ناقش المجلس الوطني الخطة الخمسية الثانية 2012/2016م في يوم الاربعاء السابع من نوفمبر 2012م، أي بعد انقضاء العام الاول للخطة بالتقريب «عام 2012م»، وكما يعرف القارئ الكريم فإن كلمة خطة اقتصادية حسب الفهم العام، تعني وثيقة مكتوبة تتعلق بحشد وتخصيص واستخدام الموارد المالية والبشرية لتحقيق مقاصد او غايات اقتصادية محددة وفي زمن محدد، او بمعنى آخر هي دليل عمل لفترة زمنية معينة. وقد وضعت الخطة الخمسية الثانية في اطار الاستراتيجية ربع القرنية « 2007 2031م» برؤيتها الاستراتيجية الخاصة «باستكمال بناء أمة سودانية موحدة وآمنة ومتحضرة ومتقدمة ومتطورة» والتي تستهدف ثماني غايات « مقاصد»: Objectives وهي: 1/ استدامة السلام والسيادة الوطنية والوفاق الوطني. 2/ المواطنة والهوية السودانية. 3/ الحكم الرشيد وسيادة حكم القانون. 4/ التنمية المستدامة. 5/ تخفيض حدة الفقر وتحقيق أهداف الألفية التنموية. 6/ التطوير المؤسسي وبناء القدرات. 7/ بسط المعرفة المعلوماتية. 8/ تطوير آليات البحث العلمي. وقد يتفق معي القارئ حول ان اية خطة تكون بدون فائدة اذا لم تتوفر فيها ثلاثة شروط اساسية: أولاً: ان تعكس الخطة رؤية الشخص الذي يملك سلطة اتخاذ وانفاذ القرارات المتعلقة بحشد وتخصيص واستخدام الموارد المالية والبشرية من خلال الموازنة السنوية والقرارات اليومية التي يصدرها. والمقصود بالرؤية الوضوح الكامل حول المقاصد التي يريد الوصول اليها ومتى وكيف. فاذا لم تكن لذلك الشخص المسؤول رؤية «مقاصد واضحة» او كانت الخطة لا تتفق مع رؤيته فإن الخطة ستكون في كلتا الحالتين وثيقة ديوانية يعدها التكنوقراط ولكن لا حظ لها في التنفيذ. وثانياً: ان تقوم الخطة على التحليل الشامل والعميق للواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي وتحديد نقاط الضعف ونقاط القوة والمهددات والفرص المتاحة، ليتم على ضوء ذلك التحليل تحديد السياسات المناسبة لازالة مواطن الضعف والتصدي للمهددات والوصول الى المقاصد التي يراد الوصول اليها. وثالثاً: ان تقوم الخطة على الواقعية والابتعاد عن التهويم في عالم الاحلام الزلوطية. واعتقد انه لا يتوفر اي شرط من الشروط الثلاثة المذكورة اعلاه في الخطة الخمسية «2012م 2016م». هناك اولاً غياب كامل للرؤية، وكل ما نسمعه من رموز النظام الحاكم كلام هلامي عن المشروع الحضاري بدون تحديد لماهية ذلك المشروع، ومتى يريدون انجازه بعد مدة ثلاثة وعشرين عاماً من حكم السودان. ويكفيني هنا للاستدلال على غياب الرؤية ما جاء على لسان احد رموز النظام وهو الاستاذ ربيع حسن احمد مدير مركز دراسات المستقبل في جريدة «إيلاف» الاسبوعية عدد الاربعاء 24 اكتوبر 2012م، حيث يقول «الحركة كمجموعة» ويقصد الحركة الاسلامية «مطالبة بأن تضع على رأس اهتماماتها الوصول لأفكار تواجه بها الواقع السوداني وتعمل على النهوض به، ولكن هذه الافكار غير موجودة بهذه الطريقة حالياً، فالسودان تديره الحكومة وهي تواجه قصوراً في جانب الفكر والاستراتيجية وتشغلها القضايا اليومية ومشكلات الحكم المتجددة». وثانياً: يلاحظ القارئ الذي يقوم بتحليل الخطة بدقة، انها لا تمس نقاط الضعف والمهددات او التحديات التي تواجه السودان اليوم، وفي مقدمتها الفقر وانخفاض معدل نمو الدخل القومي الاجمالي إلى «1.36%» في العام فقط، في حين يزداد عدد السكان بمعدل حوالى 2.8% في العام. وتآكل الاصول الرأسمالية وتدهورها شبه الكامل «الشوارع المتصدعة وشبكات توصيل المياه ومباني المدارس والمستشفيات الآيلة للسقوط، وآلات ومعدات المصانع المتوقفة عن الانتاج ... الخ»، والانفلات الامني والحروب والامراض الاجتماعية الخطيرة مثل البطالة وسط الشباب المتعلم، وتفشي المخدرات والسرقة، والانحلال الاخلاقي والهجرة «الهروب» من الارياف الى المدن خاصة الى العاصمة الخرطوم، والهروب من السودان إلى الخارج، وانهيار مستوى مخرجات التعليم في كل المراحل ..الخ. كما يواجه السودان مخاطر انحسار الولاء القومي والارتداد للولاء القبلي الأعمى الذي لا يميز بين الحق والباطل. وثالثاً: لا تشتمل الخطة الخمسية على اي توضيح حول مصادر تمويلها. فهناك مشروعات وتكاليف ولكن لا يوجد اي شيء حول مصادر تمويل تلك المشروعات. والشيء المعروف هو ان الموازنة السنوية للحكومة هي الاداة التي يتم من خلالها حشد الموارد المالية وتخصيصها او توزيع الموارد المالية على اوجه الاستخدام المتعلقة بالصرف الجارى التنمية «مواصلة الصرف على مشروعات تحت التنفيذ والشروع في تنفيذ مشروعات جديدة». ولكن الخطة الخمسية لا تتحدث بتاتاً عن الموازنة السنوية ولا تتضمن أية توقعات حول ايرادات الدولة وأوجه صرفها خلال سنوات الخطة من 2012م الى 2016م، وهذا خلل كبير في الخطة يحط كثيراً من قيمتها بوصفها مرشداً أو دليلاً للأداء الاقتصادي. تحدي القضاء على الفقر: اعتقد ان التحدي الرئيس الذي يواجه السودان اليوم هو الفقر والفقر المدقع الذي أعنى به عجز الغالبية العظمى من السودانيين عن الحصول على دخول تمكنهم من الحصول على الحد الادنى من احتياجات المعيشة الاساسية من اكل وشراب وسكن لائق وتعليم وعلاج، ويزداد السودانيون فقراً العام بعد الآخر لعدة اسباب في مقدمتها: أولاً: الارتفاع المتواصل في الاسعار الذي يأكل القيمة الشرائية للدخول، وخاصة دخول الذين يعتمدون على الاجور، وقد وصل معدل ارتفاع الاسعار الى 45% خلال السنة من نوفمبر 2011م الى نهاية اكتوبر 2012م، وحدث انهيار شبه كامل لقدرة أغلبية المواطنين لمقابلة متطلبات الحياة اليومية من طعام وشراب وسكن وعلاج وتعليم. كما تراجع معدل نمو الدخل القومي الى 1.36% فقط خلال عام 2012م، وتلك نسبة اقل من المعدل السنوي لزيادة السكان «2.8%». وذلك بسسب ضعف الاستثمار وتآكل الاصول الرأسمالية القائمة وخروج اجزاء كبيرة من الوطن من دائرة الانتاج بسبب الحروب مثل الحرب في جنوب كردفان وولايات دارفور، وسوف تزداد الاوضاع سوءاً اذا ما سرنا على نفس النهج السابق في تبديد الاموال في الصرف الاستهلاكي وعدم توفير اموال للصرف في الاستثمار الذي صرنا نعتمد في الصرف عليه على القروض وطباعة العملة. وحسب الموازنة المعدلة لهذا العام 2012م يتوقع ان تكون اجمالي ايرادات الحكومة المركزية حوالى «19» مليار جنيه سوداني، ويتوقع ان تكون مصاريف التشغيل حوالى «26» مليار جنيه سوداني. وهذا يعني ان الايرادات تعجز عن تغطية مصاريف التشغيل بمقدار «6» مليارات جنيه سوداني، وسوف تلجأ الحكومة الي تغطية ذلك العجز عن طريق الاقتراض من الداخل والخارج وطباعة المزيد من العملة وضخها في السوق. ويتوقع ان يكون الصرف على التنمية خلال عام 2012م ملياري جنيه سوداني فقط، ويتوقع ان يصل العجز الكلي في ميزانية 2012م الى «11» مليار جنيه سوداني سوف تحاول الحكومة تغطيته عن طريق اصدار المزيد من العملة واشعال نار الاسعار، وعن طريق الاقتراض من الخارج ومن الداخل عن طريق إصدار المزيد من شهادات شهامة والصكوك وما شابهها. ولكن هل يتوقع استمرار هذا الوضع؟ القنابل الزمنية: كل من الغلاء والبطالة وسط الشباب قنبلة زمنية قد يؤدي انفجارها الى اضرار اجتماعية وسياسية واقتصادية كبيرة جداً. وقد قلت أعلاه إن الغلاء قد أدى الى تآكل دخول أغلبية المواطنين وانهيار قدراتهم على تلبية متطلبات المعيشة الاساسية. وقد وصلت نسبة البطالة الى 20% حسب الاحصائيات الرسمية. ولا يستطيع اي مكابر ان يقلل من مخاطر البطالة خاصة وسط الشباب المتعلم الذي يعيش في المدن. والطريقة الوحيدة والعملية لمواجهة كل من الغلاء والبطالة في نفس الوقت، هي أولاً: الاعتماد على الموارد الحقيقية لتغطية مصروفات الحكومة، واعني بالموارد الحقيقية «في حالة الحكومة السودانية» ايرادات الضرائب وايرادات البترول. والايقاف الكامل لطباعة العملة، واكرر الايقاف الكامل لطباعة العملة لانها هي السبب الرئيس في ارتفاع الاسعار وانهيار قيمة الجنيه السوداني. وثانياً توجيه الموارد المالية والبشرية الى الانتاج خاصة القطاع الزراعي. ولكن هل هناك ما يشير الي اننا سوف نفعل ذلك؟ لا اعتقد ان هناك نية صادقة لمحاربة الغلاء او لتحريك الاقتصاد. وتقول الاحصائيات الرسمية التي صدرت عن موازنة عام 2013م، إن عجز الايرادات عن تغطية المصروفات قد يصل الى عشرة مليارات جنيه سوداني. وتتضمن المصروفات مبلغ خمسة مليارات جنيه عبارة عن دعم استهلاك البنزين والقمح والسكر للحيلولة دون ارتفاع اسعار تلك المواد الاستهلاكية. ولكن ذلك الدعم لا يأتي من موارد حقيقية ولكنه يأتي من طباعة العملة التي سوف تؤدي الى ارتفاع كل الاسعار، وكأن الحكومة تأخذ بيدها اليسرى ما تعطيه بيدها اليمنى. وأي حديث عن الدعم مع الاعتماد على طباعة العملة لتغطية مصروفات الحكومة نوع من الاستعباط والضحك على العقول. فمثلاً في الموازنة المعدلة لعام 2012م «هذا العام» نجد ان دعم المحروقات حوالى ملياري جنيه سوداني، ويساوي بالضبط الاستدانة من البنك المركزي. ويتوقع أن تعتمد الحكومة على الاستدانة من البنك المركزي، اي طباعة المزيد من العملة لتغطية عجز موازنة عام 2013م، فأين الدعم؟ ولماذا الاصرار على هذا الحمق؟ إن استمرار الحكومة في طباعة العملة سوف يوصل أغلبية الشعب السوداني الى الفقر المدقع، ويؤدى إلى انهيار قيمة العملة السودانية، وفقدان المنتجات السودانية قدرتها على المنافسة في السوق المحلي وفي اسواق الصادر، كما سوف يؤدى إلى طرد المستثمرين السودانيين والأجانب. ولهذا فإن اول اجراء يجب اتخاذه لمحاربة الغلاء والفقر في السودان هو الكف تماماً عن طباعة العملة لتمويل مصروفات الحكومة، والاعتماد بدلاً من ذلك على الايرادات الحقيقية، وهي الضرائب وايرادات النفط والاقتراض من الجمهور عند الضرورة، بجانب تخفيض مصروفات الحكومة بالتخلص من كل المصروفات الجارية غير الضرورية، وتوجيه الموارد المالية لتشجيع الإنتاج لزيادة المعروض من السلع والخدمات، لأن ذلك هو ما سوف يؤدي إلى تخفيض الأسعار وتوفير فرص العمل. وهذا ما سوف اتحدث عنه ان شاء الله في الجزء الثاني من هذا المقال.