تمتاز جنوب كردفان بأراضٍ زراعية ورعوية خصبة في المجال الزراعي، ولعل من أكبر المشروعات الزراعية المطرية المشهورة في جنوب كردفان مشروعات هبيلة التي تقع جنوب شرق محلية الدلنج قبل أن تصبح هبيلة محلية قائمة بذاتها، كما أن هناك مشروعات زراعية في مناطق مختلفة مثل كرتالا ودلامي والتنكل وغير ذلك، بالاضافة الى المشروعات الزراعية تلك فإن جنوب كردفان تعتبر المنطقة الرعوية الاولى في كردفان بصفة عامة لما تتميز به من صنوف الأعشاب المختلفة ووفرة المياه، فهذه الأعشاب تتغذى عليها جميع الحيوانات سواء أكانت أبقاراً أو أغناماً أو جمالاً، وبالتالي فهى بوتقة انصهار لجميع قبائل السودان الزراعية والرعوية والتجارية، فرغم المهن والحِرف المختلفة إلا أن جميع السكان طيلة سنين ما قبل الحرب كانوا يعيشون في تناغم وانسجام تام، وشكلوا بهذا الانسجام والتناغم صيغة تعايش وطني قلما توجد في أية بقعة من بقاع الأرض كانت مضرب المثل في جميع أنحاء السودان، كما أن جنوب كردفان تمتاز بميزات أخرى، فقد حدثني أحد الاساتذة المعاشيين الذين عملوا بجنوب كردفان من قبل فقال إنهم كانوا في الستينيات من القرن الماضي يجرون القرعة في تنقلات المعلمين الى جنوب كردفان لحسم التنافس عليها، وذلك لأن جنوب كردفان كما قال في تلك الفترة تعتبر لوحة فنية إلهية في طبيعتها الخلابة، وهى ملهمة للمبدعين والفنانين، لذلك لا غرابة أن يكون أحد أركان الفن السوداني وهو عبد القادر سالم من الذين نهلوا من معين جنوب كردفان الصافي، وآخرون كثيرون شكلتهم طبيعة جنوب كردفان، فكانوا من خيرة الناس، فجنوب كردفان ليست حلبة صراع وسجال سياسي كما هو الحال الآن، وليست ضيقة في مساحتها الجغرافية حتى يختلف الناس فيها ويموتون، وإنما هى كما أسلفنا منطقة زراعية رعوية من الدرجة الاولى، لكن أصبحت الزراعة فيها مهددة لعدم توفر الأمن في كل أرجاء الولاية، وحتى الجانب الشرقي من الولاية أصبح هو الآخر في دائرة عدم الأمن والخوف، والرعي والزراعة عنصران أساسيان في التنمية الاقتصادية، فإذا سلمنا بأن الزراعة أصبحت في خطر لعدم استتباب الأمن، فإن العنصر الثاني من العملية الاقتصادية وهو الرعي بات في خطر أشد لما سنذكره بعد. ومعلوم أن القبائل الرعوية أبالة أو بقارة أو غنامة لهم في العام رحلتان، رحلة الخريف ورحلة الصيف، أما رحلة الخريف فتبدأ من أقصى جنوب كردفان وشرقاً من تلودي وكلوقي والليري، وجنوباً من البرام والتيس واللحيمر وطروجي، وتنتهي هذه الرحلة شمالاً بالنسبة للبقارة في الأبيض وأبو حراز، وبالنسبة للأبالة تنتهي في الخوي وأولاد بخيت والنهود، وكذلك الغنامة، وهذه الرحلة الخريفية تسمى اصطلاحاً «المنشاق»، ولهذه الرحلة مذاق خاص، حيث تكثر فيها المناسبات الاجتماعية مثل الزواج والطهور للاولاد والبنات دون اكتراث لما يسمى العادات الضارة في البندر، أما الرحلة الثانية وهى رحلة الصيف، فتبدأ من حيث انتهت الرحلة الاولى وتنتهي بنهايتها، كان ذلك قبل الحرب القائمة الآن، أما بعد نشوب الحرب فقد أصبحت رحلة الصيف غالباً ما تنتهي بالدلنج والدبيبات بالنسبة للأبالة والغنامة ومعظهم من قبائل المعاليا والشنابلة والجليدات والمجانين، وقليل من دار حامد والكبابيش، أما بالنسبة للبقارة عموماً فالأمر مختلف، فهم في كل أنحاء الولاية فحيثما انتهى ظلف البقرة انتهت الرحلة، حتى ولو كان ذلك الى ارض كاودا، بمعنى آخر ليس بينهم وبين الحركة الشعبية في الوقت الراهن خصام ولا صراع ولا تنافس على كراسي، بل القاعدة الحاكمة ومعيار التعامل «لكم دينكم ولي دين» وبارك الله فيمن نفع واستنفع، وسألت أحد القادمين من أقصى الجبال فقلت له ما هو وضع الرعاة في مناطق ابو سفيفة والدندور والبجعاية وكركراية، وهى مناطق الرعي المجاورة للحركة الشعبية في كاودا وهيبان، فقال لي: البقر سارحة والأسواق عامرة والسُنبك شقال، والسُنبك مصطلح يطلق على التجار الذين يتعاملون ما بين أسواق الحكومة وأسواق الحركة الشعبية في الجبال «بالدس»، ونفس هذا الحال ينطبق على الجانب الغربي من كادوقلي، ابتداءً من جبال كرنقو وأبو سنون وميري وليما والمشايش، وهى كلها أو معظمها أسواق تقع في مناطق الحركة الشعبية، وبالقرب من هذه المناطق تقع مضارب أى فُرقان المسيرية في كيلك والخرصان ودميك، ولا شك أن تبادل المنافع بين الطرفين قائم والحركة التجارية متواصلة، اذاً هذا هو التوصيف الدقيق لوضع الرعاة في جنوب كردفان في ظل الصراع القائم بين الحكومة والحركة الشعبية بجنوب كردفان، والاسئلة المطروحة في هذا المجال كما يلي: هل هذا الوضع سليم وطبيعي أم لا؟ في تقديري بالنسبة للرعاة وضع طبيعي وسليم من أجل العيش «متاع لكم ولأنعامكم»، لكن من زاوية أخرى هذا الوضع فيه خطورة بالغة، والخطورة فيه تكمن في تقوية الحركة الشعبية بتوفير مستلزمات الحياة لها عبر الرعاة، وفي المقابل يأمن الرعاة على أنفسهم ومواشيهم من غدر الحركة الشعبية، بمعنى آخر يمكن أن نسمي هذا الشكل من العلاقة «تكتيك مرحلي» حتى تضع الحرب أوزارها، وهناك سؤال آخر في هذا المضمار، ما هى الأسباب التي أدت الى قيام وضعٍ كهذا؟ طبعاً الاجابة بديهية.. قامت الحرب يوم ستة ستة الساعة ستة حسب الرواية المشهورة للاخ أحمد هارون والي الولاية، وكان الجميع يتوقع حسم الحرب وعودة الحياة الى وضعها الطبيعي، لكن الأمور سارت عكس ذلك تماماً، وطال أمد الحرب ولم تنته، والإنسان بصير على نفسه يكيف أوضاعه على الوضع القائم أياً كان حرباً أو سلاماً، وهذا ما كان من أمر الرعاة الذين وفقوا أوضاعهم وتعاملوا بسياسة الأمر الواقع، والأمر الواقع بالنسبة للرعاة في جنوب كردفان «كراع مع الحركة وكراع مع الحكومة» ولا خير في هذا أو ذاك بالنسبة لهم، إنما الخير كله يكمن في المرعى الآمن والسروح في المروج، فهذا الوضع القائم بهذا الشكل الذي ذكرناه يعتبر شكلاً شاذاً وغريباً إذا قارناه بنفس الأوضاع في الحرب الأولى 1985م وقبل توقيع نيفاشا، طيب إذن ما هو الشذوذ في هذا الوضع؟ أولاً كانت القبائل الرعوية الموجودة في جنوب كردفان كلها دفاع شعبي تقاتل في صف الحكومة ضد التمرد، أما الآن فهى لا تحارب التمرد ولا تقف ضده، إنما تبحث عن مصالحها بين فرث ودمٍ، وبنفس القدر لا تحارب الحكومة ولا تعاديها إلا بقدر المنافع المتبادلة بين الرعاة والحركة الشعبية، ولها في ذلك تبريراتها وتفسيراتها الخاصة بها من أجل البقاء والعيش في مناطق الفتها أبقارها وأغنامها منذ سنين طويلة ربما للكلأ الذي لا يوجد في غير تلك المناطق، والراعي في فقه الرعاة تابع وليس متبوعاً، فهو يتبع البقرة حتى لو دخلت جبال كاودا وأجرون، وبالتالي لا بد أن يجد فقهاً واقعياً يحلل به مسرحه ومرعاه، حتى ولو أدى ذلك لترك ما هو معلوم بالضرورة في الفقه السياسي. وهذا التحليل للوضع الخاص لأوضاع الرعاة في مناطق النزاع قصدنا به لفت الانتباه لوضعٍ في تقديرنا الخاص شائك وخطير ويحتاج إلى وضع رؤية استراتيجية للتعامل معه، مع الأخذ في الاعتبار كل الأسباب والمسببات التي أدت الى قيام وضعٍ كهذا، ولذلك لا نستغرب أن تكون الحركة الشعبية بجنوب كردفان مُشكلة من إثنيات مختلفة، وليس كما يظن بعض الناس أن كل المتمردين نوبة وكل الذين فوق الجبال هم من أبناء النوبة، فهناك عدد لا يستهان به من الاثنيات الاخرى مع الحركة الشعبية تقاتل ضد الحكومة، وهنا لا بد أن نشير إلى جانب مهم في هذا الوضع وهو عملية استغلال الرعاة بوصفهم مصادر وتحييدهم للاستفادة منهم، وكما أسلفنا فإن الراعي من أجل حيوانه يمكن أن يستجيب لأى مطلوب دون تردد حتى لو أدى ذلك للمجازفة بحياته، وهذا وضع طبيعي ومعروف لكل من عاشر الرعاة وتعرف على طبيعة حياتهم الرعوية، ونخلص الى أن هذا الشكل من العلاقة في ظل الصراع القائم ربما كان سبباً في إطالة أمد الحرب بإمداد الطرف الآخر «الحركة الشعبية» بكل سبل الحياة، وكذلك فإن مناطق الرعي المتاخمة لمناطق الحركة الشعبية أصبحت واحدة من المهددات الأمنية التي يجب أن يوضع لها حساب خاصة بعد أصبحت حركة الرعاة وتنقلاتهم بالدراجات النارية التي تقطع مسافات طويلة وتحملهم الى بلدٍ لم يكونوا بالغيه إلا بشِق الأنفس من جبال ووديان ووهاد. هذه إحدى القضايا المؤرقة بجنوب كردفان رأينا طرحها ومناقشتها للإفادة ودرء المفاسد، وهى تحتاج إلى ورش وسمنارات علمية لدراسة السلوك والدوافع حتى توضع النقاط فوق الحروف، ولا بد أن نتذكر دائماً في مثل هذه الظروف والملابسات غير الطبيعية أن المؤمن كيِّس فطن. وبالله التوفيق.