يجدر بي في البدء أن أعبر عن أجزل الشكر-لمستحق الشكر- جريدة (الصحافة) الغراء لنشرها البحث القيم الذي قدمه الدكتور منصور خالد في الندوة التي دعي لها من قبل (جامعة الأمير نايف للدراسات الأمنية) بالمملكة العربية السعودية والتي كان موضوعها (الإرهاب وأثره على التنمية الإجتماعية في الوطن العربي)... نشر البحث تباعا خلال الأيام 8 و 9 و10 من الشهر المنصرم. لا أنوي تقديم ملخص كامل لهذا البحث خشية أن يذهب ذلك بجمال اللغة التي أعد بها، وعودنا عليها صاحب البحث، أو بترتيب الافكار الواردة فيه، كما أنني خشيت أن ينجم عن ذلك ابتسار معان وفقرات مهمة قصد أن يأتي بها في تسلسل بديع ومنطقي على النحو الذي تعد به البحوث، ما يمكن القارئ من المتابعة، دون قفزات تتركه في حالة من (التوهان) وتبعث على الملل، كما هو الحال في بعض ما نطلع عليه من نتاج آخرين. سأقتصر على الإشارة إلى أهم المسائل التي تعرض إليها ، آملا أن يكون في ذلك ما يحفز على الإطلاع على البحث دون استلاب مني لقارئه من متعة الإطلاع على النص الكامل للبحث...سأكتفي بإشارات مقتضبة لا تخل بالمعاني المقصودة وبالصورة التي أرادها الدكتور منصور. ابتدر الدكتور منصور الموضوع مبينا أن (ظاهرة الإرهاب) ليست حديثة عهد، بل ضاربة في القدم، مستعرضا أشكالها المتنوعة في عدة مناطق من عالمنا، كما تطرق إلى المبررات التي تسوقها الجماعات والأفراد عند ممارسة الإرهاب كآلية تفضي إلى تحقيق أغراضهم، مشيرا في الوقت نفسه إلى ضرورة عدم الخلط بين ما يقوم به ارهابيون تبنوا أفكارا مشوشة وخاطئة من أجل تحقيق أهداف تجافي النبل في المقصد، وبين ما يقوم به اخرون ينشدون الإنعتاق من سلطة دخيلة مغتصبة لأراضيهم ومكبلة لحرياتهم الطبيعية، رغم أن الفئة الأخيرة تجنح أحيانا إلى انتهاج أنماط من العنف لا تجد مبررين ومناصرين لها ، ويمكن ان تصنف عملا إرهابيا. بيّن في مقدمة البحث ما تواطأ عليه المجتمع الدولي ، ممثلا في الجمعية العامة للأممم المتحدة من تعريف للظاهرة مقترحة معالجة أسبابها ودرء آثارها ، وهو أمر عبرت عنه مجموعات الدول في ابرام اتفاقيات في ما بينها لمواجهة الظاهرة ورأب ما تحدثه من أضرار سياسية واقتصادية. تطرق البحث بإستفاضة للدور المناط به كل من الدولة والمجتمع المدني، وكيفية التعاون بين الطائفتين في سبر غور ظاهرة الإرهاب، والسبل الكفيلة لمواجهتها ومعالجتها. وقدم الدكتور منصور خالد تعريفا ونهجا واضحا للإستراتيجية الأمنية الفاعلة...وأقتبس مما جاء في البحث (أن الاستراتيجية الأمنية الفعالة هي تلك التي لا تفصل بين أمن السلطان وأمن المواطن، أو بين الأجهزة الأمنية المؤسسية وبين التنظيمات الشعبية التي تعمق من ادراك المواطن للأمن. فالأمن في الأصل حقوق وواجبات، إذا لم يرعاها أي من الطرفين اختلت موازين العدالة) ونوه البحث إلى أن هذه المفاهيم والأهداف هي التي أعلت دور منظمات المجتمع المدني في التصدي للإرهاب، مما دعا الأممالمتحدة للإهتمام بها حيث أصدرت الجمعية العامة قرارها الخاص في هذا الصدد، واستشعرت الدول أهميته، واتخاذه سبيلا يؤطر جهودها في تعاون فاعل مع منظمات المجتمع المدني. ولقد ركز البحث على دور المجتمع المدني في تناسق مع دور الدولة في مجابهة الظاهرة، وقدم (تعريفا) محددا لها، وما نعنيه بالمجتمع المدني وتنظيماته، وما ينبغي أن يكون لها من (استقلالية) وفرتها طبيعتها بارتباطاتها بفئات المجتمع، وواقعها الذي كفل لها الارتباط الفعلي والوثيق باهتمام المجتمع وترقيته...وهي تتنوع في أنشطة ذات صلة مباشرة وعميقة بمكونات المجتمع وفي مجالات متعددة، ولها اهتمامات ذات طابع نوعي كجماعات الفن..والرياضة..والأدب والتراث. اضافة إلى اهتمام جماعات بأمور من منظور ديني، والعاملون في تلك المنظمات متطوعون، ولا يتلقون مقابلا لجهودهم، ويسعون إلى تطوير المجتمع، واتاحة الفرص للتقدم وجدانيا وعمليا..ونبه الدكتور منصور خالد إلى سعي بعض التجمعات الأيديولوجية والأحزاب السياسية، إلى جذب هذه المنظمات إلى حظيرتها، وبين خطورة مسلك كهذا يشكل عقبة وتعويقا للأنشطة التي تقوم بها تلك المنظمات في سعيها لتحقيق النفع العام للمجتمع. وأثار الدكتور منصور أمرا مهما، وهو ما تشهده مكافحة الإرهاب من خروقات، أبرزها ما تقوم به بعض السلطات الأمنية التي تلجأ إلى (تعذيب) المشتبه فيهم أو المتهمين مستخدمة السلطات القانونية الممنوحة لها، كما تحرمهم من حق الدفاع عن أنفسهم وأحيانا تضعهم في (سجون خاصة) حيث يمارس ضدهم كل ما ينافي الحق القانوني الطبيعي للإنسان..كل ذلك يفاقم المشكلة، ويجعلها تتواتر من حين لآخر ردا على ظلم لحق بهم سواء كان ذلك من جانبهم أو من قبل الجماعات التي ينتمون إليها...ويقرر البحث أن تلك الخروقات تنتظم الدول كبيرها وصغيرها، على نحو تناولته وسائل الإعلام، و مراكز البحوث..ويشير البحث أيضا إلى أن تفادي الخروقات، ومنعها أو تحجيمها لا بد أن يتم وفق القواعد الدستورية التي تتضمنها دساتير تلك الدول..كل تلك المسائل نالت حظها في المؤتمرات الدولية التي عقدت حيث نوقشت مختلف أركان موضوع الإرهاب، ومن بين تلك المؤتمرات وأبرزها مؤتمري برشلونة وفينا. اشتمل البحث على قسط وافر ومقدر منه عن (العالم العربي) وما اكتنفه من ثورات سميت ب (الربيع العربي) التي نتجت عن عمى البصر والبصيرة، وقصر النظر، والثقة التي لا مبرر لها من جانب انظمة في الدول العربية في بقائهم على دست الحكم أبديا وأن لا ينازعهم أحد فيها.... رد البحث اشتعال تلك الثورات التي بدت كالبراكين المتفجرة وقذفت بحممها في كل الإتجاهات ومختلف الأمكنة إلى علل سادت بعض أقطارنا العربية كتفشي البطالة بين الشباب، والإدارة المتدنية في انحطاط مشهود دونما سعي للترشيد، والفساد المنهجي الذي استشرى بصورة متزايدة وأساليب متنوعة إضافة إلى عدم الشفافية في اتخاذ القرارات....وكذلك ما وصفه ب (الجرأة التي امتلكتها الأغلبية الدينية التي كادت تتحول إلى سلفية جذرية لا تقل خطرا على المجتمع من جماعة القاعدة) خلافا لما نجده في تراثنا السلفي. وكان ختام البحث بعض حلول، لا بد أن تجد حظها من الإهتمام، وهي خلاصة للعرض الممتع والمفيد الذي شمله البحث، وإن كان لي أن أجمله في اختصار ربما أمعنت فيه، تتمثل في: * الصدق في الإلتزام باحترام العهود والمواثيق الدولية ذات الصلة ب(الحكم السليم) ...و (احترام حقوق الإنسان) و(الابتكار والأبداع في انتهاج السبل الكفيلة بمحاربة الإرهاب استئصالا له من جذوره). * انهاء الصراعات الدامية بين الدول....وداخل كل دولة بما يحفظ لها الحقوق كلها دون استثناء. * التصدي لاستشراء البطالة بابتداع الخطط الناجعة لمعالجتها. * اشراك المجتمع المدني بتنظيماته كافة في مجابهة ظاهرة الإرهاب. * التخلي عن الفكر الواهم بالخلود في السلطة..إذ كل نظام ينتابه الجهل بحقائق الأشياء،وممارسة عدم احترام حقوق الإنسان ،وتفشي الفساد وغير ذلك مما تطول به قائمة العيوب، لا شك زائل... فكل أنظمة لا تصدق مع الناس، وتوهم نفسها بالخلود ذائقة للفناء مهما مارست من خداع النفس. * وأعلى البحث من قيمة التعاون في إطار اقليمي فاعل لمواجهة الظاهرة على نسق بادرت به أوروبا ودول أمريكا اللاتينية...تعاون مدروس وواقعي يشمل مكونات السلطة ومنظمات المجتمع المدني. ولعلي لا أكون مشطتا في التفاؤل بأن هذا البحث القيم قد وجد الدراسة الجادة والاهتمام من الجهات المناط بها أمن الوطن، والعاملين في المجال الدبلوماسي، والعاكفين على دراسات مماثلة في مراكز البحوث، ولا أقصي النخب المهتمة بمتابعة مثل هذه الدراسات. وآن لي أن أختم بشكر الدكتور منصور خالد على هذا البحث المفيد، متمنيا له موفور الصحة والعافية، وقد أهدانا كثيرا من فكره الثاقب...ولا زلت مناديا أصدقائي المهتمين بمواصلة الإطلاع على اصداراته، على إعادة قراءة العديد منها خاصة في هذا الظرف، وفي الذهن لا بد من اعداد دستور يجسد تعاونا بين كل فئات المجتمع وبتأن كي لا نقع في مصيدة (كما الحاكة في الليلة التي تسبق العيد) كما سبق أن وصف الدكتور منصور اعداد دساتيرنا السابقة برتق وتعديل القديم على الجديد في الشكل. وكذلك استلهام الفكر السليم الذي يفضي إلى تنمية اقتصادية مرشدة تقينا اعداد خطط اقتصادية هي فقط (بليغة على الورق) كما ذكر الدكتور في مناسبة سابقة.