لم يكن أهل الفاشر حتى عهد قريب يعرفون من دروب التجارة إلا حلالها، ومن الأسواق إلا السوق الكبير، وسوق أم دفسو وسوق أم سويقو وسوق المواشي، ولكنهم في عهد الغسيل والتنزيل والتأصيل عرفوا سوق «المواسير» المعروف عند فقهاء التأصيل باسم «سوق الرحمة»، ربما لأنهم فيه رحماء بينهم أشداء على الآخرين الذين باعوهم الترام وجعلوهم مواسير «اباطهم والنجم» مثل مواسير كرة القدم أو أشبه بماسورة القرد كما في الحكاية التالية التي سيحكيها لكم الزميل التقي، الذي ألقى نظرة على هذا النبت الشيطاني.. الطرفة عن الأسد واللبوة والقرد لا تصلح أن تروى على صفحات الصحف السيارة إلا مخفّفة، ففي الحكاية المنتشرة في أوساط (الأسطوات والتعلمجية) أن القرد يأتي كل صباح لعرين الأسد ويتصرف كما يروق له في مخصصات المليك المفدّى، ويفعل ما يحلو له غناءً ورقصا، بل ويتخذ من ملك الغابة هزءً أمام حرمه المصون حين يمد يديه عابثا بذقنه وذيله، وينصرف مسرورا الى شؤونه ريثما يعود، ولما فاض الكيل بالسيدة الأولى عاتبت الأسد على تقصيره في تأديب القرد والزامه حدوده، لم يرد عليها، فعنفته على صمته المخزي، وعاودت الكرة مرة فمرة، والأسد صامت لا يريم، وحين لاحظت سيماء الانكسار عليه أقسمت لتردن الصاع صاعين وأكثر، وجلست في انتظار القرد الذي لم يتأخر، فقد دأب على الحضور أنّى سئم، لاحظ القرد تميزها غيظا فهرب بجلده، فجدّت في طلبه، فانطلق بها الى حيث الماسورة في طرف الغابة، دخل من هنا فدخلت من ورائه، خرج من هناك ولم تخرج، ليأتيها من الخلف ويلهبها بالسياط، وحين عادت اللبوة بعد حين إلى العرين، منهكة القوى خائرة الجسد، لم يزد الأسد على السؤال (أذهب بك إلى الماسورة). من هنا جاء مصطلح (ماسورة) المتداول على نطاق واسع في الأوساط الشعبية، يستخدم للذين أخزاهم آخرون (أي دقوا فيهم مقلب لا فكاك منه)، كان يقال في البداية (وداك الماسورة) الى ان استقلت الماسورة لوحدها وقامت مقام المثل يضرب لكل معاملة غير متكافئة فيها نوع من الغش ودرجة من التدليس. والآن تتفجر مدينة الفاشر وتخرج اثقالها بفعل مواسير ذهب اليها البعض بظلفه، اذ خرج مواطنون متضررون من السوق المقام بحاضرة الولاية تحت سمع وبصر المسؤولين - بل وتحت رعايتهم كما ستؤكد بعض الروايات، خرجوا في مظاهرات يطالبون بأموالهم التي ابتلعها سوق المواسير. وأصل الحكاية كما يقول حسن فاروق أنه وقبل عام أو يزيد قليلا انطلقت تجارة تقوم على البيع الآجل، كأن تحضر بضاعة عينية وتأخذ عنها شيكا يتم بموجبه تأخير السداد الى أجل محدد - غالبا بين شهر الى أربعين يوما وتحصل في المقابل على فائدة تفوق السعر الحقيقي بنسبة تتراوح بين سبعين وثمانين في المائة. ويقال - والعهدة على الرواة - إن أكثر من عشرين ألفا من أهل الفاشر دخلوا في صفقات من هذا النوع ذهبت أموالهم ادراج الرياح. الا ان الأدهى هو تورط قيادات من المؤتمر الوطني في ادارة السوق وتكسبهم منه الى حد الثراء الفاحش، وترددت اسماء اثنين فازوا في الانتخابات ممثلين للحزب الحاكم بمقاعد المجلس التشريعي الولائي، هما آدم اسماعيل الفائز في دائرة الفاشرجنوب غرب وموسى صديق الفائز في دائرة الفاشرجنوب شرق، مما جعل مقولة (حاميها حراميها) تبدو منطبقة على السوق، وبان الأمر وكأن السلطات (فتحت كبري) لهؤلاء القادة ليعيثوا في السوق بتجارتهم المشبوهة، ففي استطلاعات صحافية اجرتها صحيفة الانتباهة قبل ان تستفحل الأمور وتصل الدرك الحالي، تحدث عدد من ممثلي الدوائر الحكومية وأعضاء بمجلس الولاية التشريعي ومعتمد الفاشر وأمانة الحكومة الولائية واكدوا ان لا ثغرة قانونية في هذا السوق بل طالبوا الحكومة الاتحادية بدعم هذا السوق للحفاظ على الامن والاستقرار، اذن السلطات تغض الطرف بل تفتح الطريق نحو (المواسير) وقادة الحزب الحاكم بالفاشر يديرون العمل ويجنون الأرباح ويدعمون الحزب. وبدأت (الكباري) بمنع الناس ان يطلقوا على السوق اسم (المواسير) وإنما أن يدعوه لأبيه ويقولوا (سوق الرحمة) وإلا سيجلد من يقول بغير ذلك، مما فهم منه انه يتم تحت رعاية أعلى سلطة، وعزز ذلك تبشير الوالي عثمان كبر المواطنين برد حقوقهم لان من أخذوا اموالهم أعضاء ملتزمون في المؤتمر الوطني، فوالي شمال دارفور غير المنتخب - وقتها - عثمان يوسف كبر التزم للمواطنين ابان حملته الانتخابية بإعادة ممتلكاتهم وقال في وعد أقبح من الذنب (الناس ديل أولادنا - يقصد التجار بالسوق - وهم من الأوفياء والمخلصين للمؤتمر الوطني وان شاء الله حقوقكم محفوظة وعلى مسؤوليتي بس انتو الشجرة محل ما تلاقوها اسقوها كويس) وسواء سقى المواطنون الشجرة أم تركوها تواجه مصيرها (وسط السموم وسط الرياح) فقد عادوا من الغنيمة بالمواسير مجتمعة. التقي محمد عثمان