سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
الحركة الإسلامية الطلابية استطاعت أنت تؤثر في القيادات السياسية وعلى رأسهم السلطة والبرلمان الشيخ/ أحمد عبد الرحمن رئيس مجلس الصداقة الشعبية القيادي بالحركة الإسلامية ل «مراجعات»: (3)
٭ خير من يؤرخ لمرحلة وحدث سياسي هو من عاش الحدث وصنع أحداثه، وأزعم أن ضيف «مراجعات» الشيخ/ أحمد عبد الرحمن، رئيس مجلس الصداقة الشعبية القيادي بالحركة الإسلامية، ممن عاشوا الأحداث الكبيرة في تاريخ البلاد وممن صنعوها.. نجلس إليه ليضع سهمه في كنانة التوثيق للتاريخ الذي عايشه وعاصره. وفي الحلقة الثالثة ننظر لجدلية العلاقة بين الحركة الإسلامية وقوى الساحة السياسية من يمين ويسار، وتأثيرها على ماضي البلاد وحاضرها. ٭ كانت الحركة الإسلامية تنظيماً طلابياً محدوداً يعيش جدل الخروج من المحدودية إلى تنظيم كبير، وكان هناك سؤال دائم عن علاقته مع مصر.. نريدك من زاوية تاريخية أن تعطينا الخلفية وجدل الاستقلالية عن مصر كيف تراه داخل الحركة؟ السؤال وجيه، وجدير بأن يحاول الناس قدر الإمكان الإجابة عنه بأمانة وبموضوعية أقول إنه من المؤكد أن إجابة السؤال ليست لديّ وحدي، بل تحتاج للاتصال بعدد ممن عاشوا تلك المرحلة. وفي ما أعلمه أن التنظيم «تنظيم الحركة الإسلامية» كانت قيادته في جامعة الخرطوم وله أفرع في المدارس الثانوية، وعلى وجه الخصوص مدرسة حنتوب الثانوية التي هي أحد أهم روافد التنظيم بحكم وجود قيادات الحركة والمؤسسين في المدرسة التي كانت ترفد جامعة الخرطوم بكوادر حقيقية وذات فهم متقدم جداً في العمل الإسلامي. وأستطيع القول إن قيادات ومؤسسي الحركة الإسلامية الطلابية، ومنذ ذلك الوقت كانوا من خلفيات استقلالية، ويأتي على رأسهم الأستاذ والمفكر الذي أكن له احتراماً كبيراً الأستاذ بابكر كرار النور، وهو من أبناء مدني، وكان مؤثراً جداً وصاحب حجة دامغة. وفي جامعة الخرطوم كان كرار مجابها لليسار المتمركس، وكانت له الغلبة والشوكة، مؤازراً بقوة من قبل الطلاب والأساتذة خاصة في كلية الحقوق التي كنا نصفها بالقلعة التي لم تسقط بعد. كذلك كان هنالك إخوتنا من ذوي الميول لمصر، والذين غلب عليهم العلمانيون، وكانوا لا يخفون ذلك ويصرحون به مما أدى إلى مواجهات بينهم وبين الطلاب الإسلاميين، وبابكر كرار كذلك كان له دور كبير في مجابهة الفكر الطاغي في الجامعة وقتها، واستطاع أن يوجد للإسلاميين مكاناً في الجامعة. والتنظيم في المدارس الثانوية كلها كان يعمل تحت مظلة الجمعيات الدينية في وادي سيدنا وحنتوب وخور طقت وعدد من المدارس، ولكن كان مضيَّقا علينا، وكنا في المدرسة الأهلية نواجَه بتضييق حتى في احتفالاتنا بالهجرة النبوية وميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث لم يكن ذلك مقبولاً من الأساتذة، وقد عانينا مشكلات كبيرة في نشاطنا. وانتفعت الحركة الإسلامية كثيراً من فصل أعداد كبيرة من طلاب خور طقت والتحاقهم بالمدارس الثانوية، حيث كانت من ضمنهم عناصر إسلامية كبيرة. وإلى ذلك الوقت كان طابع الحركة استقلالياً وتسمى حركة التحرير الإسلامي، وأخيراً أخذت طابع حركة إسلامية، رغم أنها كانت متأثرة إلى حد كبير بفكر الإخوان المسلمين، حيث كانت كل الأدبيات المستخدمة منزوعة من رسائل الإمام حسن البنا وعبد القادر عودة ومحمد الغزالي، وهذه أدبيات جديدة في السودان عموماً وفي الفكر الإسلامي، وكنا معجبين ومنفعلين جداً بها. ونتيجة للضغط على الإخوان في مصر، وصلت للسودان مجموعة من القيادات الإخوانية من المثقفين والدكاترة وعاشوا بيننا، نذكر منهم الشاوي وعز الدين إبراهيم مدير جامعة العين لمدة طويلة وجمال عمار وجبر، وأعداد من المصريين إما إسلاميون أو أصحاب ميول إسلامية وذوو علاقة بالإخوان المسلمين، وكنا نتردد على شجرة نأتيها راجلين من أم درمان ونتلقى فيها الكثير من الشحنات الإيمانية والحركية، ويظل ذلك سمرنا في الكوبري. وكنا نفعل ذلك لمرة أو مرتين في الأسبوع. واستفدنا كذلك من دار عوض عمر باعتبارها «سنتر» ومقراً لجماعة كبيرة من المهاجرين من مصر نتيجة ضغط النظام المصري على الحركة الإسلامية، حيث كنا نلتقيهم هناك ويشاركوننا الكثير من رحلاتنا ومناشطنا. وأيضاً أخدنا موقعاً في نادي أم درمان الثقافي، وكان نافذة نطل بها على المجتمع، والحق يقال كان ذلك في عهد إسماعيل الإزهري ونحن في الجامعة سنوات 1956 1957م، وكانت الحركة الطلابية يومها تركز على النادي، وكل مناشطنا الرياضية والثقافية كانت تقام فيه، وكنا نجد من الطلاب تجاوباً، وسادت الحرية حد أن استدعينا عدداً من الإسلاميين وعلى رأسهم أحمد حسن الباقوري الذي أقام محاضرة مشهودة. ورحبت السلطة يومئذٍ بالضيف، واعتبرت عمله طبيعياً، وهذا يحمد لها، وحين أقارن بينه وبين المشاكسة لمركز كمركز عبد الكريم ميرغني مثلاً أستغرب وأسأل: «إيه الحاصل؟». وأحضرنا سعيد رمضان وهو من القيادات الإسلامية المطاردة، وكان يزور السودان كثيراً، وكل السودان يستضيفه في نادي الخريجين بأم درمان، وكانت زيارته للسودان عبارة عن حدث كبير لا يقتصر على الحركة الطلابية وإنما كانت تؤم النادي أعداد كبيرة من أهل السودان. وفي ذلك الوقت كانت الحركة مازالت محصورة، وحين استشهد عودة «1954م»، بدأت الحركة السودانية تطلع إلى الخارج، واستطعنا يومها أن ننظم تعبئة كبيرة ضد النظام المصري، وكانت الفترة فترة اتخاذ قرار بين اتحاد السودان مع مصر أو استقلاله، ومن حسن الحظ أو سوئه أن صادف موجة العنف في القاهرة من قبل النظام الناصري شعور بأن الحركة الإسلامية الطلابية استطاعت أنت تؤثر في القيادات السياسية الموجودة في السودان وعلى رأسهم السلطة والبرلمان، لدرجة أن أقام نواب البرلمان صلاة الغائب على الشهداء في مصر.. وهذا حدث كبير جداً مع أسباب أخرى كثيرة ساهمت مساهمة كبيرة في أن ينحاز الناس لاستقلال السودان.. والزعيم إسماعيل الأزهري لم يقصر أبداً، واستغل كل هذا وبحسه الوطني المرهف العالي جداً وذلك بعد أن قابله المصريون حين عودته من باندونغ «1955م» خاصة أنصار الوحدة بطريقة غير مسؤولة. ولا أذكر أنه خرجت منه كلمة نابية تؤخذ عليه سواء مكتوبة أو مقروءة أو مسموعة. ٭ هل فاجأ الأزهري الجميع؟ خزن ذلك كله وسحب البساط من الاستقلاليين. وفعلاً عمل قيادة جيدة، بدليل أنه عوضاً عن أن يجري استفتاء، تجاوز الأمر كون الرأي العام جاهزاً بكلياته «باستفتاء أو دون استفتاء» لرفض الاتحاد مع مصر، وقد تجاوز الخطوة وبدأ يعمل للاستقلال من داخل البرلمان. وفي ذلك الوقت لم يكن لدينا نواب، ولكن عندنا «لوبي كبير» وسط النواب، وكان التصويت الكلي بالإجماع على استقلال السودان، وهذا وضعنا في مشكلة لم تناقشها مرجعياتنا، حيث من المفروض أن نكون دعاة وحدة، ولم يُتوقع إطلاقا أن نعزف عن الوحدة مع مصر، ولكن نتيجة لممارسات النظام المصري وجدنا أنفسنا عفوياً مع الحركة الاستقلالية، سيما أن قيادتنا عقليتها وخلفياتها أنصارية، ووقتها لم تأتِ مرحلة الترابي بعد، ولكن أتذكر أننا ناقشنا الموضوع في ندوة كبيرة عن اتفاقية «جمال هيد» «جمال عبد الناصر ووزير خارجية بريطانيا حينها أنتوني هيد»، وشعرنا كلنا ما عدا اليسار الذي وقف وباستحياء شديد ضد استقلال السودان، بعكس كل القوى الوطنية وعلى رأسها اتحاد الطلاب الذي شرع في تنظيم الندوات في الجامعة التي كانت بؤرة نشاط واحترام كبيرين ومنبراً محترماً له رؤيته ومنطلقاته القومية. وأذكر أن كل الأحزاب السياسية أتت في ليلة من الليالي ووقفت واتفقت على الاستقلال ما عدا اليسار. وشخصيا لا أستطيع القول أنهم أفصحوا عن أنفسهم، ولا أذكر ما قالوه ولكن باستحياء شديد لم يقفوا ضد الاستقلال، فيما وقفنا بصوت قوي جداً في محيطنا الجامعي والطلابي مع الاستقلال والحركة الاستقلالية، وأُخذ علينا ذلك من قِبَل مصر. والمصريون في ذلك الوقت سواء إخواننا القادمون من مصر أو الإخوان في مصر رغم كل المبررات التي سقناها، لم يكونوا راضين عن وقفتنا مع الحركة الاستقلالية، وبالنسبة لهم الوحدة قضية دينية، ونحن براغماتيون وواقعيون نعيش عصرنا، وشعرنا بأن مصلحة الحركة الإسلامية في تلك الظروف في السودان وفي مصر، في أن نبعد عن مصر ونقف مع إجماع الأمة السودانية التي نعمل وسطها، وأنه لا خيار أمامنا سوى ذلك، وإلا أصبحنا نشازاً، وقطعاً سنتعب في سبيل الدخول مجدداً في النسيج الاجتماعي لنعمل. ٭ هذا يجعلني أنتقل بك إلى النقطة الثانية وهي العلاقة التي جمعتكم بحزب الأمة، إذ من الواضح أن خيار الاستقلال هو خيار حزب الأمة، وجمعتكم به علاقة خاصة، لكن دعني أبدأ من الحديث القائل إن السيد الصادق المهدي كان مرصوداً من داخل الحركة الإسلامية لتجنيده لصالحها.. فما مدى صحة هذه الواقعة؟ من ناحية موضوعية وأمانة شعرنا كحركة إسلامية سودانية بأننا مواجهون مواجهة شديدة من قبل القوى الوطنية المنحازة للاتحاد مع مصر وعلى رأسهم الشيخ علي عبد الرحمن رحمه الله الأمين العام للحزب الاتحادي الديمقراطي، ونحن غيرنا اسمنا وقلنا إننا حركة إسلامية، لكنه ظل يهاجم الإخوان المسلمين في السودان و «كوركنا» وقلنا: ما أخوان مسلمين، لكنه كان رجلاً مؤثراً جداً ووجه كل آلياتهم ضدنا. وبالتالي كان من فتح بابه لنا هم الأنصار، وقبل أن يكون حزب الأمة السياسي فإن كل دُور الأنصار التي لم تكن موظفة فتحت لنا. وفعلا شعرنا أننا جزء منهم وامتداد وتجديد لهم «الأنصار» ووجدنا والحق يقال في مرحلة تاريخية الأبواب مشرعة لنا للعمل والمناشط في دُور الأنصار والاستقلاليين، ولعل صحيفتنا عندما كانت موجودة تستضاف في دار الصحف الاستقلالية بالقرب من البنك العربي. وبوصفنا طلاباً إسلاميين في جامعة الخرطوم كوّنا لجنتين إحداهما توجهت للسيد عبد الرحمن المهدي وأخرى للسيد علي الميرغني، لتطلبا منهما المؤزارة لحركة الدستور الإسلامي، وكنت من ضمن المجموعة التي اتجهت للسيد عبد الرحمن، وفعلاً قابلناه في داره فيما يسمى القصر لم يكن قصراً إنما بيت من طابقين وباعتبارنا طلاباً استهوتنا المنضدة، ودخل علينا السيد عبد الرحمن وهو رجل مهيب ولطيف وأنيق جداً وله قامة فارعة. ٭ «مقاطعاً» متى كان ذلك؟ سنة 1957م، وكان جماعته من ورائنا وأعرف أحدهم وكان يسمى مساعد، يأمروننا بالوقوف، ولكن حين دخل المهدي قال «اجلسوا» ولكنا ما جلسنا، إذ شعرنا بأننا نجلس في محل له قدسية، وأذكر كلماته يومها ووضوحه وأمانته وصدقه الشديد.. وقال: «سعيد جداً باليوم والزيارة، ومطمئن على مستقبل البلاد ومستقبل الإسلام، طلاب جامعة الخرطوم يأتون ليذكروننا بالوقوف مع الدستور الإسلامي.. ما في اسعد من ذلك، وأطمأننت على المستقبل». وتمت استضافتنا، فالرجل كان معروفاً عنه الكرم. والسيد الصادق المهدي في الجامعة كان جل من حوله من الحركة الإسلامية: السيد عبد الله محمد أحمد، د. مدثر إبراهيم ود. حسن الترابي والرشيد الطاهر كانوا حوله، وقبل أن يغادر جامعة الخرطوم إلى أكسفورد قال ذات مرة جمعنا فيها بمنزله، إن جده السيد عبد الرحمن كان يوصيه كثيراً بأن يكون قريباً من الحركة الإسلامية الحديثة. وكان الحديث عن علاقة الأنصار بالحركة الإسلامية الحديثة، وفي العمل تجدنا ننسّق أكثر مع السيد الصادق أكثر من غيره، وطبعاً مصر كانت حجر عثرة. ٭ بينكم وبين الاتحاديين؟ لسبب أو لآخر كان يتم تصنيفنا مع الإخوان، وقبل وبعد أكتوبر كان النقاش مكثفا مع حزب الأمة، وأذكر حين حضر وليم دينق مع عقل مفتوح ورؤية جديدة على أساس أنه يمكن للصراع في الجنوب أن يُحتوى في إطار الالتزام بنظام فيدرالي وتدابير متقدمة.. أخذ السيد الصادق المبادرة ليكون ما يسمى مؤتمر القوى الجديدة: الحركة الإسلامية ووليم دينق «حزب سانو» والأنصار جناح الصادق المهدي، ووقتها كان منشقاً عن عمه «الإمام الهادي»، وفعلاً في حركة القوى الجديدة أدخلتنا مرحلة رؤية جديدة للجنوب، وأن المشكل يمكن أن يُحتوى بالحوار. ٭ هنالك تقارب ظل على الدوام بينكم وبين الصادق المهدي، أريد أن أعرف واحدة من الوقائع المؤثرة جداً في تاريخنا السياسي: واقعة حل الحزب الشيوعي السوداني، إلى أي مدى كان هنالك تنسيق بينكم وبين الزعيم إسماعيل الأزهرى والصادق المهدي؟ حين حل الحزب الشيوعي كنت في هولندا، وقد أخبرني شخص كوري أن الحزب الشيوعي حل، فقلت له: الحمد لله. وسألت وعلمت أن د. الترابي كان في مدينة سنجة، والحل كان عفوياً، ولم يكن نتيجة قرار من الحركة الإسلامية، وإنما نتيجة لملابسات تمت في كلية التربية، سواء أكان ذلك صحيحاً أو غير ذلك، وكان هنالك ادعاء بأن طالباً من الطلاب ويقال إنه موجود في البلاد قيل إنه سبّ الرسول صلى الله عليه وسلم، وكوادر من الإخوان وعلى رأسهم علي عبد الله يعقوب ولا أتصوره حضر الواقعة، وإنما أخبر بها بواسطة دقشم «ود الفضل»، وشعرت بأن تلك كبيرة ويجب ألّا تفوت، وحين نقلوا الأمر للسياسيين وعلى رأسهم علي عبد الله يعقوب، تم أخذ الموضوع ليلاً لمكانه الصحيح داخليات الطلاب في جامعة أم درمان الإسلامية دون الجامعات والتجاوب كان كبيراً، وحصل تصعيد. وحضرت بعدها بيوم، ولم نكن اتخذنا بعد خطوة ولكن ما جرى اعتبرناه فرصة. ٭ وقمتم باهتبالها؟ «فرصة ربنا جابها» فتحدثنا مع السيد الصادق، وأذكر أنه لم يكن متحمساً، ولكن عندما ذهبنا إلى الزعيم إسماعيل الأزهري كان متحمساً وتجاوب تجاوباً منقطع النظير، وأخبرناه بجلوسنا مع السيد الصادق ليسير معنا في نفس الخط وامتنع بصورة غير واضحة وتأنى جداً في الموقف. ٭ ترك الباب موارباً؟ الأزهري قال مصرحاً: «لو ما حل الحزب الشيوعي فسيقود المظاهرات بنفسه»، وكانت قاصمة الظهر و «أبو الزهور» حين قال كلامه شعرنا أن الحزب الشيوعي في خبر كان، وقد كان. وعقد اجتماع كبير للاتحاديين في دار الخريجين وكنا نشكل «لوبي» ونقف على بابي الدار، وكان الداخلون يهتفون بشدة لحل الحزب الشيوعي، وكان تجمعاً رهيباً للاتحاديين وانتهى بحل الحزب الشيوعي. ٭ هل كنتم داخل الحركة الإسلامية عازمين على الحل؟ أصلاً لم نتردد، وبقلب رجل واحد مضينا قدماً، فقد كانت هذه فرصة لكي ينعدم الحزب الشيوعي خاصة في وقت بدت فيه مؤشرات سلبية. ٭ كيف تنظر لواقعة حل الحزب الشيوعي، وهل كانت فعلة صحيحة، وهل يمكن أن نعزو إليها سبب الخصومة الدائمة بين الإسلاميين واليسار؟ في تلك الظروف كان الحزب الشيوعي ذا وجود كبير ومنظراً لإطلالة نفوذ المعسكر الاشتراكي، ووقتها استقر رأينا على أن الشيوعي خطر على السودان واستقلاله ومستقلبه، لذا ما ترددنا في أخذ الفرصة واستغلال الحادثة غير المدبرة والوصول بها إلى أبعد مدى ممكن وحل الحزب الشيوعي، ودخلنا مرحلة جديدة طرد فيها نواب الشيوعي من البرلمان، رغم أن القضاء قال كلمة في حق الحزب الشيوعي، وأصدر قراراته، إلا أن الجهاز التنفيذي كان أقوى ولم يأبه لقرار المحكمة العليا، فالقاضي صاحب القرار كان موالياً للحزب الشيوعي. وهذا لا يهم، المهم أنه صدر قرار من أكبر سلطة قضائية بأن هذا قرار خاطئ، ولكن السلطة التنفيذية في السودان ظلت ومازالت قوية، وهذه مرحلة يجب أن نتجاوزها. وبعدها أصبحنا بوصفنا حركة إسلامية لنا وجود خارجي مؤثر ولوبي قوي جداً لتوجه إسلامي، وابتدرنا الدفع بمناشدة للأخذ بدستور إسلامي في أول جمعية تأسيسية وأقنعاهم تقريباً، حتى أن البرلمان استجلب خبيراً في الدساتير الإسلامية هو الباكستاني محمد الأنصاري، وكنا حوله ننظم برامجه.. وأصلاً كان لنا فصيل قوي جداً داخل تلك الأحزاب خاصة وسط الأنصار والاتحاديين. ٭ مزروعون؟ متطوعون وبسجيتهم شعروا بأنهم نزاعون لهذا التوجه «التوجه الإسلامي» وتجاوبوا معه وباتوا أصيلين فيه، ودون أسماء، كانوا كثيرين. ووضع الخبير الأنصاري أول مسودة لدستور إسلامي في عام 1957م قبل انقلاب عبود، وفي ذلك الوقت شعرنا بقوتنا وسألنا نفسنا: هل نستمر بوصفنا قوة ضغط؟ ٭ حدثني عن واقعة الحل باعتبارها مركزية بينكم وبين الحزب الشيوعي؟ هذه قربت لنا القوة السياسية كلها. ٭ كيف تنظر لحل الحزب الشيوعي؟ أنظر لها طبقاً لذلك الوقت. ٭ كيف تنظر لها الآن؟ هي خطوة صحيحة. ولو استقبلت من أمري ما استدبرت أعتقد أن الحزب الشيوعي كان يجب أن يحل. ٭ وأين الديمقراطية في هذا؟ الديمقراطية مرحلتها ستأتي. ٭ الديمقراطية تنص على أن تقبل بخصمك؟ عندما تنظر للتاريخ يمكن أن تنظر للواقعة بأنها سالبة في مسار الديمقراطية نتيجة الظروف المحيطة، ولكن لم يكن بمقدرونا وقف الدفع الوطني والشعبي. ٭ أنتم لم تُدفعوا بل كنتم صناعاً.. والدليل على ذلك زيارتكم للأزهري والصادق المهدي؟ لم نصنع الحدث ولكن قمنا باستغلاله، فقد كنا نشعر بأن الحزب الشيوعي سيكون أكبر عقبة أمام استقلال القرار، لأنه حزب كان يعتبر امتداداً للنظام السوفيتي، وبالتالي هو غير مستقل ويأتي على رأس الأحزاب التي تعد امتداداً للنظام الشيوعي السوفيتي، بدليل دخولهم المجلس المركزي إبان عهد الفريق عبود، في حين كنا نعمل على دعم قيام نظام ديمقراطي. ووقفوا ابتداءً حين قلنا إن نظام عبود أساء استخدام السلطة في الجنوب، وانحازوا ضدنا وكتبوا في الصحف، وقالوا إن العناصر الرجعية استغلت الوضع وهم مؤيدون للنظام الموجود، وأقيمت ندوات في جامعة القاهرة الفرع تمت مهاجمتها، وكل الندوات التي قامت للتحضير لإزالة نظام عبود وقفوا ضدها. ٭ هل أضرَّ الصراع بين الإسلاميين والشيوعيين بالتجربة السياسية وأدى إلى الانقلابات «مايو مثلاً»؟ لا دخل لي بالانقلابات لكنها أخرت البلاد، والاثنان «الإسلاميون والشيوعيون» لم يكن لهما نفوذ خارج العواصم، ولكن كان من المفترض أن يوضع اعتبار للمرحلة التي يمر بها السودان. وتجاوزنا عن بعض الأشياء واستجبنا لأخرى. وبعض هذه الأشياء تحديات، ولكن الطرفين غلّبا الجانب الحزبي. ونأخذ على اليسار أنهم يمثلون إرادة أناس خارج السودان، ولعل تشيكوسلوفاكيا فيها رئاسة السودانيين في براغ، وتم التعبير عن ذلك بهتافات «سايرين على درب لينين»، والشعارات مخيفة لا يمكن لشخص واعٍ أن يقبل بها. ٭ هل هناك مشتركات بين اليمين واليسار؟ إلا في أشياء صحية، فقد كانوا ديناميكيين أكثر من غيرهم ومنظمين ولهم بوصلة. ٭ أعني هموماً مشتركة؟ كان من المفترض أن تكون موجودة، ولو كانت موجودة بعد أكتوبر كان السودان «طلع»، ولكن بكل أسف لم تكن هناك هموم مشتركة، وكانت المسؤولية الأكبر عند اليسار، فوضعهم كان أفضل ولهم قوة خاصة في القطاعات الحديثة، إلا أنهم أول من بدأ العمل في القوات المسلحة. ٭ بالانتقال إلى انقلاب مايو 1969م وبداية ما يعرف بالتحالف الجبهوي الذي جمعكم مع حزب الأمة والاتحادي الديمقراطي.. أريد أن أعرف منك شيئاً عن واقعة الجزيرة أبا والدور الذي لعبه الإسلاميون في إنشاء الجبهة الوطنية والتحالف مع الشهيد الإمام الهادي المهدي والشريف حسين الهندي؟ في يوم 26 مايو 1969م وصلني خطاب من د. الترابي فيه قراءة واقعية للأوضاع في السودان بما فيها الانقسامات التي أصابت الحركة الإسلامية، وفي رأيه أنها أصابت كل الأحزاب بما فيها الشيوعي، وأشار إلى أن الحزب الشيوعي مختفٍ عن الساحة بصورة كاملة، وذكر بالحرف غياب الحزب الشيوعي عن الساحة إلى ما دهاه من انشقاقات داخلية أم لماذا؟. وفي يوم 25 مايو أجيب على السؤال لماذا. والرسالة سلمتها بالفعل يوم 25 مايو بعد الانقلاب. وفي اليوم التالي للانقلاب وبقوة غير طبيعية أقنعتني بلزوم مقابلة جلالة الملك فيصل، وما كان ليتم ذلك دون شخص قريب منه، وتم ذلك، حيث اتصلت بعم الملك فيصل وكنت أسكن قريباً منه وسلمته رسالة عن طبيعة الانقلاب الذي تم. ٭ من تلقاء نفسك؟ بالاجتهاد والمعلومات التي توافرت لدي، فقد استقيتها من ال «بي. بي. سي» ومن مصادر أخرى أو بمبادرة شخصية مني، وإذا بالمبادرة تنجح ويستلم الرسالة. ٭ وما فحوى الرسالة؟ كتبت له بصورة كاملة أن ما تم في السودان ليس خطراً على السودان وحده وإنما على المنطقة كلها، والموضوع لقي هوى وقناعة شديدة، بدليل أنه بعد يومين استضفت في الطائف وقابلت وحدي الملك فيصل، وهي أول مرة أقابل ملكاً، وقبلها لم أقابل أميراً دعك من ملك. وصادف أن حضر وفد من «نظام» مايو وحدد لهم موعد ليقابلوا جلالة الملك، ليبلغوه بالتغيير الذي حدث في السودان. وفي اليوم الذي تلا المقابلة لاحظت في صحيفة «المدينة» أن المقابلة التي تمت كان الملك فيها بمعية عمه الذي سلمته الرسالة عبد الله بن عبد الرحمن آل سعود. وبعد يومين تقريبا قابلت الملك وسألني: من معك؟ قلت له كثيرون. في حين كنت وحدي، ولكن سرعان ما أرسلت أسرتي للسودان لأكون متفرغاً وذهبت إلى بيروت وقابلت محمد مكي وكامل حسن محمود، وكان فندق فيدرال في الروشة ببيروت سنتر معلومات. وعقبها حضر نصر الدين السيد من كنشاسا وكان مع الأزهري، ومن ثم حضر الشريف حسين الهندي ومحمد صالح عمر وبتنا مجموعة، وأخبرتهم بما جرى ورجعت إلى جدة وهيأت لهم مقابلة مع الملك فيصل تأخرت قليلاً بفعل أيلول الأسود «أحداث سبتمبر 1970م بين الأردن والفلسطينيين»، ولكن قابلناه، أما نصر الدين السيد فقد رجع السودان حيث صعب عليه الانتظار الذي استمر «17» يوماً. المهم قابلنا الملك وأشار للمذكرة التي كتبتها، ووافق تقريباً على أن نظام الخرطوم يشكل خطراً على المنطقة كلها، وأن السودان الذي زاره لا احتمال فيه لإقامة نظام اشتراكي، وعليه أعطانا الضوء الأخضر لنستمر. ٭ فيم تستمرون وما الذي طلبتموه منه؟ لم نطلب شيئاً في تلك الجلسة، وتركنا الأمر للشريف حسين، وكانت عندنا ثقة كبيرة جداً فيه، وكان أخانا الأكبر ومتمرساً ويجيد الحديث مع كل القوى السياسية والحكام، ولم يحدث أن فشل في إقناع واحد منهم سواء في الخليج أو شمال إفريقيا.. فالأبواب فتحت لنا. ٭ كنتم متفقين على عمل مسلح.. فهل كنتم تريدون سلاحاً أم أموالاً؟ في البداية كانت رؤيتنا أن الطريقة العدائية التي عاملنا بها الانقلابيون وعومل بها الشعب السوداني أشعرتنا بأنه لا مفر من استخدام القوة مع ذلك النظام، وكما قال الشريف لمحمد مكي الذي كان يريد أن يدخل بأية طريقة فيما الشريف يخاف منه وغير مطمئن له. ٭ مكي الناس؟ نعم. وقدم منشورات كثيرة جداً، والشريف «يعجبك» يملي عليه وهو يكتب.. الشريف قال: «النظام ده ما داير منشورات.. داير ضرب»، وقال لمحمد مكي «تنتظرني في إحدى دول أمريكا اللاتينية وسيأتيك عثمان خالد كمقدمة». وقال ذلك بغية اختباره. المهم أنه وبفضل الشريف تحولنا إلى الكيفية التي ندبر بها أمورنا ونحافظ بها على سرية العمل، فالنظام قاهر وذو طبيعة عدائية جداً. ٭ تقول إن من بدأ التفكير في العمل المسلح هو الشريف حسين؟ نعم الشريف حسين. ٭ ماذا عن الدعم السعودي؟ هذا أمر كان يعرفه الشريف الذي نثق فيه ثقة مطلقة، وكنا نتعامل مع ملوك ورؤساء، ووقتها هيلاسلاسي كان حياً، وبعدما حددنا هدفنا في تقويض النظام بالسلاح فقد كنا بحاجة لسلاح وتدريب. والصادق المهدي لم يكن قد خرج بعد، وأعطينا يومها رسالة لمبارك الفاضل وكان يدرس في الجامعة الأمريكيةببيروت. والرسالة تقول للإمام الهادي بوضوح: «نحن في مبلغ علمنا لو تركنا نظام نميري فسيتمكن من السودان، وهو نظام ضار جداً وتصعب إزالته». ورجع مبارك للسودان فيما كنا ننتظر في بيروت رد الإمام الذي تأخر لمدة إلى أن أتانا الضوء الأخضر. وبعد مدة طلبت في السعودية لأجد أن الضيوف الذين كان عليّ مقابلتهم هم الشريف حسين وشخص أظنه قدم من إثيوبيا لكنه تحدث بالإنجليزية وكانت له لكنة. وسألته من أنت؟ فقال: ولي الدين الهادي. وقررنا أن نواصل المسار، وفعلاً اتجهنا ناحية الإعداد والمفترض أن يكون في إثيوبيا. ٭ إن كان التمويل سعودياً فمن أين اشتريتم السلاح؟ هو أمر كان من الممكن أن تسأل عنه الشريف حال كان حياً. ٭ ولكنك كنت قريباً مما يتم ويحدث؟ صحيح.. ولكن السلاح أسواقه معروفة المهم «القروش». ٭ القروش من السعودية؟ ليس من السعودية وحسب وإنما من الخليج.. فكل الخليج شعر بأن النظام في السودان يشكل خطراً عليهم وتجاوبوا معنا، أما كيف تجاوبوا فهو أمر يعرفه الشريف. ٭ أنت أيضاً تعرف؟ والله لا أعرف. ٭ ما بيغلبك؟ الشريف حسين أقنع هيلاسلاسي بمنحنا الأرض للتدريب، وقيادات الخليج وغيرهم بحكم علاقتهم السابقة بالشريف الذي استثمرها جيداً وفروا المال، ولم أعرف شخصاً له القدرة على جمع الأموال مثل الشريف حسين. حتى أن بعضهم كان يظنه ساحراً يصنع القروش بنفسه. «يضحك»، فهو لديه «الشريف حسن» قدرة إقناع عالية، والأبواب كلها كانت مشرعة أمامه، ولم تقابلنا أية مشكلة سوى الإمام الهادي رحمة الله عليه لأنه لم يوافق على أن يكون التدريب في إثيوبيا، وكل الخطة كانت تقوم على ذلك، سيما أن الأمر سهل جداً، واليوم هنالك من يخرجون ويتدربون في إثيوبيا ثم يتسللون عائدين إلى السودان، أما أن يتدرب الناس داخل الجزيرة أبا، والجزيرة محصورة، فظاهر جداً أن ذلك نتيجته الفشل.