قرابة مائة الف شهيد سقطوا حتى الآن على ثرى سوريا المكلومة، في حرب مستعرة بين نظام الرئيس السوري بشار الأسد والشعب السوري المغلوب على أمره. وكان من ضمن من نحسبهم شهداء، ولا نزكي على الله أحدا الشيخ الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، الذي لقي ربه بتاريخ الخميس 21/3 /2013م بجامع الإيمان في دمشق، برفقة نحو اربعين آخرين ممن كانوا يحضرون داخل المسجد وقتها درس الخميس الأسبوعي الذي كان يلقيه على مسامعهم لسنين عددا، إضافة الى حفيده أحمد، إن موت العلماء خطب جلل تتشنف له المسامع وتذرف له المدامع، لأن بموتهم تطوى صفحات لامعة وسجلات ناصعة، فرحيل العلماء ثلمة لا تسد ومصيبة لا تحد وفجيعة لا تنسى. ولد الشيخ العلامة محمد سعيد رمضان البوطي عام 1929م، في قرية تقع على ضفاف نهر دجلة عند نقطة التلاقي بين حدود سوريا والعراق وتركيا، وتدعى جيلَكَا تابعة لجزيرة بوطان التركية، ووالده هو العلامة ملا رمضان البوُطي رحمه الله تعالى الذي هاجر إلى دمشق إثر الإجراءات التي اتخذها اتاتورك في سبيل محاربته للدين. وربما اختلف الناس مع الشيخ البوطي كثيراً بسبب مواقفه من الثورة والثوار وما يعتقد أنه وقوف منه الى جانب النظام السوري، لكن لا يختلف معظمهم حول أنه كان من أهم المرجعيات الإسلامية في عالمنا الإسلامي، وكتب أحمد بسام ساعي الأستاذ الجامعي في إنجلترا وأحد المقربين من جماعة الإخوان المسلمين السورية، وذلك في تقديمه للطبعة الثانية لكتاب البوطي «هذا ما قلته» يقول: لقد تركت سوريا والمساجد تبحث عن مصلين، وعدت إليها بعد أكثر من عشرين عاماً والمساجد تبحث عن أماكن لاستيعاب جماهير المصلين الجدد، تركتها والشباب في المساجد هم القلة، وعدت لأراهم فيها الكثرة الكاثرة، تركتها وهي شبه خالية من الحجاب، وعدت لأراها شبه خالية من السفور. كيف كان لكل هذا أن يتحقق لولا فضل الله ونماذج إسلامية خيرة كالشيخ البوطي، آثَرَتْ الكلمةَ على الرصاصة، ولغةَ الحكمة على الشتيمة، ولينَ الخطاب على عنفه». ربما يكون هذا صحيحاً لكن هل يستطيع الجنود السوريون الآن في ظل حكم الرئيس بشار الأسد أداء شعيرة الصلاة داخل ثكناتهم؟ وتجيب سيرته المنشورة في موقعه الرسمي نسائم الشام «أنه لم يتوقف عن نصح الحاكم، وكانت له وقفات مع الحكام في سورية سراً وجهراً، لا سيما في ما يتعلق بالصلاة في الجيش والوقوف في وجه بعض المسلسلات، وموقفه من طرد المنقبات من بعض الدوائر الحكومية معروف، ومناهج التربية الإسلامية واللغة العربية» ثم نسأل، هل كان الراحل الشيخ البوطي يرحمه الله يناصر نظام الأسد؟ هل وصف الثوار بالحثالة من على منبر المسجد الذي قتل فيه؟ ولماذا انتقد آراءه وتصريحاته علماء كبار؟ كل هذه الأسئلة وغيرها لا يجيب عليها مقالنا هذا، وليس معنياً بالإجابة عنها، هذا كله علمه عند الله سبحانه وتعالى، لكن الذي أعرفه من خلال اطلاعاتي المتواضعة ومعرفتي المحدودة بتراث الشيخ العلمي أنه كان شيخاً فاضلاً، تقول سيرته العطرة: فيما نحسب أن والده عهد به في السادسة من عمره إلى امرأة فاضلة، كانت تعلم الأطفال قراءة القرآن، وأوصاها به، فكانت تُعلِّمه القرآن وتلقنه إياه على الوجه السليم، حتى ختم القرآن عندها، وهو حاصل على الدكتوراة في أصول الشريعة الإسلامية من جامعة الازهر عام 1965م، وللشيخ البوطي ما لا يقل عن أربعين مؤلفاً في علوم الشريعة والآداب والتصوف والفلسفة والاجتماع ومشكلات الحضارة وغيرها، أبرزها كتاب «الإنسان مسير أم مخير، هذه مشكلاتنا وهذه مشكلاتهم، هذا والدي، محاضرات في الفقه المقارن، الإسلام ملاذ كلّ المجتمعات الإنسانيّة، الحب في القرآن ودور الحب في حياة الإنسان، من الفكر والقلب، يغالطونك إذ يقولون، منهج الحضارة الإنسانية في القرآن، اللامذهبية أخطر بدعة تهدد الشريعة الإسلامية، السلفية مرحلة زمنية مباركة وليست مذهباً إسلامياً، شخصيات استوقفتني، المرأة بين طغيان النظام الغربيّ ولطائف التشريع الربانيّ، لا يأتيه الباطل، عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، منهج الحضارة الإنسانية في الإسلام، نقض أوهام المادية الجدلية، تجربة التربية الإسلامية في ميزان البحث، أبحاث في القمة «عشرة كتيبات»، قضايا فقهية معاصرة، تحديد النسل، قضايا ساخنة، المذاهب التوحيدية والفلسفات المعاصرة، التعرف على الذات، الإسلام والغرب» والعديد من مؤلفاته ترجم إلى لغات عدة مثل الإنجليزية والفرنسية والألمانية والتركية والروسية والملاوية. ترى هل كانت تصدر تصريحاته الأخيرة التي انتقدها بعض من المعارضين للنظام وأيضا العلماء تحت ضغط من النظام السوري؟ ربما، لكننا نربأ بعالم علامة مثل الشيخ البوطي أن يبيع آخرته بعرض دنيوي زائل، وحتى هو نفسه يرحمه الله لم يشأ أن يرد على تساؤلات من هذا القبيل وردت اليه قال فيها إنه لا يبيع آخرته بدنياه، ولذلك مهما اتفق الناس حول مواقفه السياسية والأقوال المنسوبة اليه رحمه الله أو اختلفوا حولها فليس هناك ما يبرر قتله بأي حال من الأحوال في بيت من بيوت الله حرمة الدم فيه كبيرة، كونه كان مسلماً موحداً بالله، وكونه كان شيخاً طاعناً في السن، وكونه كان يلقي درساً دينياً تشهده الملائكة فيما نحسب، ثم كون أبرياء كانوا في معيته، ثم إذا أراد البعض قتله تحت أية ذريعة وبتلك الكيفية الهمجية، فما ذنب أولئك النفر الذين قتلوا في معيته وما ذنب حفيده؟ كلها أسئلة نجد الإجابة عليها بعد تمحيص وتدقيق لمآلات الأوضاع في سوريا التي تبين بجلاء أن الذين قتلوا الشيخ البوطي فعلوا ذلك لشيء معلوم في نفوسهم، وهم ليسوا بأي حال من الأحوال مسلمين حقيقيين، وسيبعث الله الشيخ البوطي ومن قتلوا معه، وكذلك الذين اغتالوهم، وسوف يسألون يوم النشور. وتزوج الشيخ البوطي وهو في الثامنة عشرة، وله من الأولاد ستة ذكور وبنت واحدة، وكان مولعاً في تلك الفترة بقراءة الكتب الأدبية لأدباء معاصرين وسابقين مثل مصطفى صادق الرافعي والجاحظ والعقاد والمازني، إضافة إلى مقامات الحريري، وفي عام 1952م ظهرت أولى أعماله وهي مقالة بعنوان «أمام المرآة»، نشرتها له مجلة «التمدن الإسلامي»، ثم تبعتها في المجلة ذاتها مقالات أخرى، لكن باكورة أعماله الأدبية كانت قصة ترجمها من اللغة الكردية التي كان يجيد التحدث بها وعرفت باسمها الكردي «ممو زين»، وهي قصة تمثل الحب العفيف والعاطفة الملتهبة والوفاء النادر، وقد أفرغها المترجم في بيان عربي مشرق وبنيان قصصي جذاب، ومازالت طبعاتها الكثيرة تتوالى، والشيخ البوطي رحمه الله كان عالماً علامة، وكان يواظب على الحضور الدائم في كل المحافل العلمية والفكرية التي تطرح فيها على بساط البحث والمناقشة أهم وأخطر القضايا التي تشغل الحيز الأكبر من التفكير الإنساني، والتي لها الدور الأبلغ في توجيه المجتمعات الإنسانة فكرياً وعلمياً. الشيخ البوطي أيضاً كان كاتباً إسلامياً لامعاً مهتماً بالأدب واللغة العربية التي كان يجيدها وبارعاً فيها، وقد كتب خاطرة بعنوان «قلب كسير» ومما جاء فيها «في ليلة طويلة ظلماء، ساقني الكرب إلى أعتاب الخالق جل جلاله، وهناك لقيت من الأنس أضعاف ما أملته من دنيا الناس وشؤونهم. فغمرتني نشوة الذل لقيّوم السماوات والأرض، وفاض القلب بهذه النجوى، وكيف يكون كسيراً وأنت النور الذي يشعّ في حناياه والأمل الذي يخفق به ويعيش عليه، بل كيف لا يكون كسيراً وقد ذلّ لعظيم سلطانك، ودان لسابق حكمِك وقضائك بلائي به محض العبودية لك، والتجاؤه إليك، محض رعاية وتوفيق منك. فلأيّهما أدين بالشكر، وعلى أيهما أبذل التحمّل والصبر، وأقسى ما في كلّ منهما نعمة منك لا أستحقّها، ويد جميلة لا قبَل لي بأداء شكرها. مولاي! لئن نسيتْني أفراحُ الدنيا، فإن عزائي بما فاتني منها عظيم ما ألقاه من الأنس بذاتك، والأملِ في رحمتك. ولئن أبكتْني صروف الليالي والأيام فإن عزائي معها بكائي على أعتاب لطفك وبين يدي ربوبيتك. وشتان بين دموع اعتصرتْها الآلام من العيون، ودموع استجابتْ لذلّ العبودية فانحدرت تبكي لمن خلق الوجد في القلوب، وأودع الحرقة في الدموع. مولاي! أأشكرك على ما أوليتني من نعمة الصبر على البلاء، أم أشكرك على ما أوليتني بذلك من سعادة القرب إليك ولذّة المناجاة لك؟.. جلّت حكمتك يا سيدي، وصدق ما قاله الواصلون: «إنّ في كلّ جلال جمالاً وفي كل ابتلاء منّة ولطفاً». وهل في اللطف ما هو أعظم من انصراف العبد إليك، وتحوله عن الأغيار إلى ملازمة بابك الكريم، إلهي! أي شيء يوحشني من الدنيا فقْده بعد أن رأيتك أمامي، وأنست بك في سري وجهري؟!. بل أية منّة منك أعظم وأجلّ من أن تُزيح عني حجاباً كان قد شغلني عنك، فشُغلتُ بك عنه بما أكرمتَني من الاعتصام بك والتضرع إليك؟.. أجل يا سيدي... لقد ذهب موسى ليقتبس ناراً، فعوّضتَه عن ذلك بعظيم نجواك!.. نعم، إن القلب قد يتألم ولكن ما ألذَّ الألَم الذي يذيق صاحبه طعم العبودية لك، وحلاوة الرضاء بحُكمك! ولكني يا مولاي، أجدني قد تطاولتُ بهذا القول إلى مكانة ليس لي شرف الدنوّ إليها. وما أنا وحقك في المذلة ممن يَحسُن بهم أن يقولوا: «عذِّبْ بما شئتَ، غيرِ البُعد عنك» إنني يا مولاي عبد إحسانك وفضلك، أفرّ من كل ضائقة إلى ظلال رحمتك، وأرتمي هارباً من كل بلاء أمام أعتاب جودك. حسبي أن أتعلق في الخوف من كل كرب بنجوى أحبِّ خلقك إليك: «ولكن عافيتك أوسع لي». وبدعاء نبيك الكليم: رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ «القصص: 24»، وبنداء رسولك الصابر الأواب لربِّه: أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ «الأنبياء:83». وكيف لا أتعلق بفضلك وأطمع بعافيتك، وأنت الذي لم تُقصِني عن مائدة إحسانك في يوم من حياتي، ولم تقطع عني وابل رحمتك في لحظة من عمري؟! أم كيف أَركن إلى البؤس والضيق، وأنت الذي عوّدتَني العطاء، ونشّأتني في ظلال الرخاء؟! أعوذ برحمتك التي غمرتَ بها وجودي كله، من أن تبدّل بها شدة لا قبل لي بها، أو بلاء لا صبر لي عليه. أيتها الرياض النّضرة! أيتها الورود الناعمة الضاحكة! أيتها الروائح المسكرة العبقة! لَشدَّ مَا يطربني وينعشني أن أجدني غريقاً فيما بينكم، ملفوفاً بتَحنانكم، ولكني ما انتعشت منكم بشيء أكثر من الأمل! أقرأه في تماوج العشب مع الرياح السارية، وأجده في انبعاث روائح منعشة شتى من تلك الورود النضرة، وأسمعه من حفيف الأغصان وتصفيق أوراقها الرقيقة الخضرة. أجل.. إنه الأمل الذي صورتْه يد الخلاّق، إذ أنبَتَكم من طوايا أرض مظلمةٍ جامدة، أبدع حياة الأرض من موتها، وأخرج زينة الدنيا من كآبتها، وأظهر أرقّ ما في الكون من قسوته وصلابته! يا من استوى في خلقه الأملُ واليأس، وتلاقى في تقديره الموت مع الحياة!. يا مُنشئ النور من الظلام، ومبدع الفرح من الأحزان! يا من هذا سرّ لطفك وطعم إحسانك وحنانك؟ يا إلهي! كيف أيأس إذاً وأنت ربّي، أم كيف لا يُنعشني الأمل وأنت حسبي؟ رحمك الله رحمة واسعة. ٭ كاتب وصحافي سوداني مقيم في الدوحة.