د. صلاح محمد إبراهيم: في كثير من الأحيان يطلب مني العديد من الأصدقاء السياسيين والصحافيين أن أكتب عن حادثة شريط الكاسيت المعروفة التي هزت الساحة السياسة والصحفية خلال فترة الديمقراطية الثالثة بعد انتفاضة عام 1985م التي أزاحت النظام المايوي، باعتباري أحد شهود الحدث، وأنني كنت طرفاً فيه من خلال موقعي في وظيفة رئيس التحرير الفعلي لتلك الصحيفة، التي كان يتصدر واجهتها السيد خالد فرح عبد الرحمن بناءً على ترتيبات تم الاتفاق عليها مع مجلس الصحافة في ذلك الوقت وأمينه العام المرحوم سيد المعتصم بسبب إصراري على الاحتفاظ بوظيفتي الأكاديمية بحجة أن العديد من أستاذة الجامعات من أطباء ومهندسين ومحامين يجمعون بين الوظيفة المهنية والأكاديمية في العديد من دول العالم. وفي السودان مثلاً يمارس أساتذة كلية الطب العمل المهني من خلال عياداتهم أحياناً في فترات صباحية ومسائية، وكذلك المهندسون، ولا أدري لماذا توجد مادة في قانون الصحافة تشترط التفرغ لرئاسة تحرير الصحيفة، لأن ذلك يحرم العديد من الأكاديميين من ممارسة المهنة، ففي الدراسات التطبيقية ومنها علم الصحافة ليست هناك مسافة فاصلة بين المهني والأكاديمي، وفي عصر الشبكة العنكبوتية الذي تدار فيه الصحيفة بلمسة زر بين رئيس التحرير وكل أعضاء هيئته داخل وخارج مقر الصحيفة، يستطيع رئيس التحرير ممارسة دوره والاتصال بالمحررين من غرفة نومه، حتى إذا ما كان المحرر في النصف الآخر من العالم. والحقيقة أن حادثة شريط الكاسيت تعتبر من الأعمال الصحفية التي امتزج فيها عمل الاستخبارات مع العمل الصحفي، وهو تداخل ليس غريباً في عالم الصحافة، فهناك في الواقع علاقة حميمة وقوية بين الصحافة وأجهزة الاستخبارات في مختلف دول العالم خاصة في الولاياتالمتحدةالأمريكية، إذ تتغلغل وكالة الاستخبارت المركزية (A.I.C) في كبريات الصحف ببث عيونها وأحياناً توظيف كوادرها، كما تسعى الصحف والصحافيون إلى عقد صداقات مع عملاء وموظفي الأجهزة الاستخباراتية، لأن المهنتين تشتركان في سلعة واحدة هي سلعة المعلومات والتأثير في الرأى العام. لذلك تعتبر واقعة شريط الكاسيت وغيرها امتداداً وإفرازاً طبيعياً لمثل هذه العلاقات المتشابكة والمعقدة، بل والخطرة في كثير من الأحيان. وفي تاريخ الصحافة العديد من الأحداث المهمة التي كانت تسريباً استخباراتياً، ولعل أشهرها حادثة فندق «ووتر جيت» في واشنطن التي تنصت فيها الحزب الجمهوري على المحادثات الهاتفية لمؤتمر الحزب الديمقراطي الذي كان يعقد جلساته في الفندق قبل انتخابات الرئاسة الأمريكية خلال فترة رئاسة ريتشارد نيكسون الذي ينتمي للحزب الجمهوري، ومعروف أن الحادثة قد انتهت بإجبار الرئيس نيكسون على التنحي بعد تهديده بالمحاكمة أمام الكونجرس Impeachment بعد أن ثبت ضلوعه وبعض معاونيه في البيت الأبيض في عملية التجسس والتنصت من على البعد باستخدام أجهزة تنصت متقدمة. وأبطال القضية هما الصحافيان الشابان بوب ودورد وكارل برنستاين اللذان تحصلا على المعلومات التي فضحت التنصت من عميل في وكالة التحقيقات الأمريكية المعروفة باسم (I.B.F) وأطلقا عليه لسم الحلقوم الكبير أو العميق (Deep Throat)، ولم يتم الكشف عن اسمه الحقيقي (William Mark Felt) إلا بعد حوالى ثلاثين عاماً من واقعة فندق «ووتر جيت» التي شغلت كل العالم خلال الفترة من 1972 1974م. وحدثت واقعة شريط الكاسيت في السودان خلال الفترة التي كان يتولى فيها جهاز الأمن اللواء عبد الرحمن فرح في حكومة الصادق المهدي، وهو في نفس الوقت شقيق السيد خالد فرح مالك وصاحب جريدة «السياسة»، والمعروف أن تلك الفترة جاءت بعد حل جهاز أمن الدولة الذي أسسه النظام المايوي، وهي فترة اتسمت بالتفلت الأمني وضاعت فيها العديد من الملفات الأمنية، وأيضاً فقدت فيها البلاد العديد من العناصر الأمنية ذات الكفاءة والتدريب المتقدم. وفي صباح يوم حادثة نشر شريط الكاسيت التي تصدرت الصفحة الأولى من الصحيفة، كنت قد تعمدت الغياب عن الصحيفة لمدة عشرة أيام بعد أن شعرت بأن جفوة بدأت تنمو بيني وبين السيد خالد فرح، ولاحظت أنه كان يتجنب التردد على مكتبي بالصحيفة دون سبب واضح، إلا أن يكون أحدهم قد نقل له شيئاً عني، وتحاشيت أن أساله وفضلت الانسحاب بهدوء لأنه أصلاً لم يكن يربطني عقد مكتوب مع الصحيفة، فقد كنت أحضر يومياً إلى المقر الذي انطلقت منه الصحيفة في «عمارة الإخوة» أنا وزميلي البروفيسور عبد الرحيم نور الدين الذي عمل في صحيفة «الأيام» قبل التحاقه بالجامعة ونجتهد في الإعداد لإصدار الصحيفة لأكثر من نصف عام في التخطيط واستقطاب كل العاملين في الصحيفة دون أن نتقاضي عن ذلك أجراً، ولم تصلني مكافأة شهرية من الصحيفة إلا بعد صدورها وتحقيقها لإيرادات عالية. وفي ذلك الصباح كنت أجلس بمكتب زميل الدراسة وصديق العمر كمال إبراهيم خليل المحامي ب «عمارة مراد» المعروفة باسم «عمارة المحجوب» رئيس الوزراء الأسبق، وهي عمارة تضم بعض كبار المحامين مثل المرحوم محمد يوسف محمد والمرحوم جلال علي لطفي وإسحاق القاسم شداد، وفجأة دخل علينا الأخ إسحاق شداد المحامي وقال لي ما هذا الذي نشر بصحيفتكم اليوم؟ فقلت له أنا لم أقرأ الصحيفة بعد لانني متغيب عنها منذ فترة، فذهب إلى مكتبه وأحضر الصحيفة، وفوجئت بصورة الشريط منشوراً في صدر الصحيفة، ومعروف أن الشريط كان يحتوي علي حوار مزعوم دار بين وزير الداخلية آنذاك وقنصل دولة عربية شقيقة كما جاء في الشريط. وذكرت لكل من الأخوين كمال وشداد أن كل ما أعلمه عن الشريط هو أن هذا الشريط قد تم عرضه بواسطة السيد خالد فرح والأستاذ عبد الوهاب محمد عبد الوهاب «بوب» المحامي على الأستاذ أبو بكر وزيري الذي كان يشغل موقع مدير التحرير، وكان يقوم فعلياً بمهام رئاسة التحرير خلال فترة غيابي، وقال إنه لا يؤيد نشر محتويات هذا الشريط لسبب بسيط، لأنه لم يأت نتيجة لجهد صحفي مهني معلوم لدى الصحيفة، وأن مصدره مجهول لدى الصحيفة أو الصحافيين العاملين بالصحيفة، وكان وزيري قد أخبرني خلال زيارة لمنزلي قبل يومين من نشر الشريط بوقائع لقاء تم بينه وبين السيد خالد فرح والمحامي عبد الوهاب «بوب» تم فيه استعراض مادة الشريط، وذكر لي رأيه المهني وأيدته في ذلك، لأن وزيري طراز مهني رفيع، وهو من السودانيين القلائل الذين درسوا الصحافة في معهد طمسون البريطاني المرموق، ولكن يبدو أن ناشر الصحيفة كان له رأي آخر واتخذ قرار النشر منفرداً، وهكذا تم نشر الشريط الذي أثار الزوبعة، وكان موقف الأخ وزيري موقفاً مهنياً وأخلاقياً لأن محتوى الشريط كان يجرم شخصية سياسية معروفة دون أن تملك الصحيفة سنداً قانونياً أو مصدراً معلوماً يؤكد صحة المعلومات التي كانت توجد في الشريط، وتعتبر من الناحية المهنية معلومات لم يتم التحقق منها أو لم يتم فحصها أو غير قابلة للإثبات (Unverified)، وفي حقيقة الأمر لم يكن الأمر يتعلق بتكذيب أو نفي ما ورد في الشريط، ولكنه كان يتعلق بسلوك مهني رفيع يجب أن يلتزم به كل من يعمل في مهنة الصحافة، كما أن الصحيفة لم تكن في حاجة لمادة إثارة حتى تروج لنفسها، فقد كانت توزع رقماً قياسياً في ذلك الوقت «80000 نسخة يومياً داخل السودان و 7000 نسخة يومياً خارج السودان». والبعض حاول أن يربط بين تسريب الشريط وعلاقة صاحب الصحيفة بشقيقه الذي كان يرأس جهاز الأمن في ذلك الوقت، ولكنني للتاريخ لا أملك سنداً أو دليلاً على ذلك، وربما أستبعد مثل ذلك الأمر لأنه لا يتفق مع طبيعة وسلوك ومزاج السيد اللواء عبد الرحمن فرح، وربما وصل الشريط لعلم الصحيفة نتيجة لحالة التفلت الأمني ووجود العديد من العناصر المنتشرة في ذلك الوقت، والذين فقد العديدين منهم عملهم ووظائفهم، ويبدو أن نشر الشريط كان لتحقيق غرض سياسي في تلك الأيام الملتهبة بين الأحزاب، وبالنسبة لي كان الأمر يعتبر مغامرة كبيرة لا تليق بصحيفة محترمة وكبيرة استطاعت أن تحقق سمعة وتكتسح سوق الصحافة في فترة قصيرة بفضل المهنية العالية التي توفرت لها، وقد تسبب نشر الشريط في استقالة كل من رئيس ومدير التحرير ورئيس قسم الأخبار المرحوم توفيق صالح جاويش ومعاونيه من الصحيفة، على الرغم من الرواتب العالية بمقياس ذلك الوقت التي كانوا يتقاضونها، لأنهم اعتبروا قرار النشر لا يتفق مع مبادئهم المهنية. وتركت الصحيفة بعد تلك الحادثة، وكان لا بد من إيجاد عمل للصحافيين الذين خرجوا من صحيفة «السياسة» بسبب مبادئهم، وحاولنا بإمكانيات ورأس مال ضعيف تأسيس صحيفة جديدة مع بعض الأصدقاء، ولم يكتب لها النجاح بسبب مشكلات مالية وخلافات بين الشركاء. فضيحة «ووتر جيت» كانت عملاً صحفياً مهنياً من الدرجة الأولى، فعندما وصل الخبر إلى علم السيدة كاثرين جراهام (Catherin Graham) ناشرة ومالكة صحيفة الواشنطن بوست المعروفة تحققت من كل من ودورد وبرنستاين عن علاقتهم بمصدر الخبر، وأكدا لها أن هذا المصدر لا يكذب وأنه مصدر ثقة ولهم علاقة مستمرة معه، وكانا يتحدثان عن خبرة وتجارب عن أخبار عديدة كان هو مصدرها، وتأكد لها صدق ودقة المعلومات عندما اتصلت بالمدعي العام جون ميتشل وأحد معاوني الرئيس نيكسون جون أرليكمان، وشعرت أنهما يخفيان شيئاً وأثار ذلك الشكوك فيها، وهذا هو موضع الخلاف بين حادثة «ووتر جيت» وحادثة شريط الكاسيت التي كان فيها صاحب «الحلقوم العميق» غائباً لذلك لم يأخذ بها وزيري.