انفض سامر مؤتمر المانحين الذي انعقد بالدوحة يومي 7 - 8 أبريل الجاري، ولو فكرنا بصورة تقليدية ومباشرة فان نتيجة المؤتمر صفر كبير وذلك بنظرة مباشرة الى المبلغ الذي انتهت اليه تعهدات المانحين، وسبحان الله هو أيضا يدور حول البليونات الأربعة التي درجت مؤتمرات المانحين التوقف عندها بغض النظر عن ظرفي الزمان والمكان والاحتياجات والخطط المعدة في انتظار المنح، والمفارقة الغريبة هذه المرة أن ثلثي المبلغ المعلن من المانحين هو من الدولة الممنوحة نفسها، كيف تمنح الدولة نفسها وعلي الطريقة المصرية " حدي يفهمني يا جدعان" ما هي الحكمة في أن يدرج نصيب حكومة السودان وكأنه نتاج المؤتمر بيد أنه منصوص عليه في وثيقة الدوحة لسلام دارفور قبل أعوام، ومبلغ الحكومة بالتفصيل اثنين مليار وستمائة وخمسين مليون دولار فاذا ما تم طرحه من المبلغ الكلي ثلاثة مليار وستمائة وتسعة وستين مليون حصيلة المؤتمر، يتبقى فقط مليار وستة وأربعين مليونا، واذا ما طُرحت مساهمة دولة قطر المضيفة والمنظمة للمؤتمر، يتبقى فقط نصف مليار وبعض الفتات، وقطر هنا تعدل العالم كله ربما تيمناً بوالد سيدنا مصعب بن عمير رضي الله الذي كان يلقب بالعِدل "بكسر العين" لأنه كان يكسو الكعبة عاماً وقريش كلها تكسوها عاماً ويا جماعة الخير تبقى كل هذه اللمّة و"الهيلمانة" في نصف مليار. ما الحكمة في تضمين حصة الحكومة السودانية في المؤتمر ربما لمداراة قلة المبلغ، حيث كان ممكناً لحكومة السودان لو أوتيت شيئاً من الحصافة أن تفي بالتزامها وتظهر بعض المصداقية أمام شعبها وأهل دارفور بشكل أخص بدلاً من أن تتعهد من جديد وهي صاغرة تحت العصا الغليظة التي يرفعها في وجهها ما يسمى بالمجتمع الدولي ودون أن تضطر للخضوع لاملاءات الدول الغربية واراقة الكثير من ماء الوجه أمام العين الحمراء لأمريكا وصويحباتها وتقديم الكثير جداً من التنازلات وفقاً لأجندة الذين خلعوا على أنفسهم لقب مانحين دون أن يمنحوا شيئاً يذكر، وهم أجندتهم معلومة وأهمها اطلاق يد المنظمات في الاقليم، المنظمات التي شكلت في يوم من الأيام امبراطورية يخضع لها الكل، وأجندتها من غير تعميم معلومة وهي مخترقة بكل أنواع الجواسيس من استخبارات الدول المعادية ولكن "ناس تخاف ما تختشيش" هذا لا يعني تأييد الحكومة في مواقفها بعرقلة العمل الانساني. هذا النصف مليار الذي تناهشته دول العالم الأخرى حتى البرازيل أسهمت فيه بثلاثمائة ألف دولار أمريكي طبعاً، مثل هذا المبلغ تصرفه اليابان كل أسبوعين تقريباً في مشروعات اجتماعية في القرى والدساكر في بناء المدارس وحفر الآبار وتأهيل شبكات المياه، وغير ذلك فيما ينفع الناس، هل يستحق النصف مليار هذا أن يعقد له مؤتمر بهذا الحجم وقد صُرفت عليه حتماً مبالغ مهولة، فمكون الحكومة السودانية معلوم، ودولة قطر يمكن أن تعلن مساهمتها في اجتماع صغير أو احتفال في نيالا أو الفاشر، أو في اطار العلاقات الثنائية المتنامية بين الدولتين، ودولة قطر أصلاً لم تنتظر العالم ومشروعاتها التنموية في دارفور قد بدأت فعلاً رغم عرقلة أصحاب أجندة استمرار الحرب . أما بقية الدول فسوف تدفع مقدار ما تعهدت وربما أكثر من خلال منظماتها فهي لا يمكن أن تنسحب من الساحة فلها مصلحة مباشرة من وجود تلك المنظمات في جمع المعلومات وتنفيذ الأجندة الخفية . ما تقدم هو مجمل حيثيات الذين قالوا بفشل المؤتمر وهو بالطبع نوع من التحليل الكسول الذي ينظر الى المؤتمر من خلال ما حقق من أرقام تتعهد بها الدول وكأن هذه الدول تعودت أن تفي بما تتعهد به بل يكاد الأمر يكون سنة ماضية في مؤتمرات المانحين أن تتعهد الدول وهي تعلم أنها لن تفي، والتجارب في هذا متعددة وأقربها مؤتمر أوسلو الذي كانت حصيلته أربعة مليارات ولم تُتحصل نسبة تذكر، فما أسهل وسائل "اللولوة" والتملُّص، وحكومتنا السَنية لا تقصر في التبرع بالأسباب تجعلها على قارعة الطريق تلتقطها السابلة . ومن غير المقولة النمطية أن مجرد انعقاد المؤتمر في هذه الظروف يعتبر نجاحاً، حقيقة أن المؤتمر قد حقق نجاحاً كبيراً في أكثر من مجال وأول وأهم هذه النجاحات هو اعتماد وثيقة الدوحة مدخلاً أساسياً للسلام في دارفور واعتماد الحل السلمي والحوار آلية أساسية ووحيدة لحل الصراع في الاقليم، لما نصت عليه افتتاحية البيان الختامي. "نحن المشاركين في المؤتمر الدولي للمانحين لاعادة الاعمار والتنمية في دارفور والذي استضافته دولة قطر خلال الفترة من 7- 8 أبريل 2013م. وايمانا منا بأن وثيقة الدوحة للسلام في دارفور هي الاطار الأساسي لعملية السلام وجهود التنمية في دارفور.وادراكا منا بأن الحل الناجع لأزمة دارفور يكون عبر الحوار السلمي المفضي الى سلام مستدام وأن دارفور الآن وبعد البدء في تنفيذ وثيقة الدوحة للسلام في دارفور تحتاج الى الانتقال من الاغاثة الانسانية الى الانعاش المبكر واعادة الاعمار والتنمية" وهذا يضع واجباً سياسياً وأخلاقياً على الدول التي تمثل محضناً آمناً للحركات المسلحة غير الموقعة على وثيقة الدوحة، تشجيعها أو الضغط عليها للسير في طريق السلام. ثانياً هذا الاعتراف الدولي الواسع الذي حُظيت به السلطة الاقليمية، فقد قام رئيس السلطة بجولة واسعة وفي كل دولة تم استقباله وأتيحت له فرص مقابلة المسئولين الكبار ثم تم لقاؤه ببان كي مون، هذه اللقاءات والخبرة المتراكمة لفريق السلطة تجعل من د. التيجاني السيسي رجل دولة بكل المعايير. تنتظر حكومة السودان الآن خطوة مهمة وأساسية وهي حل معضلة الاشتباك بين السلطة والولاة في دارفور خصوصاً والي شمال دارفور الذي ناصب السلطة العداء منذ اليوم الأول، وآن الوقت لحسم الأمر دستوريا وأن يكون الوالي من أجهزة السلطة اذ سيبدو غريباً أن يتبع الوالي للسلطة المركزية وهناك سلطة اقليمية، والحل هنا ليس مستعصياً اذا ما اُتبعت الوصفة التي قدمها الأستاذ عبد الله آدم خاطر السبت الماضي في مقالته "مؤتمر الدوحة .. المانحون مع من؟" حيث قال: " ان وثيقة الدوحة تُحظى بدعم المجتمع المدني والاقليمي والدولي، أنها بنت رؤية التعافي والانعاش المبكر واعادة التعمير في سياقاتها التنموية، على المواطنة وعلى القاعدة المحلية، حيث اتفقت الأطراف أن الحكم المحلي ضروري من أجل الوفاء بالتزام تحقيق سيادة الشعب، والنزول بالسلطة الى القواعد الشعبية، وضمان مشاركة المواطنين الفاعلة في الحكم، وتعزيز التنمية، وجعل ادارة الشؤون العامة ذات مردود اقتصادي أعلى. لقد أضحت الفرصة مواتية الآن، أن يعلو صوت المواطن الدارفوري، وبوسائله المدنية، ومنظماته التنموية الثقافية منها والاقتصادية، لتلتقي ارادته مع المانحين عبر نظم التمويل والهياكل الحاكمة لاستراتيجية دارفور التنموية ومن خلال الأجسام الضرورية للمحاسبة والمتابعة والتدريب ورفع القدرات" "انتهى" والرؤية هنا واضحة يجب أن يُرد الأمر الى أهل دارفور وارادتهم وفي ذلك فليتنافس المتنافسون. واجب آخر يقع على الحكومة السودانية في اطار عملية نزع السلاح التي يجب أن تتم بكل جدية وهو حسم السلاح الذي وزعته في وقت ما على بعض القبائل الموالية لها، هذا السلاح "البندقية الميري كما يسمونها" أصبح يحمله بعض المتفلتين الذين يمكن أن يقتلوا الشخص لمجرد الاستيلاء على الموبايل ان كان من نوع "غلاكسي أو آي فون". التنمية يجب ألا تتوقف في انتظار السلام الشامل لأن هناك من أجندته اسقاط النظام ويريد أن يأخذ دارفور وأهلها رهينة، وهناك نماذج ناجحة كتلك التي في "كليمندو" المجمع الذي أقامه رجل الأعمال صديق آدم عبد الله، وما تقوم به اليابان من مشروعات صغيرة وما تنفذه الآن دولة قطر في ولايات دارفور الخمس، نعم سوف يهاجم أصحاب أجندة استمرار الحرب هذه المشروعات، وعليه يجب حمايتها وللمزيد من الأمن يجب أن ينفذ هذه المشروعات ما أمكن أهل دارفور أنفسهم، ربما يرعوي هؤلاء من مهاجمة أهلهم وان فعلوا تدينهم مجتمعاتهم، والذي يريد اسقاط الحكومة فلديها مؤسساتها العسكرية بما في ذلك القيادة العامة فليهاجمها كيف شاء. يبقى تحدي ادارة هذه الأموال فنصف المليار دولار ليست بالمبلغ الصغير ان أُحسنت ادارته، ود. السيسي ذو خبرة في هذا المجال، والمثير للقلق لم يرد ذكر لبنك تنمية دارفور في البيان الختامي، يجب وضع مؤسسات صارمة وشفافة لادارة الأموال، والآلية برئاسة قطر هي آلية سياسية لن تكون مباشرة وعليه يجب العودة الى فكرة المصارف والأفضل أن يكونوا أكثر من مصرف، نعم نصف مليار هو تعهد قطر ولعله الوحيد المضمون فالآخرون مراوغون الا ما رحم ربي وان صدقوا فستذهب مساهماتهم الى منظماتهم وما يعرف بشركاء التنمية، وورشة العمل التي نظمها برنامج الأممالمتحدة الانمائي بقاعة الصداقة قبل شهرين تقريباً حددت الربط بمليار دولار إلا قليلا، وأموال مؤتمر المانحين بالنسبة لهم هدف مشروع، وحكومة السودان الأمر معها بين بين والأمل أن تصدق، وفي كل الأحوال فالمؤتمر حراك سياسي واقتصادي ضخم وهذه أهم مؤشرات النجاح .