٭ نعم الموت حق والحياة باطلة، ولا حول ولا قوة إلا بالله. ٭ فجعت، كما لم أُفجع من قبل، ولم أصدق محدثي وهو يقول لي عبر الهاتف: (كمال حنفي اتوفى الآن)، وصرت كالمجنون أردد: معقول.. معقول.. معقول!! ٭ وكمال حنفي، يعرفه القراء (الخاصة والعامة)، من خلال عموده اليومي (إلا قليلا) بالزميلة (الرأي العام). ٭ وهو العمود الذي تفوق على غيره من الأعمدة في الصحافة السودانية، من ناحية نوعية الكتابة، وطريقة سردها، وعناصرها التشويقية، وعمقها المعرفي، وصبغتها الثقافية، وموضوعيتها وبعدها عن الأنا الضيقة. ٭ ومن الواضح، أن الراحل العزيز كمال حنفي، كان يتعامل مع كتابة العمود ب (مسؤولية ومحبة)، ويبذل جهداً مضاعفاً في اختيار فكرته (التي تركزت حول الخاطرة الذكية والالتفاتة اللمّاحة والتعليق الساخر). ٭ وكان معنياً (بعيداً عن الكتابة المجانية)، بأن تكون كتابته ثرة وغنية ووارفة الظلال، فثمة بُعد معرفي فيها، واستشهادات بمقولات لمفكرين وكُتاب عالميين، وتوظيف لقراءات وبحوث ودراسات. ٭ ومع التزامه السياسي الواضح، كانت كتابته في المجال السياسي ناقدة وساخرة أحياناً، ولم تكن في كل الأحوال (هتافية) ومباشرة أو مستهلكة. ٭ وكان يغوص، بقلمه، في الروح الوطنية محاولاً استنهاض الكامن فيها من أجل وطن يسوده السلام وينعم بالحرية. ٭ تعرفت على العزيز الراحل، إبان الدراسة بجمهورية مصر العربية، كان واحداً من رموز الحركة الطلابية وقادتها المتميزين، وكنا في ماعونين سياسيين مختلفين، ولعل هذا ما زاد في قوة العلاقة بيننا وتمتينها، وإكسابها صلابة فوق صلابتها. ٭ وما زلت أذكر زيارته المتكررة لنا، في مصر الجديدة، وما كان يدور من نقاش وحوار. كان حنفي من أبناء (البعوث)، وكنا من أبناء الشقق المفروشة في مصر الجديدة، وكان في كل زيارة يضيف مفارقة وتعليقاً ومقارنة بين (مدينة البعوث) وشقق مصر الجديدة المفروشة، وكان يعترف لي بأنه يحب السكن في الشقق المفروشة، لكن البعوث تمنحه (الهدوء) و(الاختلاء بالنفس).. وكنت أضيف من عندي (سانحة وسلامة العمل التنظيمي). ٭ وأذكر أننا التقينا مرة في (ميدان التحرير)، فاقترح علىّ أن نكتب اسمينا في واحد من حوائطه الاسمنتية، من باب الذكرى والتاريخ.. كان دائماً مهيأً لاقتراح جديد، وفكرة رشيقة، ونظرة بعيدة، وخيال آخاذ. ٭وكنت كلما التقيه، إلى حين رحيله، أتفرس في نبله وسماحته وعلو تهذيبه، وكنت دائماً و(منذ أيام مناكفات أركان منشية البكري)، أقول له: براءتك تخفي تحت قشرتها لؤلؤة صلبة، وتظاهرك بالقسوة يكشف عما في داخلك من طفل وديع.. فيكتفي بالابتسامة. ٭ ومع التزامه السياسي الواضح، كان د. كمال حنفي رمزاً من رموز الحقل الثقافي الطالبي، وترأس مجلة (الثقافي) التي كانت تصدر عن المستشارية الثقافية لسفارة جمهورية السودان بالقاهرة، بتحرير كامل من الطلاب. ٭ بدأ كمال حنفي، حياته الدراسية بكلية الهندسة جامعة المنصورة، ثم اختار دراسة الطب في جامعة الأزهر، وفي تقديري أن الراحل كمال حنفي، من القلائل الذين استفادوا من دراساتهم الأكاديمية في الكتابة الصحفية. ٭ مات حنفي، في عز الكتابة، عموده كان موجوداً أعلى الصفحة الأخيرة في الزميلة (الرأي العام)، في ذات الصباح الذي فارق فيه الحياة. ولهذا لا أملك إلا أن أودعه بيد، هدها إعياء الكتابة، وبمنديل مبلل، غارقة خيوطه في الدم والدمع معاً. ٭ فإلى جنة الخلد.. كمال حنفي.