جاءت موازنة العام 2012 الذي يوشك على الوداع تحمل شعارات براقة في سماتها العامة في الحفاظ على الاستقرار الاقتصادي ومحاصرة عوامل ارتفاع الأسعار وتدني مستوى المعيشة للقطاعات والشرائح الاجتماعية الضعيفة ومحاربة الفقر. لكن تقديرات الموازنة كانت تشير لزيادة الإنفاق العام خاصة الجاري منه بنسبة 11 في المئة تقريبا، ورفع معدلات التضخم الى 17 في المئة، وارتفاع عجز الميزان التجاري الخارجي 17 مرة، وتدني إجمالي الناتج المحلي الحقيقي للفرد ، مما كان مؤشراً لاستمرار التراجع الاقتصادي والضائقة المعيشية وتدهور الجنيه ، الأمر الذي عكس تناقضاً واضحاً بين الشعارات والوعود ولغة الأرقام. كما اسرفت الموازنة في التفاؤل بشأن عائد استخدام الجنوب للمنشآت وأنابيب النفط وموانىء التصدير ،وهو ما لم يحدث بل ان اندلاع الحرب في هجليج في ابريل الماضي كبد البلاد خسائر بلغت مليار دولار في شهرين. استمرار التوترات والمواجهات العسكرية في ولايتي جنوب كردفان والنيل الازرق والصرف على عملية السلام في دارفور زاد معدل الصرف وتخصيص أموال للطوارىء،الامر الذي دفع وزارة المالية الى تعديلها،وفرض اعباء جديدة على المواطن برفع الدعم عن الوقود،مما كان خصما على الخدمات والتنمية. وزير المالية اعترف أمام ورشة بالبرلمان أمس أن مخصصات القطاع السيادي كلها لاتساوى تكاليف يوم واحد حرب،كما أن دارفور ينتشر بها 70 ألف جندي لفرض الأمن، ورأى أن المشكلات الامنية ستظل عائقا امام تقليل الانفاق والتنمية ،وستسهم في استمرار ارتفاع سعر الصرف، وكل ذلك يرهق الموازنة ويشكل ضغطاً كبيراً على الموارد الشحيحة. هذا حديث عاقل من وزير المالية لكن من يقنع دعاة الحرب،و الساسة أن تقديم تنازلات ولو كانت مؤلمة في سبيل استكمال عملية السلام في دارفور،وتحقيق تسوية في جنوب كردفان والنيل الأزرق سيوقف إراقة الدماء والمعاناة الإنسانية وهدر الأموال في حروب يدفع ثمنها المواطن. وكيل وزارة المالية يوسف عبدالله أكد ما كرسنا له هذه المساحة أمس، بتراجع الحكومة عن خطة التقشف وخفض الانفاق،حيث اتهم عبد الله مجلس الوزراء بعدم الالتزام بايقاف تصديقات السفر الا للضرورة ،وذكر أن المجلس رغم تسلمه خطابا من المالية منذ سبتمر الماضي بايقاف تصديقات السفر، لكنه لا يزال يصدر تصديقات ،و»وكالات السفر البتشتغل بالدين أبوابها مفتوحة «،أخي الوكيل هناك بلاوي في السفر..!! جملة الانفاق في الموازنة الحالية 28 مليار جنيه بينما الايرادات 19.3 مليار جنيه، أي أن الفجوة 8.7 مليار جنيه تمت تغطية الجزء الأكبر منها عبر التمويل الداخلي،وشمل الاستدانة من الجهاز المصرفي وهو ما قاد بجانب عوامل أخرى الى ارتفاع معدل التضخم حتى تجاوز 41 في المئة في أكتوبر الماضي،مع أن الموازنة قدرت متوسطه بنسبة 17 في المئة. سمات الموازنة الجديدة للعام 2013 لا تختلف كثيراً عن سابقتها،ومع وجود مؤشرات ايجابية بنجاح الموسم الزراعي الصيفي،وارتفاع انتاج الحبوب،والاقتراب من الاكتفاء من الزيوت،لكن ثمة تحديات كبيرة ستهدد الموازنة،والحمد لله أن وزارة المالية مدركة لها،ويحتاج تجاوزها الى إرادة سياسية. اذا كان العام الحالي الذي يقترب من نهايته كان هو الأصعب «عام الرمادة»، فإن العام الجديد حسب المؤشرات الراهنة لن يكون أفضل حالاً من سابقه إلا في حال تبنت الدولة بروسترويكا سياسية،تحدث انعطافاً نحو مرحلة جديدة، كما يتطلب من الحكومة أن تجري مراجعة شاملة في سياساتها ومنهجها في ادارة الدولة ومحاربة الفساد وتضرب المثل في التقشف وشد الأحزمة على البطون.