إن في تاريخ الأمم أحداث تطرأ عليها ويكون لها أثر بالغ في تطور حياتها ... وبقدر ما يكون لهذه الأحداث من أثر يكون شأنها وخطرها ... والمجتمعات لا يمكن أن تعيش في ضعف أبداً ولا يمكن أن تحيا مغلوبة على أمرها دائماً ... ولأن الصفات متحركة بقدر تحرك صاحبها ومقتضى الحال ... ولم تكن الصفة ثابتة ملازمة للموصوف طول عمره لكنه يوم بيوم وساعة بساعة. وإن من الأحداث التي أثرت على مسار الدعوة الإسلامية وغيرت من وجه التاريخ هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، فجاءت الهجرة ذات شقين الأول حسي محسوس يراه ويعرفه المسلم والكافر ، والثاني معنوي مدسوس كل يوم نكتشف منه القليل ... أما الحسي فقد جاءت الهجرة مثلها مثل أية رحلة يركب صاحبها الدواب ويبحث عن الرفقة ويحمل الزاد ولا يستغنى عن الدليل الذي يرشده للطريق ، أما الشق المعنوي فلا يعرفه إلا المؤمنون أولو العلم منهم والذين منذ ذلك الزمان كل يوم يكتشف الباحثون درساً من دروس الهجرة وعبرة من عبرها ويزيد عطاؤها وتُكشف أسرارها كلما سلك المرء سبيله إلى العبرة والإستذكار... ومن القليل المعنوي أن الهجرة تعني هجر كل ما سوى الله إلى الله المنطلق من معنى الحديث (من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وجد حلاوة الإيمان). وسيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم وأيامه كلها جليلة وفضيلة ، لكن من أعظم أيامه وأشدها أثراً يوم الهجرة ، ومن شواهد عظم حادث الهجرة أنه يزداد بهاءاً وسناءاً كلما تناوله العرض والبحث. وهجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم مع ما صاحبها من عنت ورهق إلا أنها كانت بارقة الأمل وفاتحة النصر وطريق العودة له صلى الله عليه وسلم ولأصحابه إلى مكة فاتحين ظافرين. ونحن نستذكر حادث الهجرة والمسلمون في هذا الزمان يعيشون في ضعف وهوان وقد تفرقت كلمتهم وذهبت عزتهم وهم يحكمون بأنظمة أذلت الأمة ومزقتها وبددت ثرواتها وأخرجتها من التاريخ ، فلم يكن لها أثر أو صوت يُسمع فيما يجري في العالم من أحداث .... لكن اليوم - ولله الحمد - يحدونا الأمل بعد الثورات العربية أن تستعيد الأمة عزتها وقوتها برجوعها إلى دينها وعقيدتها ... وعلى المسلمين أن يستذكروا دروس الهجرة ويأخذوا منها العبرة ويستقوا الفكرة ويتعلموا منها أن النصر مع الصبر وأن المجد والعز للمؤمن بقضيته الثابت على مبدئه. فهذا رأس الأمة وإمام الملة صلوات الله وسلامه عليه يتحمل العبء الأثقل في سبيل الدعوة إلى الله وإعلاء كلمته ... وفي المقابل يشتط المجرمون من أعدائه في مقاومته والتطاول عليه ، بالسخرية والإستهزاء تارة وبالوعد والإغراء تارة أخرى ... ثم ينتهي إجماعهم على إغتياله والتخلص منه ، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم بعون الله ونصره أحبط مخططاتهم وأفشل مسعاهم وسفه احلامهم. وبمثل هذه السيرة العطرة تتجلى الخواطر لننهل منها دروساً عظيمة القيمة عميقة الدلالة دقيقة المغزى بالغة الأثر ، ومن واجب المسلمين أن يحسنوا الإنتفاع من هذه الدروس عن طريق التذكر الذي يقود إلى العمل وتجويده. إن حادث الهجرة قد خلق المسلمين خلقاً جديداً وبعث فيهم عزماً أكيداً فحول ضعفهم إلى قوة وقلتهم إلى كثرة وذلهم إلى عزة بعد أن كانوا مستضعفين يخافون أن يتخطفهم الناس فآواهم الله وأيدهم بنصره. فجاءت الرسالة ثورة مباركة على الكفر وعلى كل أشكال الظلم ، وثورة عارمة على الإستبداد والفساد وإستغلال الإنسان لأخيه الإنسان والإستعلاء عليه بسبب شكله أو لونه أو فقره. قد يسأل سائل ، لماذا الهجرة ؟ لماذا التعب ؟ لماذا القذف بالحجارة والله قادر على أن ينصر رسوله بما هو أهون وأسرع من ذلك وأمره بين الكاف والنون ؟؟ والإجابة أن هناك عبراً مستفادة من هذا الحدث ، أولها التشريع لدعاة الأمة من بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأخذوا بالأسباب لأن الصدام بين الحق والباطل ماضي إلى يوم القيامة ، فعلى صاحب كل حق أو داعية أن لا يستسلم ولا يستكين تاركاً حقه أو ما يدعو إليه لأهل الباطل أو الظلمة بسبب مضايقات من المجتمع أو الحكام أو الأهل أو العشيرة ... وعليه إذا حدث ذلك منهم أن يهاجر فاراً منهم إلى أرض الله الواسعة مستنصراً بقوم خير من قومه وأهل خير من أهله معتقداً جازماً أن الحق لا بد له أن ينتصر ولو بعد حين ... ولنعلم أن أسباب السماء والوحي لن تكون متوفرة بعد النبي الكريم. ثانياً الأخذ بالأسباب وعدم الإعتماد على الغيبيات والخوارق ، حتى يتاح للحق أن يأخذ سبيله إلى إقناع الآخرين بالمنطق والعقل المنطلق من الفكرة ، وحتى نبعد من أذهان الناس فكرة الشعوذة وشبهة الكهانة والسحرة والجنون ، فتكون الحجة قائمة على العلم والفكر ، والأبلغ أن تنتصر على عدوك وأنت تتسلح بما يتسلح به هو وتفكر كما يفكر وتكر وتفر كما يفعل هو حتى لا يقول إنتصر على بسحره وشيطانه. فالرسول صلى الله عليه وسلم أخذ بالأسباب لكنها أسباب الضعيف الذي لا حيلة له الباحث عن النصير ... فهذا الذي أُخرج من داره وحُورب وأُوذي من بنى عمومته ، هذا اليتيم الوحيد الذي فقد والده وهو في بطن أمه وفقد والدته وعمره لا يتجاوز الست سنوات وفقد جده عبد المطلب كما فقد عمه أبا طالب ، فقدهم وهو في أمس الحاجة إليهم وإلى نصرتهم وفقد بعد الوحي السيدة خديجة والتي نصرته بنفسها عندما خذله الناس وواسته بمالها عندما حرمه الناس ، فقد كل هؤلاء وقد تكالبت عليه قريش من كل جانب ، حدث كل ذلك والدعوة في بدايتها. لكن من العجب العجاب بعد ترادف كل أسباب الضعف والخذلان هذه أن ينتصر هذا النبي ويحقق أهدافه ، حدث ذلك لأن العظمة كانت تكمن هناك ، في هذا الجسد المنهك الذي لم يمد يده إلى طمع ولم يتجشأ من شبع وقد يمر عليه الشهر والشهران ولم توقد في بيته نار. فكانت العظمة هناك والعز هناك في ذلك الشخص والسر فيه كامن حيث إستطاع أن يخرج من عبدة الأصنام شاربي الخمر وائدي البنات المتفاخرين بالقبائل والأنساب المعتزين بالآباء والأحساب ... إستطاع أن يخرج منهم خير أمة أُخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويمؤمنون بالله ، أخرج منهم أمة الإسلام نسبها وشهادة أن لا إله إلا الله محمد رسول الله قبيلتها والتقوى حسبها .. وما تفضي إليه هذه الحيثيات أن هذه الدعوة دعوة حق بالحق نزلت بالحق وإنتصرت ولو لم يكن ذلك كذلك فكيف إستطاع بشر بهذا الضعف والهوان وقلة الحيلة وعدم النصير أن يصمد ويثبت على مبدئه ...!! لكنه تثبيت الله (لولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً) وهو نصر الله (الا تنصروه فقد نصره الله) ... ومن الدروس المستفادة أن السلف صبروا وصابروا وبذلوا النفس والنفيس لتبقى هذه الدعوة وتنتشر ... فوجد صلى الله عليه وسلم في المدينة قلوباً تفتحت للدعوة فأسس الدولة المؤمنة المجاهدة والأمة المؤتلفة المتحابة وأصبح الجميع كل فرد يعمل لخير هذا المجتمع ولإعزاز هذا الدين ، فجاءت الهجرة وكأنها تقول للمسلمين أثبتوا مكانكم وكافحوا عدوكم وحرروا أوطانكم وعيشوا أحراراً في بلادكم وأفعلوا كما فعل السلف ، وقد حرصوا على الموت أكثر من حرصهم على الحياة فأعزهم الله وكتب لهم النصر في هذه الحياة والفوز المبين يوم يلقونه ... هذا وقد قال شاعرهم: قاتلوا في سبيل الله صفاً واحداً فما لانت لهم قناة ولم يلن صارم حنين تبوك وبدر شهيدة كما شهدت ببأسهم الآيات العظائم فالفضل كل الفضل للذي أعطى كل شئ خلقه وهو العالم إصطفى منهم النبي مزكي ومعلم هادٍ لهم بعد الضلالة خاتم