار، وحبل نمط السلوك الاستهلاكي حبل على غارب. ٭ ومتى كان حبل السلوك الاستهلاكي على الغارب، ف (على الدنيا السلام)، تتحول ثقافة المجتمع من ثقافة انتاجية الى ثقافة استهلاكية.. يحفها (الحقد الطبقي) والتباهي الأعمى. ٭ ويتحول التعايش المتفاوت إلى (ازدواجية) و(تمفصل).. ٭ ويعم (الطوفان.. (إني أغرق أغرق أغرق).