«من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة». «قرآن كريم». (1) حين ييسر الله للانسان أمراً، فانه الامتحان: اما خير يعم بعلم أو مال أو كليهما أو بغيرهما، أو قبض لعلم أو مال او بغيرهما، ففي الاول قبول ونعمة وبشارة من لدنه تعالى- وفي الثانية حساب، مؤجل أو حال، على اثم سبق التذكير به، ولقد علمنا من سلوك اكثر اهل السودان من الذين خولهم الله المال، المبادرة والحماس والتواضع، فيما يقومون به، من اعمال كبيرة، ذات نفع للمجتمع، ودون ان نغمط الكثيرين، من اهل الاحسان حقهم، فيما قدموا لاهلهم وبلادهم، فاننا وفي معرض هذا المقام، نثبت نموذجا عصامياً لم ير فيما منحه الله من خير عميم، الا خيرا لاهله وللآخرين فما كان ما عنده، من اموال يخضع للاكتناز او البهرج، او السلوك، الرخيص، فقد كان الرجل ثاقب الفكر، وسامي الغرض، ونبيل المقاصد، هو فيما اورد البروفيسور عون الشريف قاسم، في موسوعته عن «القبائل والانساب» في السودان «ص: 0042» عبد المنعم محمد بن حسن بك عبد المنعم بن أحمد عمارة الفقيرة «وقبته بادفو» بن يس بن جبريل، والرجل 6981-6491م من مواليد ام درمان تمتد جذوره الى «صعيد مصر» في اسنا وقد بدأ العمل التجاري والوطني منذ عام 2191م فكان من اقطاب العمل الاقتصادي، ومن اوائل اعضاء مؤتمر الخريجين وانتخب عضوا في الهيئة الستينية في عام 9391م وكان من اقطاب الطريقة التجانية، واشتهر باعمال الاحسان والبر. وكان للرجل - رحمة الله عليه- في ذلك تميز واقبال وتدبير، ولقد نظرت في وصيته الشرعية التي خصني بصورة منها، الصديق الكريم البروفيسور معتصم الحاج مدير مركز محمد عمر بشير للدراسات السودانية بجامعة ام درمان الاهلية، فوجدت في الوصية ما يثير الاعجاب اعتمدت الوصية بتاريخ الثلاثاء 11 صفر 2631 الموافق 61 فبراير 3491م «لاحظ قبل ثلاث سنوات من وفاته» وامام ابراهيم مالك قاضي محكمة الخرطوم الشرعية وكان تاريخ الوصية 01 فبراير 3491- 2631م وشهد على اعتماد المحكمة كل من صالح افندي عبد الهادي، والشيخ الامين الفكي خوجلي، الكاتب بالمحكمة الشرعية، ويلاحظ انه في وصيته قد وضع في حالة عدم رزقه بذرية وهو ما حدث لاحقاً، انه اوصى ان تقوم المحكمة الشرعية العليا بالخرطوم بحصر كل ماله وعقاره وان تعتمد نصف «تركته» لحساب الخيرات والتي تراوحت بين مسجد للصلاة والتدريس، وخلوة لتدريس وتحفيظ القرآن الكريم، وداخلية لسكن طلاب المعهد الغرباء والعيادة او المستشفى بمدينة ام درمان، واكد على ان تجهز «العيادة» او «المستشفى» بالادوات اللازمة و«ان يكون العلاج فيها مجاناً». وصيانة استراحة مدافن البكري بام درمان، والصرف على الفقراء والمساكين بام درمانوالخرطوم والخرطوم بحري في كسوتهم والتوسعة عليهم في موسم شهر رمضان المعظم، سواء أكان ذلك في اوله او في آخره.. ومكافآت العشرين الاوائل من الطلبة حفظة القرآن الكريم في خلاوي ام درمانوالخرطوم والخرطوم بحري ومساعدة الخلاوي التي تتولي تحفيظ القرآن بهذه المدن ومساعدة الغرباء المسافرين المحتاجين لكي يصلوا الى بلادهم، ومساعدة زوايا التجانية بالسودان، والصرف على اثنين من اوائل طلبة السنة النهائية بمعهده لكي يتما علومهما خارج السودان سواء أكان التعليم دينيا او مدنيا، واعتماد نسبة مقدرة لحساب مصاريف العيادة او المستشفى.. والعمل على صيانتها ولم ينس تحديدا المحتاجين والمعوزين والمنكوبين والذين اخنى عليهم الدهر، ولقد فضل المحتاجين من اقاربه عند التوزيع، وحددت الوصية بدقة متناهية اللجان التي تتولى ادارة الوصية وسأل ان تكون جميع اعمالها حسبة لوجه الله تعالى لاتستحق عليها اجراً. (2) يورد الاستاذ التيجاني عامر أحمد في كتابه «ام درمان» طبعة مركز محمد عمر بشير - جامعة ام درمان الاهلية 2102 - ص 291 ما يلي: لا ينبغي ان نختم الحديث عن العلاج ومرافقه في «ام درمان» قبل ان نسجل للتاريخ مسيرة ابن ام درمان البار المرحوم عبد المنعم محمد الذي سجل في وصيته توزيع ثروته امرا بتشييد عدد من المراكز الصحية في احياء مختلفة في المدينة تشرف على ادارتها طبياً وزارة الصحة، وقد شيدت تلك المراكز في الخمسينيات قبل اعلان الاستقلال عام 6591م وكانت ام درمان في امس الحاجة الى خدمات المراكز الصحية تلك، وقد شيدت طبقا لخارطة اقرتها لجنة اوقاف عبد المنعم، بتوصيات وزارة الصحة، ولقد ادت تلك المراكز الصحية دورها المطلوب تماما، فذهب اليها غير القادرين من الذين احس عبد المنعم محمد. رحمه الله . بمسؤوليته الدينية والاخلاقية تجاههم ولقد ارتفعت اكف هؤلاء ضراعة لله ان يسكنه فسيح جناته ، وكم شهدنا الاسر الام درمانية وهي تمضي زرافات ووحدانا، تطلب العلاج الاولى او ربما النهائي، من المساعدين الطبيين فقد كانوا على قدر من المهنية العالية والاخلاق الفاضلة، وكانت المراكز في حي الهجرة بام درمان وحي العرب وحي الاستبالية، تمثل اذرعا اساسية لمستشفى ام درمان الكبير، وشكلت في كل الاحوال ضرورة استراتيجية لتغطية حاجة العلاج الاساسية، وهي حق انساني ضمن حقوق العدالة الاجتماعية لا ينبغي ولا يجوز ان تغيب عن سياسة او التزامات اي دولة تحترم حقوق مواطنيها، وما قدمته تلك المراكز يشكل عملاً اجتماعيا متقدما سبق فيه المجتمع الدولة بالفعل ، ولقد يبدو غريبا جدا، ان تتراجع همة الدولة او بالاصح الحكومة في ان تغطي علاجا مجانيا او رمزياً، لمواطنيها من الفقراء علما بان من اهم معايير التنمية البشرية في العالم هي تقديم العلاج، وما يترتب عليه من نتائج ومؤشرات بل ان تقرير التنمية البشرية 0102م الصادر من برنامج الاممالمتحدة الانمائي قد صنف السودان ضمن معدلات التنمية البشرية المنخفضة في مجال الصحة، واذا كنا نقدر مجهودات وزارة الصحة في دأبها، على توفير العناية الصحية للمواطن - كحق انساني والتزام ديني - يسبق غيره من أسباب الرفاه، فاننا ومن واقع المعايشة نسجل قلقاً بلا حدود عن ظاهرة ابتعاد حتى العلاج من امكانات أغلب أهل السودان الأمر الذي أدى ويؤدي إلى زيادة معدلات الوفيات، وان يصل الأمر إلى حجز جثث الموتى رهناً لما تبقى من قيمة العلاج. يبدو الأمر مزعجاً تماماً ان يتحول العلاج في هذا الوطن إلى (تميز) لا يطاله غير قلة قليلة، ورحم الله أهل الاحسان من ذوي الحس المتقدم باتجاه المسؤولية الدينية والاجتماعية. ولقد سبقوا الدولة والحكومات فعلاً ويبدو أن المسألة في ظل ذلك السيناريو الغريب محتاجة لاعادة النظر في جوهر السياسات التي هزمت كثيرا من قيم المجتمع وشكلت مدخلاً للغبن الاجتماعي والأسئلة المشروعة. (3) تداعى لي السيناريو أعلاه بعد أن دفع لي أخي محمد حسن الحواتي عضو مجلس أمناء مركز صحي عبد المنعم محمد بالهجرة، ورئيس لجنة الاعلام فيه مجموعة الوثائق الخاصة بخطوات المجلس الرامية إلى اعادة المركز إلى حيز العطاء المطلوب، والخروج به من دائرة العجز والشلل إلى آفاق الفعل، وهي عملية مرهقة ومعقدة ولكنها مطلوبة بأكبر قدر ممكن من الفعالية والكفاءة، ويبدو لي ان أعضاء المجلس وبحكم معرفتي الشخصية لكثير منهم، قادرون على مثل ذلك العطاء، بكل شفافية وتجرد. عقد المجلس اجتماعه الأول في يوم الاثنين 13 فبراير 2012 واختار قيادته ولجنته التنفيذية والمكتب ذلك بعد عدد من الخطوات الايجابية اللازمة. - الاجتماع بناظر ولجنة أوقاف عبد المنعم محمد. - اجتماع تفاكري مع معتمد أمدرمان (ضم أهل الحي). - الحصول على نموذج خريطة مرجعية لمركز صحي من وزارة الصحة الولائية (30 خارطة لجميع التخصصات). - توثيق حالة المركز الحالية المتدنية. - تولت وزارة الصحة الولائية (القسم الهندسي) تقدير التكلفة المطلوبة والتي بلغت 1.247.290. - فتح حساب ببنك الجزيرة السوداني - الأردني بالخرطوم. تشمخ (أوقاف المرحوم عبد المنعم محمد) في أحياء أمدرمان التي ولد وترعرع فيها وهي تقدم نموذجاً، فيما سبق الاشادة للاحساس النبيل بقضايا البشر الأساسية، وإذا كان (مركز الهجرة الصحي). قد تآكلت بنيته وترهلت مبانيه وتراجع عطاؤه فإن الموقف الاجتماعي الصحيح هو التصدي الناجز لاعادته لأداء دوره بما يواكب العصر من علم وقدرات هو ما يسعى له مجلس أمناء المركز. ان بعض الملاحظات تبدو مهمة جداً في خطاب مجلس الأمناء، وهو ضرورة الاحصاء التطبيقي لعدد المستفيدين من الخدمة حال عودة المركز إن شاء الله وما يترتب على ذلك من نتائج كلية على قضية الصحة العامة ، وكان من المهم قبل ذلك توفير المعلومات اللازمة عن بداية عمل المركز وما قدمه من أعمال بالتفصيل الممكن، ومن باب التوثيق الذين خدموا فيه من أطباء ومساعدين طبيين وصيادلة وممرضين وفراشين وفراشات. وبعد فان المسألة كوعي اجتماعي متقدم وضرورة استراتيجية تستحق النظر من الأخ عبد الرحمن الخضر والي ولاية الخرطوم والبروفيسور مامون حميدة وزير الصحة الولائية، ولعل المسألة قبل ذلك كله رهينة بدعم أهل الخير والاحسان من أهل السودان بصفة عامة وأهل أم درمان بصفة خاصة وهو باب عرفه السودانيون وأبلوا فيه بلاءً حسناً. ورحم الله المحسن الكبير عبد المنعم محمد رحمة واسعة وجعل الجنة مثواه. ملاحظات غير عابرة ٭ مساء الثلاثاء 9 ابريل 2013 أتيح لي أن أشهد برنامجين أولاهما على تلفزيون ولاية الخرطوم والثاني على تلفزيون النيل الأزرق، ناقشا موضوعاً واحداً هو دور أجهزة الشرطة في تحقيق أمن المجتمع من مظاهر التفلت الاجرامي الذي سجل حضوراً مستمراً - ونوعياً - في عدد من أحياء ومدن ولاية الخرطوم. وقد استطاعت الأستاذة نسرين النمر أن تقدم بمهنية إعلامية وقانونية عالية نموذجاً (لتحقيق مؤدب ودقيق) من خلال ثلاثية - دور الشرطة - والعمل الاجتماعي والقانوني -: كانت مرافعة (متقدمة) أتاح لها الشهود ممن الذين تعرضوا للاعتداءات المزيد من وضوح الرؤية. وبين حديث (الفريق أول هاشم) مدير عام الشرطة - (تلفزيون ولاية الخرطوم) وقد حذفت مقدمة البرنامج - دورها تماماً - فيما قدمت من أسئلة شجاعة، وبين نتائج (التحقيق) الذي نفذته (الأستاذة نسرين النمر) في تلفزيون النيل الأزرق - تساؤل.. مازال يبدو ملحاً... - متى يستطيع المواطن تجاوز بيروقراطية الاجراءات في الضرب وبقوة على (بؤر) الجريمة المتطورة.. إن بطء الاجراءات يبدو محبطاً عاماً.. التحية لمقدمتي البرنامجين .. شغل نضيف خالص!! - هل يقدم بعض أطباء أم درمان من أهل التخصص المتقدم يوماً مجانياً مفتوحاً (كمركز عبد المنعم محمد الصحي) بالهجرة يمثل ذلك اليوم مدخلاً لتدشين بدايات اعادة تأهيل المركز.. لماذا لا يقدم أهل الحي كذلك مهرجاناً رياضياً بذات الفهم. - بمناسبة (العناية الصحية) أعجبني جداً كتاب الدكتور (ه/س/ سكويرز) بعنوان: (الخدمات الطبية في السودان، تجربة في طب المجتمع) الذي قدم له الدكتور علي بدري وترجمه كل من الأستاذة ليلى ابراهيم سليمان والدكتور يس عبد الرحمن. فقد جاء في صفحة 41 بعنوان (الزبير باشا والملاريا) توثيق علمي لموت الباشا "في السبت الرابع من يناير 1913، اتصل بي سلاطين باشا وأخبرني أن الزبير مريض في منزله بالجيلي وأن الحاكم العام يريد تقريراً عن حالته.. لم أصل هناك (الجيلي) إلا بعد الساعة الرابعة.. شققت طريقي وسط جمهرة الجيران والأهل المنتظرين.. وتم ارشادي إلى مبنى طيني كبير وأدخلت إلى غرفة واسعة كان بها قليل من الأثاث، كان هناك سرير أوربي من النحاس تم نزع لحافه الذي وضع على الأرض، كان الزبير مستلقياً عليه وبجانبه ركعت امرأتان، الأولى لونها فاقع ناضجة وذات كبرياء، والثانية فتاة صغيرة ربما في الثامنة عشرة من عمرها.. (تُرى من هما يا ناس الجيلي): تاريخ مرض الزبير بدأ بعد استحمامه بالنهر قبل أيام قليلة، إذ شعر ببرد قارس ، وبعد نقله إلى الجيلي أصبح فاقداً للوعي... أخذت عينات من الدم وأعطيت تعليمات مبسطة بخصوص العلاج... أبرقت الحاكم العام عند عودتي (للنش) الساعة 30:6.. أبرقت الحاكم العام ان حالة المريض حرجة... قمت بارسال فلم الدم للمعامل واتصل بي تلفونياً (اندرو بلفور) ليبلغني بوجود عدوى بالغة بطفيليات (ملاريا) الربع. وبعد قليل وصلني تقرير بأن هناك عدوى مزدوجة بوجود الطفيليات الثلاثية الخبيثة بهيئة حلقات وبهيئة أهلة... تم فوراً ارسال طبيب ضابط سوري ومعه دواء الكينين وعقاقير أخرى ولكلن جهوده لم تثمر ومات الزبير بعدها بيومين".. ولعل هذه مناسبة لمعرفة مدى كتابة كبار أطبائنا من السودانيين لمذكراتهم.. - ماتزال الدعوة قائمة.. لاحياء سنة المراكز الصحية.. فهي أوفى أجراً عند الله من الأبراج.. وما يزال وقف عبد المنعم محمد في الهجرة ينتظر الأيادي الخضراء.. والعقول النيرة.. ويبدو الباب مفتوحاً للاسهام النبيل.