يبدو أن الأسبوع الماضى كان توقيتاً خاطئاً تخيرته للإقلاع عن التدخين، فبعد أن نجحت لبضعة أيام فى الامتناع عن التدخين تماماً، جاءت مباراة الهلال الأخيرة فانمحق الهلال وانمحقت معه خطوط دفاعاتى فى مواجهة التدخين. والمحاق لغوياً هو غياب القمر وراء الشمس وتواريه فى الظل، وسُمي المحاق لانمحاق نوره واختفائه. وهكذا كان الهلال الأحد الماضى.. لقد تركت ارتياد ملاعب الكرة منذ أكثر من عشرين عاماً لما تسببه لى من توتر، ولكن لسوء الحظ أنا أسكن على بعد بضعة أمتار من استاد المريخ، وصراخ الجماهير يدخل أذنيَّ قبل أن يبلغ الأقمار الاصطناعية فى الفضاء، وقبل أن يعود ليُبث فى التلفزيون أو الراديو. وفى مباراة الهلال والمريخ الأخيرة باستاد المريخ على بطولة الكونفدرالية وأنا أتابع المباراة عبر التلفزيون، كنت أحس وأجزم بأهداف المباراة الخمسة من صراخ الجماهير في أذنى قبل أن تسكن الكرة الشباك فى شاشة التلفزيون، مما يفسد متعة المشاهدة. وهكذا هو حال الكرة معى لا تتركنى وإن تركتها، وتقتحم حتى غرفة نومى دون استئذان. وفى مباراة الهلال يوم الأحد الماضى قررت أن أصم أذنيَّ وأغلق عينيَّ عن المباراة لما يسببه عشق الهلال لى من توتر سيطيح حتماً بمجاهداتى المضنية فى الامتناع عن التدخين لما يقارب الأسبوع، إلا أن صوت الرشيد بدوى عبيد وهو ينسل من الراديو باغتنى فاستسلمت وأنا أمنى النفس بأن التقدم بهدفين فى أم درمان سيعصم الهلال وسيعصمنى من العودة للتدخين. ومضى الشوط الأول على ما يرام، وتوقعت أن ينجو الهلال وينجو معه مشروعى الشخصى، ثم جاء الشوط الثانى فكاد صوت الرشيد يصيبنى بالجنون وهو يلهث فى هلع ويصف «زنقة» الهلال، فقمت وأحضرت علبة السجائر من ركن قصي كنت قد حشرتها فيه بنية عدم مقاربتها... وجلست أنظر للعلبة وهى تنظر الي وتغوينى، بينما لهاث الرشيد المتصاعد يرفع من ضغط دمى الى أن جاء الهدف الأول وكانت السيجارة الأولى.. ثم جاء الثانى فأتبعتها بالثانية.. ثم جاءت ركلات الترجيح فعدت مدخناً محترفاً. ومما زاد فى حزنى الذى تسببت فيه هزيمة الهلال وهزيمتى الشخصية بانكسار صمودى أمام التدخين فرح التشفى وابتهاج الشماتة الذى ساد بعض جماهير المريخ، ولا أبرئ أيضاً بعض جماهير الهلال من ذات السلوك المشين، فقد خرجت عقب المباراة فوجدت بعض جماهير المريخ أمام الاستاد بطبولها وراياتها الحمراء تزحم الآفاق وهى ترقص وتسد شارع العرضة وبقية الشوارع، ورحت أتساءل ماذا أصاب الرياضة وأهل الرياضة فى بلادنا؟ الرياضة التى كانت عبر ناديي الهلال والمريخ من أكبر المواعين الاجتماعية التى حفظت وجسدت وحدتنا الوطنية بأكثر مما فعلته كل الأحزاب والكيانات السياسية والحكومات المتعاقبة، فقد تبللت الفنائل الزرقاء والحمراء بالعرق النبيل الذى جادت به كل جهويات السودان وأعراقه ومذاهبه المتعددة.. طلعت فريد وحسن كديس وأبو الريف ويوسف عبد العزيز وحسن عوض الله وهاشم ضيف الله وصالح رجب وعبد الخير.. سبت دودو وأوهاج وماوماو .. الأمير صديق منزول والقانون برعى والمايسترو يوسف مرحوم.. ماجد وجكسا وأمين زكى وود الشايقى.. عمر التوم وبكرى عثمان والمحينة وعوض الكباكا.. القرّود وجيمس وسمير ونجم الدين وحسبو الكبير وحسبو الصغير .. وانتهاءً بإدوارد جلدو ويور وريتشارد جاستن وجمعة جينارو. هذه الأسماء المبدعة المتباينة التى جسدت «موزاييك» النسيج الاجتماعى السودانى منذ ما قبل الاستقلال لو تأملنا فيها لوجدنا السودان الجميل القديم الذى ضاع من بين أيدينا، ونخشى أن يتوالى تقلص الأسماء الجميلة المتنوعة ذات الدلالة والرمزية لوحدة الوطن حتى لا يبقى سوى كلتشي وسانيه وأكانقا وليما. إذن ما الذى جعل هذا الإرث الوطنى الجميل للرياضة فى بلادنا يتحول الى عصبية مزرية وقبلية مقيتة؟ أتراه بعض من تداعيات المناخ السياسى؟ فمن المؤكد أن الأزمة أكبر من أن تُعلق على شماعة الإعلام الرياضى فالناس على دين ملوكهم، والسودانيون هم بالفطرة شعب يعشق الانتماء.. هذا الانتماء كانوا فى السابق يجدونه فى رحابة المناخ السياسي والاجتماعى فيجنحون يساراً ويميناً ووسطاً.. شرقاً وغرباً، وتتوزع شحنات الانتماء عندهم ما بين الانتماءات السياسية والمدارس الفكرية والآداب والفنون والرياضة، فيزوى ضرام تلك الشحنات دون أن يخبو نورها. واليوم ما عاد هناك سوى الكرة يمنحوها احتياجهم الفطرى للانتماء والتعبير عن هذا الانتماء.. ويمنحونها فوق الانتماء كل التطرف والتشنج والغضب. إن الهوس المقيت فى أجواء الرياضة هو بعض من هوس السياسة، والطبول التى تدق والنيران التى توقد فى مدرجات الرياضة هي ذات طبول الاستعلاء العرقى والمذهبي التى يقرعها بعض المتشنجين فى مضمار السياسة. ولا أدرى أين أرمى بأحزانى.. لخروج الهلال.. لانكسار مجاهداتى أمام التدخين.. أم لانكسار الوطن؟!