إذا تأملنا ملياً في أعراض ما اعترى الواقع الاجتماعي والسياسي ومن خلال رصد ذلك يمكن ان يثور السؤال التالي .. ما هو الدور المطلوب من المثقفين فيما يخص قضايا المجتمع ، وبالنحو الذي يسهم في عملية البناء الداخلي للمجتمع ، وبالنظر للواقع الاجتماعي والسياسي ومنذ أكثر من عقدين من الزمان نستطيع ان نتلمس حالة التراجع الثقافي الكبير ، هذا التراجع يمكن تجسيده في ان المثقف بات يستهلك الثقافة ويروج لها دون الارتباط بقضية معينة ، وذلك للسبب الاساسي الذي يواجه فيه المثقف المزيد من الدفع نتيجة الى التأثير الموجه من السلطة الحاكمة ، بغرض إلغاء فاعلية المثقف المتميز بعمق المعرفة والمسئولية الواعية ، وهذا ما يرتبط على مستوى التاريخ باجهاض المشاريع الوطنية ، مقابل نشر حالة اعلامية مهترئة تعمل على تبديد الثروة الثقافية الوطنية ، وتتبدى المشكلة بوجهها السافر ، والتي تعتمدها السلطة القائمة من خلال حديثها على الاهتمام بالعقل الثقافي ، أو في استفاضتها بالحديث عن الغزو الثقافي والاعلامي ، ولا تفعل شيئاً تجاهه سوى التخويف منه ، او عندما تنتقد التطبيق الثقافي والسياسي مع اسرائيل في الوقت الذي تضطهد فيه المثقف ، هذا الواقع جعل من قضية القمع والاستلاب الثقافي اكثر قساوة في ظل الصراع الاجتماعي السياسي الراهن . إن قضية استغلال العنصر الثقافي جنباً الى جنب مع العنصر الاقتصادي لأجل السيطرة على مقومات ومقدرات البلد يعد عقبة ضخمة امام عجلة التطور والتنمية الاجتماعية . إن ما يجري وصفه بأنه ثورة تعليمية الغرض منها انتشار التعليم ومحو الأمية أضحت جسوراً لأجل تحقيق السيطرة الطفيلية عبر الاستجابة للإيحاءات الاستهلاكية والسلوكية التي يتم الترويج لها ، والمفارقة المكشوفة تكمن في اختيار المناهج التعليمية المتبعة ، التي تعمل على تعطيل العقل وتزعزع مبادئ العمل وقيمه ، وبالمقابل تعزز التوجه الآيل الى قمع التفكير العملي والحرية والديمقراطية وتحقيق العدالة الاجتماعية ، وبالدرجة التي تجعل الانسان يقف بعيداً عن قضايا مجتمعه ، مما ينطوي وينعكس على عملية الاصلاح السياسي وتغيير العلاقات الاجتماعية والنهوض بالوضع الاقتصادي ، وبالتالي التغلب على النزاعات والحروب القبلية التي تدور ، لذا يمكن ملاحظة أن واقع نقص الثقافة الوطنية يقابله عدم استعداد لنشر التعليم الاجتماعي القائم على اكتساب المعارف الثقافية الوطنية ، وتبقى النتيجة الحتمية لذلك هي ان واقع المستوى الثقافي قد انعكس على التطور الاجتماعي ، ان الثقافة المتحضرة هي في الواقع مزيج من المعرفة في شتى العلوم الانسانية والاجتماعية ، وهي جزء من المقومات المؤثرة في مجرى حياة الشعب ، وتظهر بصورة جلية على أنماط سلوكية افراد المجتمع تحت تأثير ما يمتلكه المجتمع من مناهج فكرية توظف في إطار تهذيب السلوك البشري ، وبالتالي خلق امكانية التنمية والتطور ، ولذلك يبقى العلم هو المرتكز الاساسي الذي يقوم عليه البناء الثقافي العام ، ويشكل إطاراً للعلوم المتخصصة التي تعتبر اساس الارتقاء الصناعي والزراعي والخدمي للمجتمع ، بمعنى أن التخصص المعمق في مختلف الجوانب العلمية يشكل حالة من الدينامية المتفاعلة بين التطورات العلمية والمجتمعية الطبيعية ، إن العلم كمعرفة بدأ منذ بدء التاريخ البشري كعمل موثق استطاع الانسان أن ينقل به وبشكل مباشر تجربته للمجتمع ، وأن يخلدها عن طريق توريثها الى الاجيال القادمة. إن المعرفة هي انتاج انساني شامل وهي فوق حدود الزمان والمكان ، إن تخصصية العلم تدفع به نحو التطور وتجعله اكثر فاعلية في خدمة الانسانية ، فالعلم ومن خلال مساراته المختلفة محكوم بآلية جدلية ، فتطور الفروع العلمية يدفع بالآفاق الفكرية نحو التفتح والنمو واكتشاف الحقائق كاملة ومجردة ، عليه فإن العلم عنصر اساسي في تكنيك الانتاج ، فهو يلعب دوراً هاماً في مسألة تقدم الحياة وتطورها وفي تحديد درجة سائر أنواع الوعي الاجتماعي الذي يختزنه المجتمع في عقله الجمعي لإدارة قضاياه الحياتية . إذن لابد من خطة شاملة للنهوض بالعمل والتعليم انطلاقاً من التماسك بين السياسات العلمية والمرافق المؤسسية والقيم الاجتماعية والتطورات الاقتصادية والاهداف الشخصية ، ويجب ان يراعي هذا التماسك عناصر تنوع السلوك ووحدته على حد سواء . إن القضية المحورية التي تتشكل في أفق الممارسة السياسية الراهنة هي العلاقة بين العلم والسياسة ، أو بين المثقف والسلطة فهي التي من خلالها ، أي جدلية العلاقة القائمة يتم الادراك الحقيقي لماهية التطور الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الذي يتناغم مع بعضه البعض في ظل تلمس وتبيان معالم الحريات وفتح المجاري اللازمة لتطور الممارسة الديمقراطية ، وكل ذلك يساهم وبدرجة قصوى في إعادة صياغة تصوراتنا لذاتنا ، استدراكاً للقضايا المصيرية التي باتت تهدد مستقبل هذا البلد وتجره جراً الى هاويات التلاشي والانهيار ، غير أن الرهان الاساسي يظل قائماً على طرق المعرفة في دعم الثقافة الاجتماعية تسخيراً لانسياب سلطوية العلاقة في صراعها المتعمق والمتجذر ، استنهاضاً لقيم المجتمع في نطاق حركة التاريخ . الميدان