بعد العملية الناجحة التى اجريت لى لازالة «الموية البيضاء» كما نطلق عليها فى السودان تجاوزاً، سألنى صديقى السفير كمال محمد عبد الرحمن مداعبا: «هل اتضحت الرؤية؟» فأجبته بنعم، ولم لا وقد أجراها لى طبيب العيون الإنسان ذائع الصيت د. كمال هاشم فى مركز السودان للعيون، فشكراً له من بعد الله ولطاقمه المميز، فقد اتضحت الرؤية فعلاً. فاستأذنته فى أن أستصحب بعض ما نقله فى مقاله من كبار العلماء والفقهاء المسلمين حول الطب والأطباء، مثلما جاء فى قواعد الأحكام لابن العز الذى قال: «الطب كالقانون جعل كى نجنى منه ثمار السلامة ونفى متاعب المرض». وكان الامام الشافعى قد قال: «لا أعلم علماً بعد الحلال والحرام أنبل من الطب». الطب كما هو معروف هو علاج النفس والجسم كله، وعلى رأسه العيون، وقال فيه ابن منظور: «ان أصل الطب هو الحذق فى الأشياء، ويقال لمن حذق الشيء طبيباً». فالطب مهنة نبيلة، والطبيب المتميز على الآخر هو الذى يتصف بالنزاهة والصدق وسماحة الأخلاق والتواضع والنخوة والتدين واللين والاعتدال والرغبة الأكيدة فى مساعدة المرضى سيما البسطاء والفقراء والمساكين منهم، وقد كان ومازال قسم أبقراط الشهير هو دستور الأطباء، ووجدته بحق فى د. كمال هاشم وجميع طاقم مركز السودان للعيون رجالاً ونساءً، وبالطبع لن أنسى أو أظلم د. يحيى عروة اختصاصي العيون البارع بالمركز لمجرد أنه ابن عمى، ومن لا يشكر الناس لا يشكر الله كما جاء فى الأثر.. فلهم منى جميعاً كل الشكر والتقدير والامتنان، وجعل الله كل ما يبذلونه فى ميزان حسناتهم يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، وأحسبهم كذلك ولا أزكى على الله أحداً. العيون وما أدراك ما العيون، فنعمة البصر من نعم الله الكبرى على الإنسان، فقد جاء فى الأثر أن أحد العباد الذين انقطعوا لعبادة الله ولم يلتفتوا للدنيا قط، سأله ربه بعد مماته بأى شيء نحاسبك لتدخل الجنة، فقال بعملى يا رب، فقال عزَّ وجلَّ لملائكة الحساب زنوا كل أعماله وعبادته فى الدنيا، فلما وزنوها لم تكفى الا جزءاً يسيراً من نعمة البصر، فقال العابد برحمتك يا رب، فأدخل الجنة برحمة الله، ذلك أن رحمة الله قريب من المحسنين فى الدنيا. والعيون فى الشعر والغناء هى العضو الذى يميز الجمال، وهى التى ترمى بسهام الحب، وربما قيل إن الأذن تعشق قبل العين «أحياناً»، ولكن من المؤكد أن العيون هى التى تعشق وترمى بسهام الحب فى كل «الأحيان»، بل أن الشعراء وأهل الفن والغناء جعلوا من العيون ولغة العيون مكان التقدير والتفاهم والحب والعشق أكثر من أى عضو فى جسد المحبوب. ألم يعد الله عباده المؤمنين بالحور العين فى الجنة، وهن نساء أبرز ما فيهن أن عيونهن جميلة، وقال الشاعر العربى: «إن العيون التى فى طرفها حور قتلننا ثم لم يحيين قتلانا».. لقد قتلته تلك العيون الجميلة. وحين أراد أمير الشعراء أحمد شوقى أن يعبر عن أعظم ما فى حبه لمنتجع «زحلة» فى جبل لبنان حين زارها لم يجد أجمل من لغة العيون، فقال:« وبت فى ليلين فرعك والدجى ولثمت كالصبح المنور فاك... وتعطلت لغة الكلام وخاطبت عيناي فى لغة الهوى عيناك».. وهذه الأبيات هى التى حفزتنا عام 1969م للذهاب لزحلة عندما كنا طلاباً فى جامعة الخرطوم عند زيارتنا للبنان. وفى شعرنا وغنائنا السودانى لن ننسى تلك الأغنية التى فجرها الفنان الكبير الراحل محمد وردى فى بواكير ظهوره ودفعته الى قمة الغناء السودانى.. إنها أغنية «نور العين» التي قال فيها مخاطباً محبوبته: «يا نور العين إنت وينك وين.. قلبى الحابيكا ما خان لياليكا».. ثم لم يجد فنان السودان العظيم عبد الكريم الكابلى ليخاطب محبوبته من الكلمات أغلى من العيون فيقول «يا أغلى من عينيَّ وأحلى من ابتسامة»، فما هو يا ترى أغلى من العيون؟ وفى شعرنا وغنائنا فى حقيبة الفن يتغنى المغنى «العيون النوركن بجهرا غير جمالكن مين السهرا يا بدور القلعة وجوهرا»..الخ الشعر.. وأكثر الله من أمثال د. كمال هاشم وطاقم مركز السودان للعيون الذين تعهدونى بالعلاج الناجع. ولعلى لا أذيع سراً إن قلت إن علاج العيون والأسنان خارج السودان من أكثر العلاجات تكلفة مقارنة بالسودان سيما فى أمريكا ودول الغرب. وفى السعودية مثلا يكلف علاج «الموية البيضاء» للعين الواحدة عشرة آلاف ريال ومثلها فى الأردن، وفى مصر أربعة آلاف جنيه، هذا بالطبع غير تذاكر السفر والاقامة للمريض ومرافقه، بعكس اطباء السودان الذين يراعون ظروف المرضى خاصة الفقراء، فلماذا نتكبد كل تلك التكاليف وبين ظهرانينا مشافٍ وأطباء أمثال د. كمال هاشم ويحيى عروة وغيرهم.. وأختم بقول الله عزَّ وجلَّ «إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً».