"من الجنسيتين البنجلاديشية والسودانية" .. القبض على (5) مقيمين في خميس مشيط لارتكابهم عمليات نصب واحتيال – صورة    دبابيس ودالشريف    التراخي والتماهي مع الخونة والعملاء شجّع عدداً منهم للعبور الآمن حتي عمق غرب ولاية كردفان وشاركوا في استباحة مدينة النهود    "نسبة التدمير والخراب 80%".. لجنة معاينة مباني وزارة الخارجية تكمل أعمالها وترفع تقريرها    وزير التربية ب(النيل الأبيض) يقدم التهنئة لأسرة مدرسة الجديدة بنات وإحراز الطالبة فاطمة نور الدائم 96% ضمن أوائل الشهادة السودانية    النهود…شنب نمر    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (ألف ليلة و....)    "المركز الثالث".. دي بروين ينجو بمانشستر سيتي من كمين وولفرهامبتون    منتخب الضعين شمال يودع بطولة الصداقة للمحليات    ندوة الشيوعي    الإعيسر: قادة المليشيا المتمردة ومنتسبوها والدول التي دعمتها سينالون أشد العقاب    الرئاسة السورية: القصف الإسرائيلي قرب القصر الرئاسي تصعيد خطير    د. عبد اللطيف البوني يكتب: لا هذا ولا ذاك    عثمان ميرغني يكتب: هل رئيس الوزراء "كوز"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء الشاشة نورهان نجيب تحتفل بزفافها على أنغام الفنان عثمان بشة وتدخل في وصلة رقص مؤثرة مع والدها    كم تبلغ ثروة لامين جمال؟    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    شاهد بالفيديو.. في مشهد نال إعجاب الجمهور والمتابعون.. شباب سعوديون يقفون لحظة رفع العلم السوداني بإحدى الفعاليات    شاهد بالصور والفيديو.. بوصلة رقص مثيرة.. الفنانة هدى عربي تشعل حفل غنائي بالدوحة    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    والد لامين يامال: لم تشاهدوا 10% من قدراته    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    ارتفاع التضخم في السودان    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تلاويح للبعيد : حسبهم الراكضون تكتفي بأشكالهم الدروب


تلويحة أولى:
بلادٌ كلما ابتسمت
سيظل شعبا السودان وجنوب السودان اللذان فرقت بينهما السياسات ينظران بحسرة وألم وغيظ إلى حكومتيهما ما لم تحدث الأخيرتان اختراقاً سريعاً يحدث تحولاً ايجابياً في المفاوضات بشأن الملفات العالقة، فكل يوم جديد يفتح جراحات جديدة في الحياة السودانية هنا وهناك بين شظف العيش، اثر التضخم الذي كاد يلتهم كل شيء وغياب أي بصيص أمل لضوء في آخر النفق، ومازالت الأخبار كل يوم تقول بفشل جديد في السياسة بين الدولتين ليستمر التصعيد في الأزمة بين الجارتين الجديدتين، ليدفع المواطن البسيط هنا وهناك ثمن السياسات المتعنتة من قادة الدولتين.
وعاجلاً أم آجلاً سيتفق الطرفان الشمالي والجنوبي على كل القضايا العالقة برضائهما أم بضغوط من المجتمع الدولي، فلماذا لا يكون هذا الاتفاق عاجلاً لتجنيب الناس هذه المحرقة الاقتصادية التي أدخلوا فيها من غير ذنب، وخنقت كل احتمالات الحياة، وأضحت مصائر الملايين في كف عفريت لا يرحم اسمه السوق الذي أضحى ساحة خضراء للمضاربين بالعملة وحياة الناس، أليس هناك حكماء يجنبون السودان الكبير هذه الحقبة المظلمة التي لا ندري ماذا تكون نهايتها؟
وظن الكثيرون أن وثيقة السلام التي أبرمت بين النظام الحاكم في الخرطوم أو المؤتمر الوطني والحركة الشعبية وأنهت أطول حرب في إفريقيا وربما في العالم واستدامت لأكثر من نصف قرن، قد جلبت أخيراً السلام لهذا الشعب الطيب الموبوء بقياداته السياسية مثلما هو موبوء بموارده الطبيعية التي لم توظف التوظيف السليم أبداً.
ولكن ذهبت كل هذه الأحلام أدراج الرياح، فالاتفاقية عصفت بوحدة السودان أولاً، ومن ثم جلبت كثيراً من التعقيدات والأزمات التي مازالت تراوح مكانها.
وكما يقول الشاعر الجميل عاطف خيري متعه الله بالصحة والنبوغ:
بلادٌ كلما ابتسمت حطَّ على شفتيها الذباب.
تلويحة ثانية:
هاوسٌ.. عبقرية السفالة والحزن
حظيت في الشهرين الفائتين باجازة طويلة فلنقل انها قسرية بعد سنوات طويلة من العمل اليومي المستمر بلا هوادة، وأقول حظيت لأنني استمتعت بأشياء كثيرة لم يكن الوقت يسعفني للحصول عليها، أهمها طبعاً البقاء في المنزل طوال اليوم ومشاهدة الأفلام والتنقل بين آلاف القنوات التلفزيونية أو المئات إذا شئنا الدقة، ورغم أنني لا أحب مشاهدة المسلسلات ربما لأنها تجبرك على التوفر كل يوم في ساعة محددة أمام التلفاز، وهذا ترف لا أحظى به في حياتي، ولكن خطف مسلسل »هاوس« انتباهي منذ أول حلقة شاهدتها عرضاً في المنزل، لأن الريموت كان في يد زوجتي الطبيبة التي لها اهتمام بالبرامج الطبية والمسلسلات عموماً.
»هاوس« مسلسل أمريكي بدأ عام 2004م وانتهى بالموسم الثامن 2012م، والشخصية الرئيسة فيه هي دكتور غريفوري هاوس الطبيب العبقري غريب الأطوار، وقد قام بتأدية الدور الممثل هيو لوري الذي نجح نجاحاً باهراً في تقمص الشخصية وهو الذي لم يعرف في عمل غير هذا المسلسل.
و»هاوس« عبقري موهوب، لا يؤمن بما يؤمن به عامة البشر من مشاعر وعلاقات انسانية وأديان، ويترأس فريقاً من الأطباء التشخيصيين بمستشفى برينتسون بولاية نيوجيرسي، ويلاحظ أنه تم استيحاء بعض صفات شخصية هاوس من المحقق الشهير شيرلوك هولمز، أما شخصية صديقه ويلسون فتم استيحاؤها من واطسون، ففي كل حلقة يتم حل لغز معين يقوم هاوس باكتشافه بشكل عبقري لينقذ حياة المريض.
ويلاحظ المشاهد أن شخصية »هاوس« تم تصميمها بشكل غريب يخالف نمط شخصية البطل الأمريكي في أفلام هوليوود، حيث يستطيع البطل فعل كل شيء ليقترب من صفة الكمال، فهاوس على النقيض فهو أولاً لا يتمتع بوسامة البطل السينمائي الكلاسيكية، وثانياً في شخصيته الكثير من النقائص حسب المعايير السائدة، فهو مدمن على الفيكودين وعدواني وفظ، يتعامل بعدائية مع الجميع ابتداءً من الطاقم الذي يقوده، فهو يسخر من كل شخص وكل شيء، تسنده في ذلك عبقريته الفذة في التشخيص حتى أصبحت الحالات المرضية العادية لا تثير انتباهه، ويتولى الحالات المعقدة التي يعجز كثيرون عن تشخيصها وعلاجها، وهذا الأمر يجعل المستشفى بحاجة دائمة له، ويتغاضى له عن كثير من الخروقات التي يرتكبها، ويجعل طاقم الأطباء يحتملونه ليتعلموا أكثر بين يديه.
ومن مقولاته الشهيرة عندما يحتج مريض على معاملته الفظة من قبل هاوس »ماذا تفضِّل؟ الطبيب الذي يمسك بيدك وأنت تموت؟ أم الطبيب الذي يتجاهلك وأنت تتحسن؟!
وشعار هاوس »الكل يكذب«، ويردد عبارة لقد أصبحت طبيباً لأعالج المرض لا المريض.
الغريب أن شخصية هاوس جاذبة جداً بعبقريته، ومحاولاته الدائمة للسخرية من مبررات الآخرين واحالتها للأسباب الحقيقية برغم فظاظة الأمر تمنح المشاهد شعوراً سرياً بالتواطؤ مع ما يفعل.
ومسلسل »هاوس« يقودك إلى دهاليز النفس البشرية السادرة في تعقيداتها المهولة وحيرتها اللامتناهية، الوحدة ووحشة الحياة، قلق البشريِّ إزاء طلسم وجوده الملتبس، نزقه، توقه وأحلامه المستحيلة بالكمالات والكشوفات، وأيضاً الأثر والتأريخ والشكوى من الخلود والتنفس والطعام والعادات، وأثر اليومي على الروح وهوية الإنسان وجدوى نزوعاته الغامضة والواضحة.
»هاوس« سفالة العبقرية وعبقرية الوحدة والحزن.
تلويحة ثالثة:
الاستغلال السياسي
سأل طفل في التاسعة من عمره والده قائلاً: ما هو »الاستغلال السياسي« يا أبي؟ احتار الأب في كيفية الشرح واختيار المفردات للصغير لتلائم سنه ودرجة استيعابه، وأخيراً قال له: انظر يا ابني إلى عائلتنا.. أنا أجلب المال لذا يمكن وصفي بالرأسمالية ووالدتك هي التي تعتني بكم وتدير شؤونكم لذا يمكن أن نطلق عليها الحكومة، وسأطلق عليك أنت الشعب وأخيك الصغير سنسميه المستقبل، وسنطلق على »الشغالة« القوى العاملة، فتأمل يا ابني في العلاقات التي تنشأ في بيتنا، وسمَّ لي الاستغلال السياسي حسب ما ستراه لاحقاً، وأكد الطفل بحماس على انه سيصل إلى هذا المفهوم عن طريق ملاحظته للعلاقات التي تنشأ داخل المنزل، وفي اليوم الثاني وعند عودته من المدرسة وجد شقيقه الصغير متسخاً، فذهب إلى والدته لينبهها إلى ذلك فوجدها نائمة، حينها ذهب إلى الصالون ليستدعي والده فوجده في وضع حميم مع الشغالة، وفي المساء عندما التأم شمل الأسرة على المائدة قال لوالده لقد فهمت الاستغلال السياسي جيداً الآن، فقال له والده.. وما هو يا بني؟! فقال الطفل: »عندما يكون الشعب غائباً وتكون الحكومة نائمة تستغل الرأسمالية القوى العاملة فيضحى المستقبل غارقاً في قذارته«.
تلويحة رابعة:
دولوز وبروست داخل الزمن المستعاد
»إذا كانت للزمن أهمية كبيرة في البحث، فذلك لأن كل الحقائق زمنية، بيد أن البحث عن الزمن الضائع هو قبل كل شيء بحث عن الحقيقة«.
بهذه العبارة يختم الفيلسوف جيل دولوز سفره الجميل »بروست والإشارات« وهو قراءة ممعنة في التدبر والالتقاط والتقصي في حال اشارات الروائي مارسيل بروست الذي شكل علامة فارقة في التاريخ الإنساني بعمله الروائي العميق »البحث عن الزمن المفقود«.
وقيمة الزمن المستعاد الرئيسة هي: البحث عن الحقيقة هو الرحلة الخطرة أو المغامرة المتعلقة بما هو لا ارادي، فالفكر لا شيء إن لم يكن هناك ما يرغم على التفكير ويمثل عنفاً على الفكر ذاته، وما هو أكثر أهمية من الفيلسوف حسب دولوز هو الشاعر، ففيكتور هيغو مارس الفلسفة في أشعاره الأولى لأنه كان مازال يفكر كالطبيعة بدلاً من أن يعطي ما يدفع على التفكير، فالشاعر يتعلم ويعرف ويفهم أن ما هو جوهري قائم خارج نطاق الفكر في تلك المساحة الشاغرة هناك.
ويتضمن كل فيلسوف على صديق، لهذا كان من المهم أن يوجه بروست في آنٍ معاً ذات النقد للفلسفة وللصداقة، فالأصدقاء هم الواحد حيال الآخر كالعقول ذات الإرادة الطيبة المتوافقة على نفس دلائل الأشياء والكلمات، ويتواصلون تحت تأثير إرادة طيبة مشتركة، فالفلسفة بمثابة التعبير عن العقل العام المتطابق مع ذاته لتحديد الدلالات البينة والقابلة للتوصيل.
يقول دولوز إن نقد بروست يمس ما هو جوهري، حيث تظل الحقائق اعتباطية ومجردة إذا اعتمدت الإرادة الطيبة في التفكير، فالتقليدي لوحده هو الواقع، وبروست أفلاطوني لكن ليس بطريقة عشوائية، لأنه يذكر الجواهر والأفكار المتعلقة بالجملة الموسيقية ل»فنتاي«، ويقدم لنا افلاطون صورة عن الفكر تحت اشارة اللقاءات والحالات العنيفة، ففي احد نصوص محاورته الجمهورية يميز افلاطون بين شيئين في العالم، تلك التي تترك الفكر بلا فاعلية، وتلك التي تقدم لنا ما هو جدير بالتفكير وترغمنا على التفكير به، والأشياء الأولى هي أشياء التعرف، فجميع الملكات تمارس فاعليتها على تلك المواد ضمن تمرين عابر، وعلى العكس من ذلك هناك أشياء ترغمنا على التفكير، ليس تلك الأشياء التي يمكن التعرف عليها بل التي تمارس علينا عنفاً، الإشارات التي تصادفنا.
ولا يتوجه عمل بروست نحو كشوفات الذاكرة والماضي، بل إلى المستقبل وتقدم عملية التعلُّم، المهم أن البطل لم يكن يعرف أشياء بعينها في البداية لكنه سيتعلمها تدريجياً، وفي الأخير سنحصل على كشف نهائي لها، وكل خط من خطوط التعلُّم يمر عبر الخيبة الناتجة عن محاولة التأويل الموضوعاني، ومن ثم محاولة معالجتها بتأويل ذاتي، حيث نقوم ببناء مجموعات ترابطية.
تلويحة خامسة:
ليس إثماً أن تكون... طارق الطيب
ليس إثماً أن أكون صقراً أسود
في مزرعة الفلامنجو
أن أجيد السباحة كدلفين وأعبر النهر
حتى يظهر أصل لوني الأسود
فأخرج خفيفاً منتشياً
وليس إثماً أن أنادي صديقي القديم ليعوم
ليقترب من تاريخ الألوان
وليس إثماً أن أسخر من بياض العقول
الإثم أن أصدق مزاحهم الممسوس
وترجماتهم الغبية
وأن أقرأها على أنها الأصل
فأفقد أرهف حواسي.
سيكون جدل الهوية والانتماء محتدماً دائماً في هذا الكوكب المفخخ بالايديولوجيات واللغات والألوان، وسيكون على الفنان والمبدع والمثقف محاولة فك طلاسم المسألة واقتراح دروب للنجاة، لذلك كان الشاعر والقاص طارق الطيب السوداني الأصل/ المصري المولد والنشأة يحاول أن يمسك بخيوط السؤال العميق، وأن ينحت درباً يخص ذاته الموزعة بين الهويات المختلفة، فهو سوداني الجنسية مصري المولد، يقيم ويعمل في النمسا محاضراً في احدى جامعاتها.
وفي النص الشعري أعلاه الذي يحمل ذات اسم المجموعة الشعرية »ليس إثماً« الذي صدر عن دار آفاق المصرية في القاهرة بمعية مجموعة أخرى تحمل عنوان »بعض الظن«، يعلو صوت طارق الطيب بحثاً عن هويته، مقترحاً صوراً ورؤى ومشاهد لما يجب أن يكون عليه الأمر، معمِّقاً السؤال برغم اللغة المباشرة التي كتبت بها المجموعة للدرجة التي يقارب فيها الصوت بياناً سياسياً شعرياً حين يقول:
ليس إثماً أن أسأل المدعي العام أسئلةً تبدأ بلماذا
لماذا يرغب في تنازلي عن تاريخ نخلتي
لماذا يرغب في عبوسي ليؤكد شري وإرهابي
لماذا يرغب في ابتسامتي ليثبت رضا العبد في سحنتي
الإثم أن أدعهم يتصرفون كعلماء نفس مبتدئين
يفسِّرون حركة الأجسام وفق حركة جيرانهم
والفئران
سيكون على الشعراء والفنانين الذين يجابهون أقداراً صعبة ومصائر تتحطم تحت صيغة رفض يرونه في أوطانهم ويتذوقونه ويواجهونه في منافيهم ومهاجرهم، سيكون عليهم مضغ حنظل الهوية كثيراً ومحاولة التقاط المعنى المُر، وجوهر المسألة تحت رماد السياقات والصياغات المضطربة في جدل الهويات القاتلة، وستكون الذات المثقلة بأسئلة الأنا والآخر في خط المواجهة المشتعل أبداً، وطارق الطيب لم يكن بمنأى عن هذا الألم، لذا جاءت صرخته بهذا الوضوح وهذه المباشرة الوحشية.
»ليس إثماً« مجموعة شعرية تمثل طريقة جديدة في مشروع طارق الطيب، ولعلها تلخص هواجس الذات في مناخات الآخر الباردة، وقد كتبت قصائد المجموعة خلال العقد الأخير من السنوات، وهي مرحلة مهمة في تجربة طارق الطيب الكتابية يلاحظ فيها المتلقي أسئلة طارق الطيب الوجودية المرتبطة بشروط إقامته داخل أنساق زمانية ومكانية محكومة بصيرورة تنتج داخل عقل العالم الجمعي.
»ليس إثماً« و»بعض الظن« مجموعتان مهمتان في إنتاج طارق الطيب ومشروعه الكتابي، وهو كاتب مثابر ومجتهد ومهموم بمشروعه الأدبي.
من أجود مجموعة »بعض الظن« نقرأ:
حين تسير في غابة
تنتبه لجمال السوسن والطير
لكنك في المدينة لا تعير الشجرة انتباهك
تزعجك أوراقها المنثورة في لامبالاة
تعبر كل وردة في الطريق
الإشارة الحمراء توقفك
عينك لا تنزل عنها حتى تخضَّر
خضرة الإشارة لدى البعض أحب من رؤية أي غابة
إنها طبيعة المدن
وطبيعة اللهاث
قصيدة سوسن ديوان »بعض الظن«
تلويحة سادسة:
شيطنات الطفلة الخبيثة كتابة في مديح الحياة والشغف
لم يهدأ البيروفي ماريو فارغاس يوسا أبداً حتى عثر على طريق نوبل أخيراً 2010م، ويوسا الذي ترشح لرئاسة البيرو عام 1990م هو ذاته يوسا الذي وجَّه لكمة لصديقه حينذاك الروائي الحائز على نوبل أيضاً غابريل غارسيا ماركيز في دار سينما بمكسيكو سيتي، ويومها لم يكف الجميع عن التكهنات بسبب المشاجرة الأدبية الأشهر، خاصة أن البعض روى أن يوسا قال جملة »هذه من أجل باتريشيا«، وباتريشيا هي زوجة يوسا. ويضيف آخرون أن ماركيز حاول اغواءها، ولم يلتقِ النوبليان منذها حتى لحظة فوز يوسا، وقد رفض الأول التعليق على فوز الثاني بنوبل حتى الآن، مما يشي بالخواتيم التي ذهبت إليها علاقتهما القديمة.
ويوسا المهووس بتتبع الإنسان عبر هاجسه الجنسي والايروتبكي ونزوعاته الغامضة والغريبة والشيطانية، يقول في كتابه عن هنري ميللر بعد قراءته لمدار السرطان »وظيفة الأدب تذكير البشر بأنه مهما بدت لهم الأرض التي يعيشون عليها صلبة، ومهما بدت لهم المدينة التي يعيشون عليها عامرة، فإن هناك شياطين مختبئة في كل مكان يمكنها أن تتسبب في طوفان في أية لحظة«.
وفي »شيطنات الطفلة الخبيثة« الكتاب المكرَّس للحب والحب العنيف الصامد الذي لا تزحزحه خيانة ولا تضعضعه أكاذيب، يدخلنا الكاتب في متاهة الحكاية الشيِّقة لامرأة عابثة لعوب تتسلى بالحياة نفسها وتهوى الأخطار والمغامرات، ولوعة العاشق الذي ينتظرها منذ الطفولة الأولى أو منذ أكذوبتها الأولى عليه، وقصتها الملفقة التي تقول بأنها تنحدر من أسرة ارستقراطية مهاجرة، وهي الطفلة الفقيرة المعدمة التي لم تصرِّح لهذا العاشق العدمي البائس بالحب أبداً، والذي كانت أقداره الغريبة تربطه بهذه الصبية كل مرة وتدفعها في طريقه حتى أصبح أسيراً لها، »شيطنات الطفلة الخبيثة« كتاب في مديح الحرية والعبث، كتاب سيقول لك ليس بوسعك تقييد الآخر إلى معصمك بوثاق ما لأنك ستفقده طالما حاولت فعل ذلك، سيقول لك عن شقاء البشري إزاء رغباته الغريبة والغامضة، وشقاء الآخر في حقلك الشخصي، وهو مسيَّج بالانتظار والشغف، وسيهمس في أذنك أن ليس هناك صيغ جاهزة للحياة، فقط احتمالات هوائية متعددة ودائمة، وأن المدن دائماً ستختلف حول الشخص ذاته ألف مرة، وأن الشخص سيختلف ألف مرة دائماً في اللحظة الساهمة عن روح الخيانة والتجربة والوثاق إلى أية قيمة أو آخر أو نزوع، »شيطنات الطفلة الخبيثة« حكاية الإنسان نفسه داخل قوقعة الوجود وكتاب حيرته الأزلية إزاء الحب والرغبة والجنس والشغف والحرية والألم والموت إلى آخر متعدد وواحد غامض، سيقول لك ماريو فارغاس يوسا هذا هو الإنسان لا أحاول تذويقه ولا تجميله ولا النيل منه، أحاول الاقتراب من أمزجته وروحه، فقط ساعدني بالتعرف عليك.
ليلى أو أورليت أو أوتيلا هي البنت البيروفية التي هربت من جحيم بلادها بفقرها ومحدودية فرصها، فعاشت شخوصاً كثيرة وانتحلت حيوات أكثر، لتعثر على ضالتها المال والحرية فمرة هي الثورية التي ستتدرب في كوبا، وأخرى زوجة الدبلوماسي الفرنسي وهكذا، وكل مرة تقذفها المصادفة الوجودية القاسية أمام الراوي أو ريكاردو سومو أو الطفل الطيب كما ستناديه دائماً، وهي المتمنعة والمتواطئة مع شغفه الذي لا ينتهي إلى الأبد بها، »شيطنات الطفلة الخبيثة« كتابة ضد الملل وسأم العادة والتكرار.. كتابة في مديح الحياة والشغف والرغبة، كتابة عن الكتابة داخل أنساق تواترها من تيه إلى تيه، ومن شبهة إلى مجانية.
»شيطنات الطفلة الخبيثة« كتاب يستحق هدر الوقت من أجل الحصول على متعة القراءة التي لا تنتهي أبداً.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.