بحسابات الرحيل الباكر ، بماينطوى عليه من مفاجآة ومفارقة فاجعة ، لايليق فى مقام التذكر بدوامته اللانهائية فى الدوائر المتموجة فى فراغها العريض إلا أن نكتب ، ليكون الأستاذ أحمد عبدالمكرم هو مركز تجليات الرؤي (صاحب الرؤى الساطعة البياض ) طوال مسيرته فى حقل الثقافة (التى تثقفت فى داخلها السياسة المتوحشة ) وتحررت من العنف وطباقيات (ردود الفعل ) ، فى الكتابة تتمدد أعناق (نبتات الصبار ) وتشرئب برؤوسها لذلك (الفضاء الذى لم تشغله سوى الهموم الطويلة ) ، أين كان أستاذنا المكرم من هذا الزخم الثقافى الهائل (برغم السكونية وخفوت الأصوات ) ؟. فى الكتابة ، فى شهر مايو الماضى ، فى كرسى عتيق تحت شجرة ظليلة بدار اليونسكو بالخرطوم ، فى جلسة النقد الأسبوعية التى ينظمها منتدى السرد والنقد ( بطعم الصبر الرسالى فى شخص الأستاذة زينب بليل ) ، كان الأستاذ أحمد عبدالمكرم يستمع (للشباب المبتدئين ) فى سلك القصة القصيرة بإهتمام بالغ ، قرأت نجاة إدريس (قصتها عن واقع أطفال الشوارع ) ، إختلفت القراءات لكنها لم تتجاوز مدى المعرفة المتاح ، ومدى المعرفة عند الأستاذ المكرم لاتحده حدود الأيدلوجيا أو المحاذير العتيقة ، وأحيانا يتبادر للذهن بأنه كان فى أحيان كثيرة (يبشر بمجىء حقبة من الزمن تتقدم فيها الموضوعية كأولوية وحاجة أساسية للإنسان مثلها ومثل الماء والهواء ) ، وهل كانت الموضوعية هى عصاته التى توكأ عليها طوال سنين إبداعه الثرية ، وبها ظل مقيما فى وجداننا كمثقف لايلقى أبدا (الكلام على عواهنه ) ، وسنخبره يوما بأن القاصة نجاة إدريس (صارت تنتج أدبا ) وتفكر .. مامعنى أن نهب الآخرين جذوة من نار المعرفة ؟. وفى شهر رمضان أسبق ، بمركز عبدالكريم ميرغنى ، فى مكانه وزمانه ، الأستاذ أحمد عبدالمكرم يقدمنى لكى أتلو ورقة نقدية برفقة كلا من الأساتذة د. مصطفى الصاوى ، د.أحمد الصادق ، حول كتاب للروائى الراحل خليل عبدالله الحاج ، رواية (طارت أم بشار ) ، كانوا كبارا جميعهم ، تعلمت منهم كيف تتحرك فى الوعى (إلتماعات الفكرة الوضيئة ) ، الدكتور أحمد الصادق أستاذ اللغة الإنجليزية والألسنى والباحث العميق ، والدكتور مصطفى الصاوى بذاكرته المتوقدة ، توسعت دائرة الحوار البناء وترافعت عن نفسها (حرياتنا الغالية ) فى أن نفكر ونترجم أفكارنا على الورق ، لكأن الرحابة فى إبتسامة الأستاذ المكرم هى نفسها (الرحابة التى لطالما حلم بأن تكون رحابة الوطن ) ، فقد كانت إبتسامته (تسع الجميع ) . قد لايفجعنا واقع أن الموت فى كل الأحوال هو مصيرنا ، بقدرما تكون الفجيعة فى توقف المشاريع الثقافية الكبيرة عند (نقطة اللانهاية ) ، وكثيرا ماكان يقول أٍستاذ المكرم (إكتمال المشروعات الثقافية يعنى مواتها ) ، وهو المترجم والمحاور العميق (لحفريات فوكو ) ولا (نهائية جاك درديدا بإختلافه المرجأ ) وفى إرهاصات الصراع الإجتماعى عند (لوسيان غولدمان ) ، وتلك المراجعات الطويلة (لكل ماأنتج فى مجال النقد الروائى فى السودان ) عبر مؤتمرات الرواية التى تصاحب فعاليات جائزة الطيب صالح للرواية السنوية ، يذهب للموت أولئك الذين لم تحدثهم قلوبهم عن (مستقبل لوطن مستنير ) ، ويبقى أولئك الذين كان (ملح الخصوبة لأجيال ترتقى درج المعرفة بحرياتها الكبيرة ) فى عالم لايتقبل ?عفوا ومجانا ? أولئك الذين لايملكون صوتا ? أو فكرا ? أو عمقا منتمٍ للذات الحرة هنا فى (السودان الأرض والفكرة ) ، وأقول : لم يكن أحمد المكرم سوى الفكرة التى تباهت بالإنسان ، عاش جميلا وكبيرا وعفيفا ومتقدما ، وهو فى رحلته نحو الأبدية الأن يبدو أكثر تقدمية ونصوعا وبهاء بماقدم من أعمال جليلة لآمته وشعبه فى كل حقول العطاء ، ونسأل الله أن يتغمده بواسع رحمته وأن يسكنه فسيح جناته مع الصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقا .