٭ بينما كان الصديق عبد المنعم أبو إدريس، مراسل وكالة الأنباء الفرنسية بالخرطوم، جلوساً بيننا في صالة التحرير، رنَّ هاتفه الجوال.. (أبو إدريس) بدا منزعجاً، وظل يردد بصوت عالٍ: (لا.. أنا بخير أنا بخير.. أنا بخير)، الأمر الذي أدى إلى انزعاجنا لانزعاجه. ٭ وأصل الحكاية، أن واحداً من أهل (البورداب)، ومن خلال المواقع الإسفيرية، بثَّ خبراً مفاده، أن الزميل عبد المنعم أبو إدريس قد تعرض لحادث، ونقل على إثره إلى مستشفى الفيصل. ٭ قلت لأبو إدريس: الحمد لله برضو جات خفيفة، وما قالوا مات.. ٭ وطاف بذهني، خبر الزميلة سعاد عبد الله، في صحيفة (الإنقاذ)، في أوائل التسعينيات، عن وفاة الشاعر الكبير أبو آمنة حامد، وقتها كان أبو آمنة على قيد الحياة. وكتب أستاذنا الجليل موسى يعقوب رئيس تحرير (الإنقاذ) آنذاك تعقيباً على ما نشرته صحيفته، مقاله الشهير (آفة الأخبار رواتها).. ٭ في عام 6691م، غرقت مركب في قريتنا (مقاشي)، كانت تحمل معزين إلى (القرير) في الضفة الغربية، وتوفي في الحادث العشرات من النساء والرجال، ولأن الحادث كان عظيماً، تواترت أنباء عن وفاة بعضهم، وهم كانوا من الأحياء. ٭ ومازلت أذكر، وكنا في أتبرا، عند وقوع الحادث، أن حبوبتي عشماني رحمها الله قد فرشت لأختها (الحرم) باعتبار أنها من المتوفيات (الحرم حيَّة ترزق أمد الله في أيامها وبارك). ٭ كما أذكر أن الخالة زينب خالد، قد أقامت مأتماً، و(منَّحت) لشقيقها علي. (توفي علي خالد لاحقاً عليه رحمة الله).. وهكذا. ٭ ولأن الشيء بالشيء يُذكر.. لعل أشهر خبر وفاة لحي يرزق، في الصحافة العربية، كان خبر وفاة صاحب (الرسالة) أحمد حسن الزيّات. ٭ كتب الزيّات (في عام 1691م) افتتاحية لمجلة الأزهر، التي كان يرأس تحريرها، وحملت الافتتاحية نقداً لجوانب من الحياة الاجتماعية في مصر آنذاك. ٭ لم ترق الافتتاحية لصحافي من الذين تربطهم علاقة بنظام عبد الناصر، فكتب راداً على الافتتاحية، مقالاً في الصحافة.. المصرية، جاء فيه (إن حياة الزيّات قد انتهت) يقصد أنها انتهت أدبياً أو سياسياً أو خلافه. ٭ ففهم صحافي سعودي من الصياغة، أن الزيّات قد مات بالفعل، وصنع منها خبراً، سرعان ما تناقلته الصحف السعودية. ٭ فكتب رئيس تحرير (الجزيرة) عبد الله بن خميس، مقالة بعنوان (مات الزيّات)، نعى فيه صاحب الرسالة، سائلاً الله أن يتغمده برحمته، ويفيض على قبره سحائب الرضوان. ٭ وكتب عبد الرحمن فيصل بن معمر، مقالاً آخر بعنوان (عاش صاحب الرسالة)، عاتب فيه الصحافة العربية على تقاعسها، وعدم وفائها لرمز من الرموز الصحافة العربية. ٭ ثم انهمرت مقالات، كلها رثاء حزين، كتبت بحبر أسود وريشة باكية. ٭ ومن عجيب الأمور، أن الزيّات الذي كان حيَّاً (توفي الزيّات عام 8691م)، قرأ هذه المراثي الحزينة، وسُرَّ بها سروراً عظيماً. ٭ قال الزيّات في خطاب إلى صديق، يطمئنه أنه مازال حياً: كنت أتمنى أن أعرف، ما سيقوله الناس عني بعد موتي، وتلك أمنية لا تتيسر، لأن المرء بعد موته، تنقطع صلته بالحياة، فلا يسمع ولا يرى ولا يتكلم، ولكن ما قولك في أن الله حقق لي هذه الأمنية وأنا حي؟ لقد سرني أن يقول الناس عني كلمة كلها صدق وإخلاص، ولقد أرسلت خطاباً لطيفاً للصحف والمجلات التي نشرت خبر وفاتي، أشكرهم فيه. ٭ رحم الله الزيّات.. وبارك في أيام الحرم بت طه.. وأسبغ على أبو إدريس ثوب الصحة والعافية.