إستعرضت في الحلقة السابقة أهمية مشاركة المواطنين في شئونهم المحلية لتحقيق غاية النهوض في المجتمعات وتنميتها على مختلف الأصعدة . وتناولت بعضاً من السلبيات التي أقعدت التجربة وعلى رأسها زيادة عدد المحليات وتضخم وتعدد الاجهزة الإدارية دون مسوغ أو ضرورة . ويظهر الأمر جلياً من خلال مراجعتنا للتقسيمات الإدارية الحالية بولايات دارفور الكبرى. فقد قاربت محليات شمال دارفور لوحدها عشرين محلية وحتى غرب دارفور تركتها وفي العام 1995م وكانت تتكون من ثلاث محافظات هي : الجنينة - زالنجي - وادي صالح .أما الآن فقد علمت أن محافظة وادي صالح (وهي وليدة قانون 1991م) قد تشظت هي الأخرى لعدد من المحليات اذكر منها : قارسيلا - دليج - مكجر- أم خير - أم دخن - أنجو كتي . وحتى ولاية الجزيرة والتي كانت في حدود السبع محليات نسمع هذه الأيام بمطالبات لإنشاء محليات جديدة . ولعلم القارئ الكريم فإن المحلية الواحدة تعني العديد من الوظائف الدستورية ( محافظ - مجلس تشريعي) زائداً أجهزة تنفيذية بدرجات اعلى مما يعني صرف اموال طائله كان اولى بها تقديم خدمات الصحة والتعليم والامن ... الخ وهي في الأصل لاتعدو أن تكون ترضيات جهوية أو قبلية أو حزبية في وظائف المعتمدين . والأدهى ان بعضاًً منهم ليست لهم دراية بأبجديات الإدارة وإزداد الأمر سوءاً بعد أيلولة السلطات التنفيذية والمالية الى ايديهم . ولوقت قريب كانت مجالس المحليات تعمل تحت قيادات محلية تطوعاً وكان إختيارهم يتم من الشخصيات ذات الأثر على المجتمع المحلي بعيداً عن الإغراء المادي والزخم الوظيفي . فقد عايشت رئيس المحلية الذي كان يدفع من حر ماله قيمة حملة النظافة ومنهم من كانوا يكتشفون عمال الخير ويدفعون بمساهماتهم للمجتمع . ويجدر بي هنا ان أذكر المرحوم علي سليمان شيخ الحارة ورئيس مجلس الموردة في سبعينيات القرن الماضي والذي قدم رجل البر والإحسان المرحوم عوض حسين الذي بنى مستشفى عوض حسين في العرضة والمرحوم عبدالمنعم مصطفى المحامي رئيس محلية ودنوباوي الذي كان يتبرع بمرتبه (من خلال رئاسته للجنة التشريع في المجلس الوطني ) شهرياً لصالح الخدمات المحلية ، والمرحوم الشفيع النور رئيس محلية المهدية الذي كان يحرر من ماله الخاص شيكاً شهرياً لصالح حملات النظافة . أما اليوم فقد صارت رئاسة المجلس وعضويته وظيفة بتبيعات مالية عالية وكذلك رؤساء اللجان . ذكرت في المقال السابق ضرورة إعادة النظر في عددية المحليات حسب الكثافة السكانية والتجانس السكاني والبيئي وأضيف : أ-. كفاية المقدرات المالية لتقديم الخدمات الضرورية من ( صحة - تعليم - طرق ... الخ) مع استثناء لبعض المناطق الحدودية والتي وإن قلت مواردها تحتم الضرورة الوجود الإداري فيها حفاظاً على حدود الوطن ، كما في منطقة امبرو بولاية شمال دارفور ومنطقة حلايب من شرق السودان ومنطقة ابيي بجنوب كردفان على سبيل المثال . ب-. سهولة الوصول لرئاسة تلك المحليات . لظروف وحاجة مواطني الريف لقضاء أكثر من غرض ، واضرب مثلا بمنطقة كوستي ، إذ أن إنشاء محلية في قلي أو أم هاني أو الراوات أو النعيم في اعتقادي الشخصي يعني مزيداً من المعاناة للمواطن اذ يحتاج لقضاء غرض معين لثلاثة أيام لأن زمن المواصلات يفرض وصوله اليوم الاول بعد نهاية الدوام ثم بعض قضاء غرضه (إن وجد المسئول) يتم بعد رجوع المواصلات الى المدينةكوستي مما يعني المبيت ليوم آخر علماً بأنه لاتوجد فنادق او استراحات مما يزيد من عناء المواطن وأهل المنطقة علماً بأن المواطن قد يخدم أكثر من غرض إذا كانت رئاسة المجلس في مدينة كوستي (محكمة - مستشفى - سوق ... الخ) . أشرت في الجزء الأول لضعف الموارد المتنازل عنها من قطعان وعوائد منزلية لصعوبة تحصيلها . وحتى الانسياب الذي كان يتم (ولو بدرجة نسبية) إلا أن هنالك محطات إنسداد بدءاً من صندوق دعم الولايات وحكومات الولايات لذلك لابد من ضمانات أكبر لتأكيد إنسياب التدفق المالي من الحكومة القومية حتى مستوى المحليات متمثلة في : * وضع السياسات والموجهات العامة لتخصيص الموارد . * مراقبة وتأكيد تحويل الاموال لمستويات الحكم المختلفة. * التأكيد على عدالة قسمة الموارد المالية والإستخدام المناسب لها. * ضرورة خلق آليات مماثلة لضمان عدالة القسمة للمستويات الادنى حتى مستوى الوحدات الإدارية محروسة بقوانين قاطعة وملزمة بنسب محددة . * ضبط الصرف وتجنب الرهق الموسمي لوحدات الحكم المحلي من خلال الاحتفالات - الزيارات - الانتخابات - الامن ) ولأدلل على ذلك فقد كنت مشاركاً في مؤتمر الولاه بإحدى ولايات السودان ، تم تجهيز قاعة المؤتمرات بمليارات الجنيهات (في التسعينيات من القرن الماضي) وتم تجهيز عربات (لاندكروزر) لوزراء الولاية بمليارات أخرى بالتأكيد المدخل يكون لتبييض وجه الولاية أمام القادمين من الولايات الاخرى ، إضافة للضيافة المبالغ فيها ، بينما أقرب المحليات لرئاسة الولاية لم يصرف العاملون فيها مرتباتهم لاكثر من أحد عشر شهراً متتابعه . علماً بأننا ننشد كفاءة الكوادر العاملة وفاعليتها ، فكيف يستقيم الظل والعود أعوج !! فإذا اردنا حكماً محلياً يقوم بالمهام المنوطة به فلابد من : * تساوي جاذبية العمل بين مستويات الحكم المختلفة من خلال وضع شروط خدمة أفضل . * التركيز على الأكثر كفاءه وتأهيل . * وضع شروط للترقي والتدريب بأسس عادلة . * التأكيد على ولاء الموظف للجهة التي يباشر بها عمله . * تجديد الخبرات وتبادلها داخلياً وخارجياً عبر البعثات الدراسية لنيل الدرجات العليا ، والاستفادة من الكورسات المؤهلة والورش والسمنارات ذات الصلة داخل القطر وخارجة . * خلق توازن وظيفي حقيقي عن طريق تنقلات للكوادر العاملة مستفيدين من التجارب السابقة . وقد كانت لنا تجربة في هذا المجال لمحلية كوستي حيث تمت التنقلات لكل العاملين داخل الهيئة - لأن بعض الموظفين ومن خلال طول مكثهم في موقع واحد واستناداً لنزعات قبلية وجهوية صاروا مراكز قوة خطيرة - عليه أرى ضرورة الانتباه لهذا الامر لأنهم سيكونون حجر عثرة امام أي تغيير مهما كانت وجهاته طالما أنه لايخدم مصالحهم الخاصة . وهنا لابد من التذكير بماورد من المعاني والأدبيات الثابتة في وثائق الاستراتيجية القومية الربع قرنية من خلال تربية تشمل الفرد والأسرة والمجتمع والامة وأن نلفهم بسياج أخلاقي منيع قوامه أن العمل عبادة لله عز شأنه . في الحلقة الثالثة سنتعرض للهياكل التنظيمية والوظيفية للمحليات وفق حجم ونوع الأنشطة على ضوء قدراتها وإختصاصاتها إضافة لنماذج من قوانين الحكم المحلي التي صدرت حتى آخر قانون إتحادي والقوانين الولائية . إضافة لمقترحات لقانون للإدارة الاهلية وتعيين الولاة لا إنتخابهم ودور الاجهزة الرقابية التشريعية . والله الموفق * خبير إداري متقاعد