تألمت حين قرأت مقالا للسيد محمد جميل أحمد يكشف فيه التجاهل والإقصاء الذي تتعرض له قبائل البني عامر والحباب من قبل السلطات بشرق السودان معددا أمثلة كثيرة لذلك. تألم كاتبنا الكبير، وألمني معه، لطرحه للوضع المريع الذي ترزح تحته قبائل الشرق ومنها البني عامر والحباب. ومحمد جميل هو مفخرة لا للشرق فحسب، بل لكل السودان، فهو من المثقفين المتميزين ذوي الادراك الواسع، ومن الشعراء الموهوبين ومن الكُتّاب المتمكنين، هو قامة أدبية شامخة يشار اليها بالبنان. اشترك في عدة منافسات ادبية على نطاق العالم فنال عدة جوائز تقديرية. وله عدة مؤلفات. كما اغنى الشاعر البجاوي الكبير محمد عثمان كجراي الادب السوداني بقصائده الرائعة، فهاهو الاديب الكبير جميل يواصل المشوار. أعجب بكتابات جميل وأتابعها باهتمام بالغ. الا انني أود ان اناقش واختلف معه فيما سطره قلمه وهو في حالة غضب للاقصاء والتهميش الذي تتعرض له قبائل الحباب والبني عامر في مقاله الاخير، الذي نشر تحت عنوان: قومية التقري وسياسات الإقصاء بشرق السودان في صحيفة الصحافة ،لنناقش بعض ما ورد في المقال والنقاش المثمر يؤدي الى نتائج ايجابية. أولا أود ان اتساءل أليس البني عامر والحباب ما هم الا البجا الاصليون؟ اليس هم من تمازجوا مع قدماء المصريين، حتى اعتقد بعض علماء الاجناس لفترة طويلة انهم هم قدماء المصريين؟ أليس هم الذين تزاوجوا مع العرب وبنو هذه القبائل بشرق السودان وارتريا كما اشار اليهم الرحالة العرب والافرنج منذ القدم واطلقوا عليهم كلمة بجا؟. لا يمكن باي حال من الاحوال فصل الحباب والبني عامر من بقية البجا على اساس انهم مجموعة لغوية مختلفة. كل المراجع العلمية والتاريخية، الاوروبية منها والعربية، تعتبرهم جزء من البجا الى جانب الأمرار والهدندوة والحلنقة والبشاريين والعبابدة والكميلاب والاشراف والارتيقة وهم من أقدم الشعوب الأفريقية على الاطلاق. وهي القبائل التي تسكن ما بين ساحل البحر الاحمر ونهر النيل ومن جنوباسوان حتى مصوع وجزر دهلك إلى مناطق خور بركة وقلع النحل والقلابات والقضارف والبطانة. الاستاذ الكبير وشيخ المؤرخين السودانيين محمد صالح ضرار اعتبر في كتاباته المتعددة البني عامر والحباب جزء من قبائل بجاوية. وعندما يعتبر الاستاذ جميل البني عامر والحباب قومية تقري فهو ربما نسي ان فروعاً كبيرة من البني عامر يتحدثون بالبداوييت مثل قبائل البلو والبداو واللبت وموسى آر والملهيتكناب والسنكاتكناب على الحدود الارترية السودانية. أليست هذه القبائل هي صاحبة اللغة البجاوية الاصيلة؟ وأكيد ان الكاتب لم يتعمد اقصاءهم. يرجح بعض علماء علم الاجناس واللغات ان قبائل البني عامر والحباب كانوا في الازمنة الغابرة يتحدثون اللغة البجاوية، الا ان قربهم على الحدود مع اثيوبيا جعلهم يتحدثون التقري، التي هي الى جانب لغة التقراي والامهرا ذات جذور جئزية. ثانيا: كما يعلم الاستاذ جميل، فان تقري كلغة وليس كقومية يتحدث بها بعض قبائل شرق السودان كالبني عامر والحباب، إلى جانب بعض القبائل الأثوبية والارترية، الا ان مفهوم قومية التقري ظهر في الفترة الاخيرة وربما لاسباب سياسية. يطرح بعض المثقفين البني عامر ان مفهوم قومية التقري هو مفهوم مستحدث ويؤدي الى تقسيم وتشتت الصف البجاوي، ويفضلون التمسك باسم القبيلة، البني عامر والحباب، كما اعتادوا عليه عبر التاريخ. يقول صالح ود شارف ان مفهوم مسمى التقري لا يخدمنا في شئ في مقاله: الا يحمل الاستاذ جميل نفس الرأي؟. هل يسعى الاستاذ الى تفريق قومية البجا الى فريقين على الاساس اللغوي الى تقري وبجا من ناحية، ومن ناحية اخرى يسعى لتشتيت البني عامر والحباب الى فريقين: فريق يتحدث بالبداوييت والفريق الآخر بالتقري؟ ثالثا: يربطنا التاريخ الواحد والارض واللغة والعادات والتراث منذ آلاف السنين. ابن حوقل، الذي زار منطقة البجا قبل اكثر من الف سنة، يقدم الدليل التاريخي بوحدة الانتماء. يقول ابن حوقل، ان السكان في ممالك البجا يتحدثون باللغة البجاوية بما في ذلك قبيلة الحدراب، وذكر ان لقبيلة الحدراب يوجد فرعان، وتنتمي لاحد الفرعين قبائل هنديبا والارتيقة والسوتبادوة والهوتمة والهدندوة والرندوة، اما المجموعة الاخرى فتنتمي اليها قبائل الجنيتكا وقبائل القرئيب. سمي ابن حوقل أيضا قبائل الخاسة، وهي حينذاك كانت تعيش على طول التلال والسهول الساحلية على مصب خور بركة. اما قبيلة الرقبات فذكر انها بقيت قريبة من ميناء سواكن. وذكر ايضا قبيلة باسم العمائر. خمس من هذه القبائل التي ذكرها ابن حوقل لا زالت تحمل نفس الاسم وتعيش في المواقع التي حددها، وهي الارتيقة والهدندوة والخاسا والقرئيب والرقبات وهي جميعها سكان مملكة واحدة هي الدجن. يقول اليعقوبي عن ممالك البجة الستة: "فأول مملكة البجة من حد أسوان، وهي آخر عمل المسلمين من التيمن بين المشرق والمغرب إلى حد بركات، وهم الجنس الذي يقال له: نقيس ... والمملكة الثانية من البجة، مملكة يقال لها: بقلين، كثيرة المدن ... ثم المملكة الثالثة يقال لها: بازين، وهم يتاخمون مملكة علوة من النوبة، ويتاخمون بقلين من البجة ... والمملكة الرابعة يقال لها: جارين، ولهم ملك خطير، وملكه ما بين بلد يقال له: باضع، وهو ساحل البحر الأعظم إلى حد بركات من مملكة بقلين، إلى موضع يقال له: حل الدجاج ... والمملكة الخامسة يقال لها: قطعة، وهي آخر ممالك البجة، ومملكتهم واسعة من حد موضع يقال له: باضع، إلى موضع يقال له: فيكون، ولهم حد شديد، وشوكة صعبة، ثم المملكة السادسة، وهي مملكة النجاشي." يتضح لنا من كتابات الاولين ان سكان المنطقة من جنوباسوان حتى مصوع ومن البحر الاحمر حتى النيل هم البجا تحت اسماء فروعهم المختلفة وممالكهم الخمسة. ويثبت التاريخ الحديث ان ابطال البني العامر والحباب وقفوا في صف واحد مع اخوانهم من القبائل البجاوية الاخرى اثناء النضال ضد المستعمر: مع بامكار عبدالله، جيلاني محمد احمد، الخليفة ادريس نور، عمر ابوآمنة، محمد صالح ضرار، شيخ صبري، عثمان عمر المصري، هاشم محمد سعد، ابوعلي مجذوب، محمد سعيد ناود، حامد كنتيباي، ابوعلي موسى، محمد عثمان كجراي، حسن مختار، طه عثمان بلية، وسجلوا جميعا تاريخا مليئا بالتضحيات ونكران الذات والتعاضد والتضامن والاخاء ووضعوا مثالا يحتذى به. رابعا: يتعرض الاستاذ جميل لموضوع حساس للغاية وهو ملكية الارض، واراه ينحاز لجانب السلطة المركزية حين يقول: فكرة الحيازة التاريخية للأرض المحلية هي ملك سيادي للدولة! لا يا محمد، هذا لا يجوز. الارض هي ملك لاصحابها من السكان الاصليين الذين يعيشون فيها منذ القدم. هكذا تفتي وثائق الاممالمتحدة الخاصة بحقوق السكان الاصليين، كما في استراليا، وجنوب امريكا، وكما كان في الكونغو وغيره من المستعمرات. وانت تعلم ان البجا يقدسون الارض كما لم تقدسها شعوب غيرهم. لماذا تؤيد سلب السكان الاصليين من حقهم في ملكية الارض كما نصت عليه المواثيق الدولية واتفاق السلام الشامل وكذلك اتفاقية ابوجا التي اكدت ملكية القبائل للأرض (الحواكير) والحقوق الأخرى للمواطنين في المنطقة وفقا لحدودهم التاريخية؟ سكان استراليا الاصليين ينالون قضائيا تعويضات مادية مجزية من الحكومة المركزية او الاقليمية عندما تستثمران اراضيهم. خامسا: ان التهميش والاقصائية التي تتعرض لها قبائل الحباب والبني عامر هي نفس الاقصائية والتهميش الذي تتعرض له قبائل الشرق، بل كل الهامش السوداني. ان قبائل الشرق تشارك بعضها البعض البؤس والمرض والاضطهاد والاذلال والتهميش وسلب مواردها وتحويلها الى الخرطوم. لابد لجميع البجا شن نضال شرس لتحسين اوضاعهم. الاستاذ يدرك هذه الحقيقة حين يقول: إن أولى الواجبات التي يفرضها الوعي النظري العميق لبنية مجتمع البجا وتحدياته المستقبلية هي في الاستجابة للنضال المدني الحقيقي من أجل المواطنة والحقوق الثقافية وتكافوء الفرص واحترام التعايش والاندماج من خلال سياسات بينية لعمل مدني منظم يجعل من الحقوق المشروعة في المواطنة سقفا لمطالبه في العيش الكريم والحرية والعدالة . نعم لابد من شن نضال شرس لوضع حد لمعاناة البجا ويستدعي هذا توحيد الصف البجاوي بكل مكوناته لشن ذلك النضال. لابد من التفاكر وتبادل الآراء لقيام تنظيم يزلزل الوضع ويحقق آمالنا في حياة حرة كريمة، لا اقصاء فيها ولا اضطهاد، لا مص دماء فيها ولا اذلال.