وددت لو يتجاوز الإسلاميون تعلقهم المفرط بالوحدة إلى درجة تشكك في موقفهم من التنوع الذي هو سنة من سنن الله الماضية، وكم كنت أتمنى أن ينسى المؤتمر الوطني فكرة المؤتمرات التي قام عليها باعتبارها صورة من صور الديمقراطية المباشرة، ويدرك أنها فكرة فاشلة تجعل التنظيم السياسي ضعيفاً وهلامياً وأداة في يد الجهاز التنفيذي وعصابات التزوير. وكم كنت أتمنى أن يطوى المؤتمر الوطني شعار «المؤتمر الجامع» بعد أن تبين له صعوبة أن يكون حزبه مثل «جراب الحاوي» أو «كرش الفيل» يجمع كل السودانيين باختلاف اتجاهاتهم، مما أدى إلى تسييل الولاء فيه إلى درجة بعيدة أفقدت شعاراته اللون والطعم وضيعت مثله وأهدافه الاستراتيجية، وجعلت كثيراً من الإسلاميين يستمسكون بكيانهم الخاص بحثاً عن اللون والمثل والهدف الضائع. وكم كنت أتمنى أن تسمح السلطات للمؤتمر الشعبي وغيره بما منحه الدستور وقانون الأحزاب. وكم كنت أتمنى أن يهتم المؤتمر الشعبي بقضايا الأمة وينسى خلافاته مع أشقائه القدامى، وينظر بموضوعية في التجربة السابقة، ويتبنى برنامجاً إيجابياً للإصلاح بدلاً من اجترار الأسى على ما فات وتوزيع الاتهام للعسكر تارة وشيخ علي تارة أخرى، وكيل السباب للأشقاء القدامى واحتراف «العكننة» والتهافت في طريق الكيد حيناً مع المتمردين في دارفور وحيناً مع الحركة الشعبية وثالثة مع الحزب الشيوعي الذي ظل الترابي يستثنيه في كل مبادرات الجبهات الوطنية ونداءات أهل السودان إلى الكلمات السواء طوال تاريخ الحركة الإسلامية يوم كان أمينها العام حتى ظننا أنه الشيطان الرجيم بعينه. كنت مفتوناً بالترابي كبقية طلاب الجامعة في الحركة الإسلامية، لدرجة لا يجاريني الأستاذ كمال عمر ولا كل الملتفين اليوم حوله من الشباب والشيوخ في الاطلاع على كتبه ومعرفة أفكاره، وكان يشار إلينا وأقراننا كأبنائه والمروجين لأفكاره التي مازلنا لا ننكر فضلها في المساهمة في تشكيل رؤيتنا للتجديد الإسلامي بل مازال بعض «الأمنجية» في المؤتمر الوطني ينظرون إلينا كالمسكونين بشبحه إذا لبسنا العمامة والشال والمركوب الأبيض او استخدمنا في حديثنا كلمات «تعلمون » أو «البتة» أو «وازعات التدين» أو «واردات الحضارة الغربية» أو «كمالات الدين» أو الجمل الاعتراضية الطويلة التي ترهق القارئ الملول، والاشتقاقات اللفظية الجديدة التي تجعل خطبه الجماهيرية كغناء «ود اللمين» كما قالت إحدى جميلات جامعة القاهرة الفرع وقتها. جاءني في يوم من الايام احد أصدقائي الحانقين على الإنقاذ والمعجبين بالترابي بعد الانشقاق يبشرني بحديث رائع له لقناة «الجزيرة» شاهده في أحد برامجها، فاطلعت على النص في موقع القناة بعيداً عن الصورة والمؤثرات الصوتية، وقرأته عدة مرات، فلم اجد فيه الترابي الذي عرفت «أو قل الذي أردت»، فقلت لصديقي مقالة لم تعجبه، وأدركت يومها كم هي مضللة الكلمة المسموعة بقدر ما هي حية وساحرة. وتابعت باهتمام ندوة مركز الجزيرة للدراسات حول صعود الإسلاميين للحكم وورقة الترابي «الإسلاميون وتحديات إدارة الدولة.. ابتلاءات مقاربة السلطان» وحديثه لبرنامج «في العمق» لاهتمامي وإشفاقي على تجربة الإسلاميين في الحكم بعد الربيع العربي، وخوفي من بوار شعاراتهم، ولكني فوجئت بأنه مازال في محطة الغضب الأولى، إذ أن عشر صفحات من صفحات ورقته الخمس عشرة إسودت بكيل السباب لإخوانه في الإنقاذ بروح من التعالي والسخرية البائنة، بل ولعضوية الحركة «التي غلبت عليها الرهبة من فعال النظام التي لا ترحم والطمع في عطاءاته ومغانمه المغرية»، وللأحزاب السودانية التي «إذا لم تجمعها مائدة السلطة تنزع للشقاق والخلاف ويتكاثرون زمراً متناكرة لا تكاد تمايزهم او تؤلف بينهم المناهج على خيارات متمايزة، بل الولاءات العمياء للتاريخ» والقوات المسلحة والقضاء والإعلام والخدمة المدنية والشعب السوداني الذي «لا يحسن أداء صلاة الجماعة متزكياً بروحها صفاً ونظماً بل هو فيما سوى العشيرة والقبيلة لا يسعى للمشاركة والتعاون في جماعة للكسب أو فعل الصالح والخير ... ومعظم المجتمع السوداني لا يسلم بداوة رعوية للبهائم إلا قليلاً من كثاقة للزرع على النيل، أو يخرج العامل مغترباً في بيئة هو فيها خادم فعال» هذا كله مقابل «أهل الحركة الأصليين المخلصين لمقتضى هدي الدين.. والمصابرون اعتصاماً بالحق» فيه وفي حزبه، فقلت ألا رحم الله أحمد سليمان الذي لم يندم على خطىً كتبت عليه فمشاها ومد الله في أيام عبد الباسط سبدرات الذي رفض أن يبصق على ماضيه. واطلعت في الشبكة الدولية على رسالة عنونها الدكتور الترابي إلى ضيوف المؤتمر الثامن للحركة الإسلامية السودانية، تناولتها وسائل الإعلام باعتبارها رسالة للمؤتمرين، ولم ينكرها الترابي، وهي تحمل أسلوبه ولغته المعروفة وانفاس الغضب التي اشرنا إليها، يستخف فيها بعقول الضيوف وكأنهم ضلوا طريقهم إليه، وهو يقوّم تجربة الحركة السودانية ويسوق مبررات الانقلاب والخلاف الذي مضى عليه عقد من الزمان ويزيد، وكأنهم لم يطلعوا على تفاصيله طوال هذه المدة، وتعجبت من إصراره على ذات المبررات القديمة، لم لا وهو لا يطلع على رأي المراقبين الذين يخاطبهم أو عضوية الحركة الذين يعرفون «البير وغطاها» والذين سخر من مؤتمرهم في تمركز شديد حول الذات قائلاً: «لذلك أقام ولاة الأمر الحاكم مؤتمراً سموه الحركة الإسلامية ليحتكروا تلك الصفة لأنفسهم، وعزلوا أعلام الحركة المعهودين مكبوتين أو معتقلين، والسياسة والحكومة تظل محتكرة لحزب لهم هو المؤتمر الوطني ومعه سواد من عوام المنافقين والمستوزرين من قوى سياسية وآخرين يبتغون المنافع.. إننا نتبرأ من هذا المشروع المدّعى أنه للحركة الإسلامية بالسودان، وإننا لا نعرف لها علماً وهدى فكرياً ولا خلقاً ولا سياسة مما ينسب حقاً إلى الإسلام». وفي ما يتعلق بحديثه عن خروج «قيادات عليا من الحركة الإسلامية هي المعروفة في العالم من حصار المؤتمر الوطني «الحزب السياسي الحاكم» ليتمايز مثال الإسلام عن النظام» وادعائه انحراف الإنقاذ عن الدين، يرى المراقبون أن حظ الإنقاذ من الدين بوصفها حكومة وحزباً هو هو، وإنما خرج منها من كان يستدرك ليس على تطبيق الحدود وإنما على أصل معظمها كحد الردة والسرقة والزنا وإن كنت اوافقه في كثير مما يقول، ولكن ذلك لا يغني في ما ارمي إليه شيئاً بل وخرج منها صاحب الآراء الشاذة التي قد تخرجه من الملة كما تقول الجماعات السلفية وحتى حلفائه في الحركة الشعبية والشيوعيين مازالوا يصفون الإنقاذيين في وسائل الإعلام «بالكيزان والجبهجية»، وهي صفة لا ينكرها الترابي ولا اعضاء حزبه. وفي ما يتعلق بنظرة الإخوان المصريين الذين كانوا ضمن ضيوف المؤتمر: اذكر انني والاخ د. حسن مكي في مطلع الثمانينيات وقد دعانا اتحاد الطلاب السودانيين في مصر للمشاركة في واحد من نشاطاته الثقافية قد كلفنا أن نلتقي بمكتب الإرشاد في محاولة لردم الهوة الشاسعة بيننا وبينهم، فزرنا مكتب مجلة «الدعوة» الذي كان يكتظ بالمتدافعين إلى أفغانستان، والتقينا بنفر منهم مصطفى مشهور وطلعت كمال وصالح ابو رقيق والأخ عمر التلمساني رحمه الله الذي استمع إلينا بادب جم، ووصف الترابي بانه سياسي ذكي، وفهمنا وقتها انه يعني «فهلوي»، وقبل منا هدية من منشورات الحركة فيها كتيبات للدكتور الترابي فوجئنا به يحولها «للفتوى» التي كان يقوم عليها الشيخ المطيعي، لتطالعنا مجلة «الدعوة» بعد عودتنا بوضع الترابي في - مقالات متتالية مع مصطفى أتاتورك ومحمود محمد طه!! أما في ما يتعلق باعتبار الترابي النكوص عن الانفتاح السياسي والحريات واحداً من مبررات الانشقاق، فإن المراقبين يرون أن الإنقاذ في عقدها الثاني قد أصبحت أكثر انفتاحاً، إذ أقرت دستوراً عام 2005م كان اكثر تقدماً في تقرير الحريات و حقوق الإنسان والاعتراف بالتنوع من دستور عام 1998م، وقانون للإحزاب عام 2005م هو افضل من قانون التوالي السياسي، وتوسعت في حرية الصحافة والإعلام وأوقفت الحرب في الجنوب، بل ومنحت الجنوبيين حق تقرير المصير واعترفت بدولتهم بعد ذلك، واجرت انتخابات رئاسية وبرلمانية شارك فيها المؤتمر الشعبي، ولا يشك أحد في انها أنزه من سابقاتها، وحظيت بمشاركة واسعة وبرقابة محلية وعالمية لم تحظ بها الانتخابات البرلمانية والرئاسية التي حضرها الدكتور الترابي. أما ما ورد في الرسالة حول لجوء بعض الإسلاميين إلى السودان بعد عام 1989م واتهامه لرجال الإنقاذ بانهم «سلموا اللاجئين الإسلاميين لمن قتلهم مباشرة وطردوا غالب الآخرين»، يكفي أن نحيله إلى مواقع من تبقى من شباب الجهاد الإريتري الذين مازالوا يصبون جام غضبهم على من باعهم لأسياس أفورقي، وإلى فتية الاتجاه الإسلامي وحركة النهضة التونسية الذين حضروا مؤتمر الحركة وما زالوا يتساءلون عمن دفعهم مبكراً إلى مغامرة مواجهة نظام بن علي لينكل بهم وهم جماعة صغيرة ناشئة، وإلى الدكتور محمد المقريف وإخوانه في جبهة الإنقاذ الليبية الذين يتساءلون أيضاً عمن زين لهم مغامرة باب العزيزية التي استغلها القذافي ليقتل آلاف الشباب المسلم في شوارع ليبيا وسجن «بوسليم»، وسؤال الإسلاميين عمن جنّد الشباب المسلم في خوض معارك بالوكالة عن نظام عربي ملكي متحالف مع الولاياتالمتحدةالأمريكية وإسرائيل ضد الناصريين والقوميين العرب والوجود السوفيتي في أفغانستان، والذي دفعته طموحات مشروعه الدولي لفتح أبواب السودان أمام هجرة من كانوا يعرفون بالعرب الافغان والجماعات الإسلامية المتطرفة بقيادة بن لادن والظواهري والتي كان يقول عنها ما لم يقله مالك في الخمر سوى أنهم كانوا يجيدون إدارة شبكات تهريب الاسلحة وتحريك الاموال وغسيلها، ويصلحون أدوات لمكايدة الأنظمة العربية والإسلامية، ويتحمل من أسس لهذا التعاون مسؤولية التدهور الذي اصاب العمل الإسلامي العالمي بعد ذلك، والصورة السيئة التي ما زالت مرسومة للسودان بين جيرانه الافارقة وشركائه العرب. وينظر المراقبون إلى كل السيئات التي ألصقها الترابي بالإنقاذ باعتبارها نتاج الغرس الأول الذي غرسه والخطأ في الفكرة والمنهاج «يلمز بها نفسه» في المقام الأول، وقد رد عليه الأستاذ الحاج وراق في ندوة مركز الجزيرة عندما قال: «ولأن الفساد تحول إلى ظاهرة شاملة، وإلى نظام مؤسسي، فإنه يؤكد أن الخطأ ليس في انحراف أشخاص أو فتنة أفراد، وإنما في الأفكار الفاسدة التي أسست نظاماً فاسداً». وبالله التوفيق