«الديمقراطية يتنطع بها الكثيرون ويفتقدونها داخل مؤسساتهم ومكوناتهم ويطالبون بها الآخرين» كان هذا المدخل مفتاحاً لندوة «بناء السلام والدستور ونظام الإنتخابات» والتى نظمها المعهد الاقليمى لدراسات الجندر والتنوع والسلام وحقوق الانسان بجامعة الاحفاد للبنات بالتعاون مع مؤسسة «طيبة برس»، تناولت الندوة عدداً من المحاور المُتداخلة والمُكمِلة لبعضها البعض وكيفية بناء السلام فى مجتمع ديمقراطى يحترم الدستور الذى يحفظ حقوق الجميع ويراعى التنوع والتعدد بحيث يكون مصدر قوة لا إضعاف ونعمة لا نقمة. تحدث الخبير الإعلامى والباحث الأكاديمى فى دراسات السلام الدكتور الطيب حاج عطية فى سياحة تاريخية مستعرضا مفارقات فى ثقافة الديموقراطية بين الفكر والتطبيق والواقع والمأمول، وشدد حاج عطية على ان الديمقراطية الحقيقية لا تبدأ من الدستور والقانون وانما أساسها يبدأ بثقافة «من انا ومن هو الآخر» بمعنى تكامل الحقوق والواجبات بالإعتراف بوجود الآخر وقال «اذا انعدمت هذا الفكرة ستستمر الأوضاع فى البلاد الى ما لانهاية على شاكلة الصراع وتمنيات السلام» واوضح ان النخب السياسية لم تبذل اى مجهود فى نشر وتعزيز ثقافة الديموقراطية .وقال اذا لم تُنزل هذه المبادئ فى ضمير المجتمع فلن تكون هناك احزاب تؤمن بالديموقراطية نفسها داخل مؤسساتها، ولن نجد مركزاً يحترم الهامش وان تمت صياغة دستور وقوانين وأجرينا انتخابات فى ظل غياب هذه الثقافة فلن ننجح، وأشار حاج عطية الى انه لايمكن ان نتكلم عن الديمقراطية فى عدم وجود مناخ يؤسس لها، وتساءل كيف لحزب يطالب بديمقراطية لا توجد فى داخله، وكيف لرئيس حزب يجلس على قمة الحزب لأكثر من ثلاثين عاماً ويستغرب جلوس الرئيس على سدة الحكم لثلاث وعشرين عاماً. وفى فذلكة تاريخية اوضح حاج عطية ان الدستور الاول المؤقت لسنة (53) فى البلاد مأخوذ من التقاليد الليبرالية البريطانية وفى وقت لايوجد فيه دستور مكتوب فى المملكة المتحدة، وقال نحن اخذنا تجربة دستورية قانونية من تقاليد مبنية على السوابق القضائية فى بريطانيا التى تراكم عندها تراث قانونى ضخم جداً قائم على السوابق القضائية، الى ان إنتقلنا الى ثقافة قانونية أخرى مبنية على التشريع كما فى النظام الاوربى اى «كتابة القوانين» الا انه اشار الى المشكلة تأتى إستناداً على ان التشريع الذى يخرج من خلال سلسلة تبدأ بالآيديولوجية، وأضاف نحن اخذنا من الآيديولوجية الليبرالية واستلفنا من تقاليد ليبرالية دون ان نضع اعتبارات للواقع السودانى الذى لا علاقة له بالحياة فى بريطانيا واوربا خاصة وان منطلقات الناس فى السودان مبنية على أساس الولاءات المختلفة «الطائفية والقبلية»، ومن ثم انتهى بناء الأمر فى تجربة ديموقراطية أتت بأغلبية برلمانية من «الريفيين» بثقافتهم الريفية لإدارة دولة تريد ان تصبح دولة حديثة، وأوضح ان المعالجة وقتها كانت بإدخال دوائر الخريجين لخلق التوازن، وقال ان النقلة من آيديولوجيات لا صلة لها بواقعنا سببت النكسة الأولى فى عمر البلاد وكانت النتيجة بعد سنتين فقط انقلاباِ لتصحيح الأوضاع بالفهم العسكرى، الا انه لم يعالج ونظم الحكم بتعطيله لدستور (56) ولم يأتِ ببديل له، فى العام (64) تم إعداد دستور على ذات نهج (56) مع بعض الإضافات الطفيفية ولكن لم ينظر فيه لمشكلة السودان بحسابات ان (8%) فقط طبقة متعلمة، و(90%) وشدد الخبير ان الحل يكمن فى النظر الى الواقع الذى نعيشه بمستوياته الاقتصادية والتعليمية والتنوع والتعددية دستور يراعى هذه الإختلافات، وأشار الى ان الإختلاف يؤدى الى الخلاف والذى بدوره يؤدى الى نزاع الذى قال انه طبيعى فى الحياة الا ان المشكلة فى العنف، لافتاً الى ان جميع المشاكل تحل ب «التعاقدية» والقوانين والدستور «ابو القوانين» الا انه قال ان النزاع فى البلاد خرج من دائرة السلمية، ونوه الى ان المشكلة ليست فى الدستور فقط وانما فى ثقافة السلام نفسها، وتساءل حاج عطية «كيف نستقى دستور وقانون انتخابات يعالج هذه القضايا» بصوره علمية ورغبة صادقة فى مصلحة الوطن وقال «لكنا اذا عالجنا هذا الأشياء فى اطار حزبى فلن نزيد إلا من حجم الكارثة». من جانبه تحدث الخبير القانونى الأستاذ عمر شمينا عن مفهوم الديموقراطية بحسابات انها اصبحت من اولى المقومات المعززة للشرعية الدولية وأشار الى ان النظام الديموقراطى لابد ان يتمتع بمقومات عملية ومؤسسات ومنظومة كاملة لاتنفصل عن بعضها البعض، لتحقيق هذه القيم، واوضح شمينا ان تاريخ السودان الدستورى منذ العام (53) لم يتحدث عن الانتخابات الا فى اطار بسيط عن مؤهلات الناخب ومشاركته فى الانتخابات والدوائر الجغرافية والفوز بالأغلبية البسيطة، واوضح ان دستور (56) و (64) مضيا على ذات النهج إلا أن شمينا أشار الى أن أول مفارقة لهذا النهج وردت فى دستور (73) أو ما عرف «بدستور مايو» بالتمثيل بالمناطق الجغرافية وتحالف القوى، وأشار إلى أن دستور (84) عاد بخطوته إلى الخلف للدستور (64)، الى ان أتت إتفاقية السلام بتحديدها للمسائل بكل شجاعة وأكد شمينا ان مبادئ مشاكوس اقرت بقيام نظام ديموقراطى يقوم على التنوع والمساواة دون تمييز على أساس العرق واللون ويُحقق المساواة بين الرجال والنساء، يتوافق مع الشرعية الدولية والاعلان العالمى لحقوق الانسان، وقال ان اتفاقية السلام مضت على هذا الخط وواجهت قضية التعددية فى السودان، الا ان مشاكوس لم تضمن فى الدستور ولم تنعكس فى دستور 2005، وأضاف حتى الأن ما اثارته مشاكوس وقيام نظام ديموقراطى ياخذ التنوع والتعدد الاثنى والثقافى لم ينزل الى ارض الواقع ، ونحن الآن بصدد دستور نريده ان يضم هذه المبادئ، وعلى جميع اهل السودان يجلسوا ويتشاروا على الدستور والنظام الانتخابى الذى يحل مشكلة التنوع فى الوحدة وعلاقة الهامش فى المركز وصياغتها فى مبادئ تمثل قلب الدستور لا تغيير الا بالاغلبية. وفى مداخلة قصيرة تحدث السفير الدكتور حسن عابدين عن التدهور التاريخى بحسب وصفه لقضية الدستور وتساءل عن كيف ترجمة هذه الأفكار وتنزيلها كواقع معاش فى البلاد وقال كثر التنظير هذه الايام عن كتابة دستور جديد وقيام مؤتمر دستورى الا انه اشار الى ان القوى الحالية والصفوة السياسية على مر تاريخها لم تكن ناجحة فى إدارة شئون البلاد وانها ظلت تتحدث عن مشاكل السودان بنفس الوجوه ونفس الاشخاص دون تغيير.