«لا يمكن حل المشكلات الموجودة اليوم بنفس مستوى التفكير الذي أدى إلى خلقها» عالم الفيزياء: البرت اينشتاين (1) تتسارع الأحداث في ساحة الوطن على نحو يربك القراءة المتأنية في نتائجها وقبل ذلك في دوافعها، على الرغم من وضوح الوقائع التي يمتد حضورها، إلى (حالة الوحدة السياسية) لهذا البلد في عام 1821: (السودان دولة مضطربة) هذه حقيقة فرضتها الظروف التاريخية على الواقع السياسي آنذاك، ومازال الاضطراب قائماً، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً ولقد أتيح للبروفيسور بيتر وود وارد، أن يقدم في كلية الدراسات الشرقية والأفريقية بجامعة لندن في نوفمبر 1988 محاضرة بعنوان عبر تماماً عن الأزمة في وقتها هو: (هل السودان في حالة احتضار)؟ ومازالت أسباب التآكل قائمة. ٭ صراع النخب المدنية والعسكرية، على السلطة والثروة تم خصماً وفي كل الأحوال على (الاستقرار السياسي) باسم الواجهات الفكرية التي لم تخرج في كلياتها عن (الايدلوجيا والليبرالية) وفي كل الأحوال تراجع الوطن وضاع المواطن وتلاشت الفكرة، ليبدو في أفق الصراع دراما أكل القطط بنيها (اقرأ على سبيل المثال مذكرات زين العابدين محمد أحمد ع. القادر - وتأمل فيما بعد - صراعات الاسلاميين)، ولقد أكد تاريخنا السياسي (على الأقل بعد 1956، أن الطامة تجئ حين تحدث الفجوة بين النظرية والواقع وتأخذ الفجوة في الاتساع تصل إلى درجة التضاد والتناقض حين لا يطمئن للناس عيش وتفقد الفطرة طبيعتها - ويورد البروفيسور زكي نجيب محمود، في هذا الشأن استخلاصاً ذكياً (ص30) "حينها يصبح أحد أمرين حتماً: اما أن نعدل من المكتوب لمكتوب جديد يلائم الواقع الجديد وتلك هي (طبيعة الأشياء) واما أن تحاول ارجاع الواقع الجديد إلى الوراء ليعود إلى ملائمته القديمة مع ما هو مسطور في الكتب" فإذا كانت الأخيرة - فهو تراجع واحتضار وشيك دون شك - أما الأولى فهي الخيار الذي يتيح الأمل أو بصيصا منه. ٭ ظل الاقتصاد - منذ حكر النخب المدنية والعسكرية للبلاد غولاً مارداً يشكل وبصورة مستمرة العنصر الأساسي في تآكل البني الاجتماعية، ومظاهر سقوطها الأخلاقي والفكري: النزوح القسري وغير القسري إلى العاصمة القومية - وما يترتب على ذلك من نتائج وخيمة (تعاني منها الخرطوم اليوم بالفعل) وما يسببه الجفاف والتصحر من مجاعات وغوائل، حتى يشكل (الفقر) عنواناً كبيراً، للجرائم التي يحركها الغبن الاجتماعي: الاقتصاد لم يجد بعد من يروضه فمازال جامحاً ومازال قاسياً يردي الفقراء في تلذذ غريب ويملي على حياة الناس، أنماطاً من السلوك الرخيص، لا يقبلها دين ولا يرضاها عقل أو وجدان، ان إمعان النظر الثاقب في مظاهر السياسة وتداعياتها يقود إلى القراءة الأكثر تفسيراً: فالهوية والانتماء في بلد كالسودان تحتاج إلى خطاب يسع التنوع الديني والاثني والفكري، وهو خطاب قابل ودون شك للتكامل مع المذاهب والايدلوجيات السياسية المتنافسة كاللبرالية أو الاشتراكية أو الاسلامية. والاشكالية الوحيدة، تتعلق بسلم ترتيب الاولويات والمقصود في كل الأحوال هو امكان التعايش بديلاً للاستبعاد والاحلال ولربما يقودنا واقع التجربة السياسية (1956-2013) إلى استيعاب درس مفيد جداً: ان ابعاد الآخر وفي كل الأحوال يخضع للمقولة العلمية المعروفة «لكل فعل رد فعل يماثله في القوة ومضاد له في الاتجاه، وتقود القراءة إلى فرضيات رئيسة وهو ما أدى للانقلابات والثورات الشهيرة - للسودان خصوصيات وطنية تعلقت بحكم التعدد - بالدين واللغة والعرف ، وهي مصدر غنى للوحدة وليس للتشرد أو الانقسام وغير قابلة للتوظيف في المناورات السياسية والتحالفات الوقتية التي قد تفرضها ظروف الصراع الداخلي، وأي خروج عن ذلك يعني اشكالاً ومشكلة وأزمة وقضية مما يمثل تدخلاً للنفوذ الاقليمي والدولي (نموذج صراع الحرب الأهلية مع الجنوب وما ترتب عليه اتفاق نيفاشا (2005 من نتائج الانفصال) وثلاثية النيل الأزرق وجنوب كردفان وأبيي وإلى حد كبير اتفاقيتي أبوجا 2006 وأسمرا 2006. - الوحدة - وبالضرورة الفكر، يمثلان هدفين استراتيجيين، لا يمكن تحقيقهما إلا من خلال الاختيار بالارادة الحرة والاقتناع، دون اكراه أو املاء: وحدة الوطن لا تلغى أو تنسف الخصوصيات الثقافية أو العرقية أو الدينية، وبوسع شعب السودان العريق ان يعيش بسهولة وسلاسة وفي تناغم مع هوياته المتعددة على الرغم من اعتراف بثقافة مشتركة لا تتسلط أو تنهي غيرها في أوجه الانتماء المشروع. - ان الخلافات بين (النخب المدنية والعسكرية) على حكم السودان انتهت في أغلبها إلى الصدام، سواء في داخلها أو مع المعارضة ،وكان ذلك سبباً مباشراً للنفوذ الأجنبي سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة كما كان سبباً لهدر الأموال العامة وفقدان الأرواح وشل القدرات، واتاحت لذوي النفوس الضعيفة الاعتداء الرخيص على أموال الدولة فكان الانفلات المالي كما كان الانفلات الاداري وتشكل كل جماعة ضغط محورها السياسي أو الاقتصادي أو القبلي أو الجهوي وتنهار المؤسسة تماماً: سجل تاريخنا مؤشراً خطيراً على مسارنا السياسي: - الجزر المعزولة - إلا - من نقاط تماس أو ارتكاز ثانوية في داخل الدولة. - غابت المساءلة واستشرى الفساد مستبيحاً كل قيم الدين واعراف المجتمع والفساد سبب مباشر للتآكل السياسي والاقتصادي والاجتماع. - ازداد - صراع الهويات - ودخل هذا الصراع في دائرة الاستقواء بالأجنبي. - تداخل الخاص - مع العام - لدرجة الاندغام، فكان الاغواء وكانت الفتنة. - يموت الناس جوعاً ومرضاً وجهلاً فعائد الكم يصادر مضمون المسؤولية على الرغم من لافتات كثيرة - سواء في اجهزة الدولة أو حتى منظومات المجتمع المدني - تعلن عن التكافل فيما يتحول العلاج إلى سلعة باهظة الثمن ويتحول التعليم إلى عنقاء، وإذا كان الحكم الموضوعي هو نهج التحليل فاننا نثبت في المقابل ايجاباً لا ينكره إلا مكابر ولربما اختلف النظر بسبب الأولويات ولكن السلب طغى إذ مس المواطن ومس الوطن. (3) الحوار الجامع المطلوب - هو ضرورة دينية وأخلاقية، ومن أهم مقتضيات نجاحه الخطوات الجادة باتجاه تهيئة المناخ اللازم لمساره، وقد بدأت الحكومة بذلك حين أطلقت سراح المعتقلين السياسيين ويلزم في هذا السياق عدد من الاجراءات الضرورية: ٭ تحديد أطراف الحوار بدقة. ٭ تحديد نقاط الحوار بدقة (بالاتفاق المسبق). ٭ تحديد كل طرف لمن يمثله (بطريقة مؤسسية). ٭ تحديد لجان متخصصة للنظر في نقاط النزاع. ٭ جدولة - ما يتم الاتفاق عليه - من برامج للتنفيذ. ٭ تقديم كل طرف لرؤاه في النقاط محل الحوار. ويمثل كل ذلك عندما تتبلور الرؤى عن اتفاق أخلاقي - يمثل المرجعية أو العقد أو الميثاق الذي يسبق الدستور - ويقدم على أساسه (يمكن الاستفادة من تجربة الميثاق الذي أعقب ثورة اكتوبر 1964 أو النظر إلى تجربة مؤتمر المائدة المستديرة - فيما تعلق آنذاك بمشكلة الجنوب أو تجربة مؤتمر الحوار الوطني - حول قضايا السلام ( 18 سبتمبر - 21 اكتوبر 1989) - ويهم جداً في هذا الاطار أن تتولى دار الوثائق المركزية - تحضير كل الوثائق التي تتعلق بمسألة الحوار أو استدعاء مشروع المؤتمر الدستوري الذي كان قد اقترح لانعقاده سبتمبر 1989. (64) المفترض، أن الحوار الجامع، ينطلق إلى هدف استراتيجي لا مجال فيه اطلاقاً لأي نوع من أنواع التاكتيك أو المناورات: الحوار شحنة أخلاقية تلمست الخروج من أزمة غياب التوازنات السياسية والاقتصادية والاجتماعية إلى النظر الدقيق لرأي الآخر واعمال فضيلة الاستخلاص العلمي وصولاً للوطن المعافى من التداعيات الماثلة. ولقد تبدو العناوين المفتوحة أسلوباً جيداً يفتح شهية المتحاورين إلى كل دقائق الموضوع وربما كانت موضوعات ثلاثة، لا اسقاطاتها الفرعية هي المدخل الاساسي للحوار. ٭ ضرورة الاصلاح السياسي والاداري والمقصود هو النظر في نتائج الممارسة السياسية واستخلاص مؤشرات القصور ونتائجها على العملية السياسية ويقوم ذلك ابتداءً على نقد تجربة الأداء السياسي (1956-2013) - هل ارتبطت القوى السياسية (وهي تحكم وهي تعارض) بفكرها المرجعي - هل عبرت تلك القوى بالفعل عن أماني وتطلعات المجتمع بأكمله - أم انها اكتفت بتزييف ارادته، وهنا لابد من الاشارة إلى: - المرجعية الأخلاقية والايدلوجية - بمعنى اقتران الشعار بالواقع حتى لا تبدو الفجوة - تبريراً بتجاوز الأخلاق إلى الاعتساف. - ان تحقيق المشروع الديمقراطي - لا يتعلق فقط بالدولة وأساليبها في ممارسة السلطة ولكن ينسحب وبصورة مباشرة على الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني: الممارسة الناضجة والمسؤولية هي صمام الأمان. - المجتمع المدني شريك للدولة وليس مضاداً لها - وهي تكمله - والمنظومة تصب في النهاية في خانة الوطن والمواطن. ٭ خضوع الدولة بأجهزتها ومؤسساتها لسيادة حكم القانون، لأن القانون الذي تضعه سلطة التشريع بالدولة هو صمام الأمان والتوازن لتحقيق العدل والتوازن والاستقرار سواء بين الافراد بعضهم البعض أو بين الدولة والمحكومين. ٭ تقوم أجهزة ومؤسسات الدولة على ضوابط موضوعية، لا مجال فيها للشخصية أو الانحياز بكل أنواعه فمهامها وواجباتها عمل مهني يخضع للكفاءة وللخبرة، ومعايير المساواة والعدالة وأي خروج عن ذلك يجعل في العدالة عرجاً والمساواة تخبطاً ويتيح للأداء سمساراً، فيغدو القرار مضغة تلوكها الألسن ويفقد المال عموميته حين يستقر في بطون التماسيح. ٭ ان سلاسة الانتقال السلمي للسلطة تقوم على الفهم الناضج للعملية السياسية وهي ادراك مشترك للقوى السياسية والاجتماعية ومنظمات المجتمع المدني ولا تقوم أبداً على النماذج الجاهزة أو التصورات العرقية والدموية، انها مشروع توافقي تفرضه التجربة التاريخية والخبرة التاريخية على أرض الواقع والخروج عن ذلك يعبر عن هزيمة داخلية تؤدي إلى نتائج خطيرة في بناء الوطن: وان القوى السياسية والاجتماعية ومنظمات المجتمع المدني مطالبة في هذا السياق بتحرير عقولها وتهذيب خطابها السياسي والفكري من درن الجهل بأبجديات العملية السياسية، التي لم تعد نمطاً مزاجياً أو اندفاعاً أهوج. ٭ ان قضية الصراع حول السلطة والثروة مسألة معقدة، مازلنا نعاني من نتائج تداعياتها - فباسمها - وعلى مدى حرب أهلية طويلة الأمد، أكلت من أخضر البلاد ودمرت الكثير من مقوماتها - انتهى الصراع - وباستقواء خارجي (معنوي ومادي) قرر الجنوب الانفصال ومازالت أبيي وجنوب كردفان والنيل الأزرق وباسم قطاع الشمال يمارسون الصدام المسلح.. وتبدو دعوة الحوار ترياقاً جيداً. ٭ صار الوهن السياسي يدفع أحزابنا السياسية بالشيخوخة ويرمي (الزهايمر) المبكر بمظاهره على منظمات المجتمع المدني على الرغم من حداثة دورها، ولقد يطرح ذلك شيئاً عن ضرورة التجديد الفكري والتنظيمي والاعتراف الصريح والشجاعة بسيطرة الشيوخ على مفاصل العملية السياسية والفكرية دون ظهور جيل جديد يدفع بالتجربة إلى افاق جديدة. ٭ هل تنقطع الانتخابات كسند مشروع لممارسة السلطة السياسية عن حشود القبيلة والطائفة: ان استدعاء تجربة الانتخابات في السودان يؤكد على مثل هذا النفوذ الراجح. ولقد يعني ذلك النظر في القانون النافذ الذي يحكم الانتخابات وامعان التدبر في فضاءات الوعي والحضر والفضاءات التي مازالت قيد الأسر القبلي والطائفي. ٭ ان ممارسة أجهزة الدولة لسلطاتها وواجباتها باتجاه تحقيق السياسة العامة يشوبها الكثير من اللغط، فواقع الممارسة يطيح بديمقراطية القرار ويشاركه المؤسسة ويبدو مهماً ونحن ندلف إلى حوار تاريخي أن ننظر في ممارسات أجهزة الدولة التي انبثقت في كثير منها بؤر الفساد وعمليات الاستنزاف التي حولت بلادنا إلى مؤخرة قوائم ترتيب البلاد في مجالات التنمية وممارسة الحريات وفرص التعليم والعلاج. ٭ ان توسيع آليات المشاركة في الحوار يعني العمل على ادماج أكبر قدر ممكن من المواطنين في تنظيماتهم المختلفة في عملية مواجهة أسئلة الاصلاح والوقاحة: أسئلة تطوير التجربة السياسية وتطوير آليات المجتمع في طرح تصوراته وتنفيذ برامجه وخططه في اطار من الحرية والعدل والمساواة، وهو ما يحيل الدولة إلى مؤسسة هي أكبر المؤسسات فيما انتهى الفقه الدستوري الفرنسي. ملاحظات غير عابرة: ٭ تتفق عناوين الحوار المقترحة تماماً - مع الركائز المفترضة للدستور المقبل: - دستور محل التراضي والتوافق. - دولة القانون التي تستند إلى الحكم الراشد وإلى الديمقراطية الراشدة. - الفصل بين السلطات. - الرقابة القضائية من خلال قضاء اداري مستقل على أعمال وتصرفات الجهاز التنفيذي. - الحقوق والحريات العامة. - الرقابة على مشروعية القوانين. - النظر في اعادة هيكلة النظام الاتحادي وفقاً لمعايير موضوعية. - السياسة الخارجية المعتدلة القائمة على المصالح المتبادلة. - ضبط الاقتصاد - بما يحقق استقرار الأسعار في مواجهة الفوضى العارمة. - ميثاق للانتقال الديمقراطي وتشمل (نظام الحكم وشكل الدولة والحقوق والحريات العامة). - ميثاق للعدالة الانتقالية. - لا خطوط حمراء في الحوار - إلا ما تعلق بأمن البلاد القومي (المعلومات الخطط). - لماذا لا يبتدر (الاتحاديون) الحوار في جامعاتهم - ليكون ثمة رصيد فكري - يعين أطراف الحوار - على بدايات واعدة. - الوعي بالحوار يستوجب القناعة بالأهداف ومعرفة المنهج والأساليب ومعرفة الصعوبات التي يمكن أن تواجه نجاح الحوار والعمل على تفاديها. - ان قيماً أخلاقية ودينية يلزم أن توطر الحوار. - قيمة الصدق - في مواجهة الكذب بكل اشكاله وألوانه. - قيمة الأمانة وتحمل المسؤولية - بديلاً لللامبالاة والاستهتار. - قيمة الاخاء في مواجهة التنافر والعداوات والمرارات. ٭ الاتفاق على لجنة قومية - لا تتجاوز العشرة (لجنة العشرة) من أهل التخصص العلمي والحنكة السياسية - لتحديد نقاط الحوار محل الخلاف - ولتعرض وبعد وضع الخيارات، لما يمكن أن يكون جمعية عمومية لمؤتمر الحوار الجامع.