حاج حمد عباس شاعر الأزمات إن كانت نفسية أو اجتماعية، وبرغم ذلك كان محباً للوطن عبر عين تشاهد بعمق وأسى، بل وأسف. ونجد ذلك في مرارة مقاطعه الشعرية: آه تمر الفصول سراعا كلما صحت أهواك يا وطني قطعني زماني من خلاف وقد كان حاج حمد عميقاً في أشعاره، وذلك انطلاقا من فهمه لتاريخ الحضارة النوبية القديمة بما فيها من ممالك وفن ونقوش ورسوم وأساطير، والتفاهم المتناغم الذي أحدثه حاج حمد داخل تجربته للتاريخ المسيحي والاسلامي في السودان، وينطلق دائما من الاسطورة في الحضارة النوبية، وهي في داخله روحا ولسانا وعرقا، ولديه مفردات غنية في ذلك، ومنها «نوباتيا» «التابوت» و«المدفن» و«الحجارة» و«الثور» و«الساقية» و «الشواهد» و«القبور» و«النعش» و«الشراع» و«النهر» و«القارب».. ويقول: أبحث عن قمر نوبي فيه تتمدد أركاني وتغيب الريح ثم هجرة حاج حمد الجسدية والذهنية إلى منطقة مختلفة تماماً عن النوبة، إلى عطبرة بنمط حياتها المتداخل ومقدرته على التجانس في هذا العالم الذي وجده في عطبرة من حداثة، حيث أن عطبرة في حد ذاتها مجموعة مكونات سياسية واجتماعية وفكرية، فكان فيها شاهد عصر على ما يدور بعين مراقبة... مراقبة دقيقة، وذلك منذ صغر سنه، حيث شاءت الاقدار ان يكون بيت أسرته امام ميدان نادي النسر، وما لميدان النسر من تشكيل خريطة الحياة السياسية أثناء الصراع ضد المستعمر.. وكيف أن والدته كانت تضعه على الشباك وهو صغير في مواجهة ميدان النسر، وانطباع ذلك كله داخل استديو ذهنه الوقاد. ونجد أن حاج حمد اطلع على مجموعة من التجارب الشعرية العالمية، أمثال بريخت وبوشكين، ونجد أن هناك وجه شبه بين حاج حمد وبوشكين الروسي الاريتري من قبل جده ابراهيم «أبرهة»، وقد كان حاج حمد محباً لعدد من الشعراء منهم محمد مهدي الجواهري وبدر شاكر السيَّاب وعبد الله البردوني، والبردوني كانت له مكانة خاصة في عالم حاج حمد عباس الشعري، ويحب أشعار أمل دنقل ونجيب سرور وصلاح عبد الصبور.. وقد كان حاج حمد بحراً ينهل منه أصحاب التوجهات الشعربة من أصدقائه وتلامذته، لأن الزمن الشعري عنده متواصل بتواصل الأجيال، وقد كان حريصاً على أن يسمع صوته للآخرين، واتذكر أشعاره ونحن نجلس على رصيف السكة الحديد بالدامر بالقرب من منزله، وهو يسرد خاطبه الشعري في فضاءات الدامر الجميلة، ومنها هذا الكنز الشعري: أقبلي أفتحي الأبواب رديني حياة تجري مع الريح رخاء أرجعي الأشواق في موالك الناري أنفاسا وأرضا وسماء ادفئيني فهنا البرد مداري طويل وتساريحي على الأنجم صارت من غناء البؤساء أنت يا سيدة الأفلاك مولاتي التي علمتني الحب في ليل جنوني وجفتني ألف عام ثم عادت والتقت بي في حقول الكستناء وأنا بين حدودي لم أعد استنهض الأحلام صيفاً أو شتاء وكتابة حاج حمد عباس للقصيدة تأتي محملة بكل هذا الزخم الزاخر بالمكونات الفريدة والعميقة، حيث إنه لا يكتب ليكون شاعراً، ولم يكن ذلك في حسبانه «أن يكون شاعراً»، إنما يكتب ليخرج من داخله إلى خارجه، وليس في حسبانه وطن، إنما وطنه الذي يكتب عنه هو الإنسانية.. وسلام عليك في الخالدين، ونأمل من أسرتك أن تنشر دواوينك إن كان ديوان «ساقية الأصداء والقمر» أو ديوان «النقش على حجر بارد» أو تحفتك الرائعة «القرابين والمطر» أو «المدينة المهجورة» في ديوان «البحر والصياد والمدينة المهجورة» .. فلك الرحمة والمغفرة والجنَّة بإذن الله. ونسأل الله أن ترى أعمالك النور.. «نواصل»