عقد مجلس شورى حزب المؤتمر الوطني الحاكم مؤتمراً الجمعة الماضي،بعد تطورات مهمة في البلاد على الأصعدة كافة،وكان الرأي العام يرقب مواقف وقرارات تتصل بهموم الوطن والمواطن باعتبار أنه ثاني أكبر مؤسسة فى الحزب بعد المؤتمر العام، كما أن الحزب يتولى إدارة البلاد ويضطلع بمسؤولية تجعل الرجاء فيه عظيماً. توصيات مجلس الشورى التي جاءت بعد خطاب رئيس الحزب في جلسته الافتتاحية، ونقاش العضوية في جلسات مغلقة كان يؤمل أن تكون معبرة عن جماع الرأي في المجلس، وتشمل مجالات الحياة السياسية الاقتصادية والاجتماعية. من يطلع على التوصيات، لو لم يكن يعرف أنها صدرت عن مجلس شورى المؤتمر الوطني لوصل الى قناعة أنها من منظمة مجتمع مدني أو مدارسة وندوة عامة عقدتها أي مجموعة. بعض التوصيات لم تخرج عن الديباجات التي صارت محفوظة عن ظهر قلب لمدمني المؤتمرات وطابخيها،وأخرى مكرورة، وثالثة ظل يرددها الحزب منذ سنوات دون ان تجد حظها من الترجمة والتنفيذ العملي. ما يلفت الإنتباه التوصيات التي تحدث عن بذل المزيد من الجهود فى مكافحة الفساد والاسراف ، والمواصلة فى خفض الانفاق الحكومى باعادة هيكلة الدولة ، واعادة هيكلة القطاع الاقتصادى، وتشجيع الاعفاءات الضريبية لزيادة الاستثمار، والاهتمام بالخدمة المدنية واصلاحها ،واكمال سياسة التحرير الاقتصادى ،ومحاربة الفقر وتذليل معاش المواطن ، وتهيئة المناخ السياسي للانتخابات القادمة فى جو من الحريات. حسناً مجلس الشورى هو أحد أجهزة الحزب الحاكم المهمة،وكل قيادات الحزب بدءاً من رئيس الحزب وهو رأس الدولة،أعضاء في المجلس،والمنطق يقول إن التوصيات ستجد طريقها الى النفاذ بلا عراقيل،أو تباطؤ،ولكن الواقع لا يشي بذلك. منذ انفصال الجنوب تعهد قادة الحزب باعادة هيكلة الدولة وخفض الانفاق وشد الأحزمة على البطون،ومحاربة الفساد وتم تبني خطة ثلاثية لترجمة ذلك ،فما الذي جرى بعد أكثر من عام،الحال يغني عن السؤال..! محاربة الفساد تحتاج في المقام الأول إلى إرادة سياسية غير متوفرة،وتشريعات رادعة وأجهزة فاعلة أشك في وجودها،فوزارة العدل المعنية بهذا الأمر حالياً لا أعتقد أنها بوضعها وتركيبتها وتعقيداتها المعروفة لقادة الحكم مؤهلة لذلك،وأجهزة الرقابة إما غائبة أو مغيبة عن عمد. توزيع الثروة بعدالة يحتاج الى سياسات مصرفية فاعلة لكن السياسات السائدة تكرس المال في يد قلة محدودة في المجتمع تستطيع توفير الضمانات للمصارف بينما نحو 90 في المئة من المواطنين لا يستفيدون من التمويل المصرفي،وحتى ما وجه لهم من تمويل أصغر ومتناهي الصغر جابهته مشكلات لا حصر لها وباتت هذه الصيغ أقرب ما تكون للشعارات منها الى واقع يستفيد منه محدود الدخل والمنتج الحقيقي. خفض الانفاق والترشيد تم في نطاق محدود،وترهل الجهاز التنفيذي وأجهزة الولايات من حكومات ومجالس تشريعية ومحليات تبتلع غالبية الايرادات التي يذهب ما تبقى منها للخدمات التي تتقدم الى الخلف، والتنمية التي تواجه مصاعب لولا بضعة مشروعات تمول من القرض الصيني بجانب السدود. قضية بسط الحريات لا ينبغي أن ترهن بالانتخابات فهي من الأصول ،وقد كفلها الدستور ودغمستها القوانين وضيقتها الممارسة،فلو كانت الحكومة جادة في إدارة حوار مفتوح في طول البلاد وعرضها بشأن الدستور فلتتعامل معها بكثير جدية ولتتحمل تبعاتها ، فإذا غابت الحرية غاب الرأي الآخر، وغابت الرقابة العامة، وتفتحت دروب الفساد والإفساد. المدخل للعلاج الصحيح يبدأ بالتشخيص السليم،بلادنا أمام تحديات جسام تتطلب تضحيات ودفع استحقاقات من أجل اصلاحات جذرية ، فما عاد ينفع الترقيع والتسكين ب «البنادول».