تسير الرحلة في أمان يمتزج بالشوق، والطائرة التي يبدو أنها مستأجرة، أجمل ما فيها الخريطة التي تجعلك تتابع الرحلة، عبر عتامير وتيه وبحر ووهاد وجبال وصحارى، وأنت متربع على كرسي يشدك إليه حزام طالما التف حول الكثيرين، ترن في مسامعك كلمات صلاح أحمد إبراهيم للطير المهاجر: «وإن تعب منك جناح في السرعة زيد، في بلادنا ضل الدليب أريْح سكن». وتنداح الخواطر واحدة تلو الأخرى في رأسك المشغول، والطائرة «تنتكي» فوق سماء الخرطوم عموم، كما يصف شاعرنا الراحل سيد أحمد الحاردلو، وقبل الهبوط.. تتداعى مثل الأحلام الوردية صور البلد والناس، والطيبة والسماحة والحياة الفطرية التي لم تشوهها يد الحضارة، وتداعيات الأيام وقهر الزمن، بعد أن غيبها الركض في حياة الاغتراب بعيداً في تلافيف الذاكرة، وغطاها غبار الحياة هنا في مهجرك الطويل، وتتساءل والطائر الميمون يهبط في سلاسة من الفضاءات البعيدة، ومن سماء الأفلاك لثرى الأشواق.. ترى هل مازال الناس على ما كانوا عليه؟ أم أن أخبار الغلاء وظروف الحياة غيرت «النفوس الطيبة الما كانت شريرة» التي كم نشتاق إليها.. وهل سنستمتع بالجلسات والمسامرات البريئة في الليالي المقمرة المضيئة والوضيئة الضاحكة المستبشرة «كما كنا» وهل سيزدهر ويعمر مجلس الأنس الدافئ الوفي؟ أم أنه ما عاد ينعقد تحت وطأة الظروف، التي بعثرت الناس في كل وادٍ، وتأتينا أخبارها المرعبة والمثبطة للهمم الراغبة في العودة، والتي تردد «إمتى أرجع لأم در وأعودا أشوف نعيم دنيتي وسعودا؟!». وتهبط الطائرة بحفظ الله، وعندما ينفتح بابها، تهب عليك نسمات البلد و« هوا الشقيل» كما يقول أهلنا في الجزيرة، وأين منه هواء «الكونديشن» الهواء الصناعي، كالحليب الصناعي، والنكهة الصناعية، وكل ما حولك هناك في دار الاغتراب، وتقول: «ويحهم، أولئك المغتربون في بلاد تموت حيتانها من البرد كما يقول الطيب صالح رحمه الله»، فالاغتراب هنا أخف وطأة كما أرى من الاغتراب في تلك الديار التي فيها الفتى العربي غريب اليد واللسان، وقس على ذلك اختلاف العادات والدين والثقافة والحشمة ومكارم الأخلاق ونداوة الكرم العربي الأصيل. صالة المطار هادئة، ليس فيها ما تشربه أو تأكله تمنيت لو أن «كشك حيدر» الذي كان معلماً على شارع الظلط في «التكينة» في سبعينيات القرن الماضي موجوداً «هنا» حتى يروي غلة الصادي، وظمأ الأطفال، وعطش المسافرين. وتكمل إجراءاتك سريعاً وتدفع عفشك في لهفة، ثم تخرج من المطار لتواجه البلد، وتقضي إجازتك في بلد تسير الحياة فيها على إيقاع متميز يقول لك في تحدٍ: «يا هو ده السودان»!! وللحديث تفاصيل في الحلقة القادمة.