في «الساحة الخضراء» وهي ساحة وخضراء ومزدانة بكل ما يبهج النفوس ويشرح الصدور، وتنسيك ركض الحياة في السودان ومعاناتها، كان إصرار زملائنا في مدرسة «كاب الجداد» على اغتنام فرصة حضورنا للبلد، ووجدها الزملاء الأعزاء سانحة للتجمع الأخوي الطيب، وكان الإخوان علي الخضر إبراهيم وكمال إسماعيل عووضة، على رأس القائمين على تلك الأمسية البديعة، حيث جاء نادر نجم الدين ابن شايقية الحلفاية وهو من أسرة عريقة هناك، وكان والده نائباً لمحافظ مشروع الجزيرة للقسم الشمالي الغربي، وكانوا يسكنون في سرايات «ري ود الترابي» وهو مجمع عمراني فخيم شيده الإنجليز على مثلث من الترع التي يحدها الكنار القادم بالماء من سنار، ووسط غابة خضراء يانعة من الخضرة الباسمة، ثم جاء الطيب البشير الصديق وحسب الرسول الطيب البشير، واتصل حمزة الأمين الذي صار «عقيد طبيب» وعبد الدين محمد أحمد وهو أيضاً يحمل رتبة عسكرية في السلاح الطبي، وعبد الرحمن سليمان وهو من منسوبي الأمن في «جياد» وغيرهم.. كانت أمسية رائعة ضحكت لنا فيها الخرطوم، وانزاحت عنّا الهموم، ورجعنا القهقرى نتساقى من مدام نبعه أمسٌ لن يعود بالتدفق، فرددت قول القائل: يا ليت العهد الأول ينثني بعدما راح وعشقنا بعده الراح. وأنا في قريتي «أزرق» آمن في سرب العشيرة، حامد أنعم الخالق، هاتفني «ود جميل» من الشبارقة: «يا زول إنت وين؟» ثم أصر على أن يحضر، وشق ظلام تلك الليلة بسيارته «اللاند كروزر» ومعه ابنه الشاب، ومحمد أحمد جميل ، صديقنا وزميلنا في مدرسة «حنتوب الثانوية العليا»، دفعه الحنين والإخاء المكين، ليحضر إلى أزرق، ولم ننم في تلك الليلة ونحن نتسامر عن حنتوب، وتذكرت ما غناه الكابلي: «قطر الجنوب، شال المحبوب، والله ذكرني أيام حنتوب»، وهي أيام أخرى سقطت من دفتر التقويم، لكنها لم تسقط من الذاكرة. قلت في نفسي: «ما أجمل هذا السودان، وما أعظم أهله، وما أجمل الحياة فيه، ودعوت الله في إخلاص، أن يهب هذا البلد «الطيبُ أهله» الأمن والأمان، حتى يشق طريقه الصحيح صوب البناء والعمران، وحتى يبقى أهله في حدوده لا يفارقونه، ولا يتبعثرون في كل وادٍ، ولا يهيمون في فجاج الأرض، ولا يبكون وطناً دونه حدود ومطارات. انصرمت الأيام سريعة، قفزاً قفزاً، ثم تأشيرة الخروج التي هي «ميلاد الأسى»، ثم البكاء الصامت عند وداع الأسرة، خاصة البنات اللاتي يتدفقن بالعاطفة الجياشة، ثم كآبة الحضور للمطار، وكأنك ذاهب إلى مأتم ، ثم إكمال الإجراءات، والانزواء في ركن قصي، لا يخرجك منه إلا الخطو المتثاقل نحو «بص ذي لون قاتم» سيأخذك إلى طائر ضخم رابض في تحد، لينقلك بعيداً بعيداً وإلى غياهب غربة لا تدرى لها نهاية، وأنت فيها فاقد «لحريتك وحقوقك وأمانك النفسي» بكل ما في الكلمات من معانٍ.. وتردد في صبر «اللهم إنا نعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنظر وسوء المنقلب في المال والأهل والولد».